تواصل معنا

نشأته ونهوضه وُلد محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا من سلالة ألبانية ببلدة «قَوَلَة» أحد المواني الصغيرة التي على الحدود بين تراقية ومقدونية عام (١١٨٣ﻫ/١٧٦٩م)،...

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,245
مستوى التفاعل
2,652
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر

نشأته ونهوضه

وُلد محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا من سلالة ألبانية ببلدة «قَوَلَة» أحد المواني الصغيرة التي على الحدود بين تراقية ومقدونية عام (١١٨٣ﻫ/١٧٦٩م)،


تُوفِّي والده إبراهيم أغا وهو في سن الطفولة، فتولى أمره عمه «طوسون»، غير أن هذا وافته منيته بعد مدة وجيزة، فقام بأمر تربيته أحد أصدقاء والده،
وقد تبنَّاه وعُني به حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، فتعلم طرفًا من الفروسية واللعب بالسيف، ثم زوَّجه إحدى قريباته، وكانت من ذوات اليسار.
وخدم حاكم قولة، واكتسب رضاه بما كان يأتيه من ضروب المهارة والحذق في جباية الأموال من القرى المجاورة التي كانت لا تؤدي ما عليها إلا بالشدة واستعمال القوة الجبرية،
وأعانته ثروة زوجته على الاتجار في الدخان، فاصطحب المسيو «ليون» أحد صغار التجار — ويغلب أنه كان وكيلًا لأحد المحال التجارية بمرسيليا مسقط رأسه
— وشاركه في الاتجار في هذا الصنف، فلم تَعُدْ عليه هذه التجارة بالأرباح الطائلة، إلا أنه استفاد فائدة جمة من مرافقته للمسيو «ليون»؛
فاكتسب منه كثيرًا من العادات والآداب الفرنسية التي تركت في نفسه أثرًا عظيمًا، وساعدته مساعدة كبيرة في بقية أطوار حياته.

هذا كل ما رواه التاريخ من سيرته الأولى، وهو يحملنا على أن نترك الثلاثين سنة الأولى من تاريخ حياته صحيفة بيضاء؛ وذلك أمر لا بد منه لمن نشأ في بلدة صغيرة لم تكن ذات شأن كبير من قبل.

وقبل أن نشرح طريقة استيلاء محمد علي على الديار المصرية وإبادته للمماليك يجب علينا أن نصف حالة الدولة العثمانية في إبَّان شبابه، حتى يتمكَّن القارئ من الوقوف على سر نجاحه: كانت الدولة العثمانية إذ ذاك مكوَّنة من عدة شعوب مختلفة، ذوي أديان متباينة ونِحَل متضادة؛ مما طرَّق إليها الضعف، وأدخل عليها الوَهَنَ والاختلال الذي كاد يبلغ أقصاه في عصر محمد علي؛ إذ قد بدأ في عهد صغره أمر «علي باشا والي يانينة»، وهو أيضًا من الألبانيين: أولئك القوم الذين فتحوا الشرق بقيادة الإسكندر، واستوطنوا مصر في عهد البطالسة، وهدَّدوا رومية في زمن بيروس. خرج ذلك الرجل على دولته، فنكث فَتْلها، وأقلق بالها، واستقل بأمر ألبانيا مدة خمسين عامًا انتهت بقتله غِيلة سنة (١٢٣٧ﻫ/١٨٢٢م).

وكانت كذلك جميع أجزاء الدولة مفككة العُرى ثائرة على الباب العالي؛ فمصر والأناضول وسورية كلها كانت في فتن وقلاقل، وبلاد العرب مع الدولة في حرب عوان، وكانت الولاة في يانينة وبغداد كأمراء مستقلين، واستقلَّ بالفعل في عكاء أحمد باشا الجزَّار، وشرع يحذو حذوه معظم ولاة الدولة، ووقف دولاب أعمال الحكومة الداخلية جملة، وكان الجيش مؤلفًا من رعاع الناس وسِفْلَتهم، وكان السلطان أشبه بسجين أو ألعوبة في يد وزرائه وعساكره الإنكشارية، وكان الباب العالي مكوَّنًا من فئة الوزراء الذين يتهددهم الخطر في كل لحظة؛ فقد كان كلٌّ منهم يتحيَّن الفرص لاغتيال زميله، أو للسعي في عزل السلطان وتولية غيره؛ ليكون هو الصدر الأعظم الجديد.

تلك كانت حال الدولة بالاختصار في شبيبة محمد علي، ومنها يسهل تفهم أطوار حياته وعلاقته مع الدولة. وبالرغم من كل هذا كان عامة مسلمي الدولة مُطيعين خاضعين للسلطان من آل عثمان؛ لأنه خليفة رسول الله ﷺ والإمام الواجب تنصيبه دينًا، ولو لم يكن له من الأمر شيء. بخلاف الوزير أو الوالي اللذَين لم يكن كلٌّ منهما في نظرهم إلا فردًا من رجال الحاشية توصَّل إلى مركزه السامي بالحظوة أو الرشوة؛ لذلك نرى أن كل الفتن والقلاقل في ذلك العهد كانت نتيجة المنافسة القائمة بين حكام الأقاليم ورجال الباب العالي، وأن فوز أحدهم بأمنيته كان متوقفًا على حسن الحظ والإقدام والخداع، لا على الكفاءة الشخصية والمواهب الطبعية.

بلغ محمد علي الثلاثين من عمره عام (١٢١٢ﻫ/١٧٩٨م)، وكان لا يزال في مسقط رأسه بين أولاده الثلاثة: إبراهيم وطوسون وإسماعيل. وقد ذكرنا أن تجارة الدخان لم تَعُدْ عليه بربح طائل؛ لذلك كان ميالًا للاحتراف بمهنة أخرى، فلم يلبث إلا قليلًا حتى دخل في طور جديد من أطوار حياته، والسبب في ذلك يرجع إلى الحملة الفرنسية على مصر.

وذلك أنه في (سنة ١٢١٣ﻫ/عام ١٧٩٩م) أعلن الخليفة الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر، فأصدر الأوامر بجمع الجيوش من أنحاء الدولة، فجمع حاكم قولة «الشربجي» فرقة عددها ٣٠٠ من الجنود المتطوعين —الباش بُزُق — بقيادة ابنه «علي أغا»، ورافق محمد علي هذه الفرقة وكيلًا له عليها، فتوجهت بطريق البحر إلى الدردنيل، ومن ثَمَّةَ انضمت إلى عامة الجيش في جزيرة رودس.

ولما وصل الجيش إلى ميناء بوقير من الديار المصرية التحم بالجيش الفرنسي، فكانت الدائرة على الترك، واضطرهم الفرنسيون إلى الالتجاء لسفنهم وسفن الإنجليز المرافقة لها بعد مذبحة شنيعة. وكان محمد علي قد أشرف على الغرق لولا أن قيض الله له «السير سِدْني سِمث» فانتشله من الماء بيده وأنزله في سفينته.

وبعد ذلك رجع محمد علي إلى بلدته، ثم عاد سنة (١٢١٥ﻫ/١٨٠١م) مع جيش «القبطان حسين باشا» الذي جاء ليساعد القائد الإنجليزي «أبِرْكُرومبي» على إجلاء الفرنسيين. ومن هذا الوقت بقي في مصر حتى صار واليًا عليها.

وقد نال إعجاب قائده والقوَّاد الإنجليز بما كان يأتيه من ضروب الشجاعة وشدة البأس عند هجومه على حصن الرحمانية؛ إذ دخله عنوة بعد أن اضطر القائد الفرنسي إلى إخلائه؛ وكان هذا سببًا في رقيه إلى رتبة قائد في الجيش.

 

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,245
مستوى التفاعل
2,652
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر
بعد إخلاء الحملة الفرنسية البلاد ورجوعها إلى فرنسا ابتدأت جماعة المماليك تشْرئبُّ أعناقها لأن تقبض على زمام الأمور في البلاد كما كانت من قبل، في حين أن الباب العاليَ كان يطمح إلى طرد المماليك من الديار المصرية، واسترجاعها بعد أن اغتُصبت منه مدة من الزمان، لكن المقادير جاءت بعكس ما أمل الفريقان؛ إذ أراد الله أن تكون نصيبًا لمحمد علي.
بدأ النزاع بين الباب العالي والمماليك عندما أراد الأول أن يستقل بالسيادة في مصر، فاستخدم للتغلب عليهم طريقة غير مقبولة؛ وذلك أن القبطان حسين باشا دعا البكوات العظام من حزب مراد بك إلى معسكر بوقير، بعلَّة التفاوض معهم في صيرورة حكومة مصر، فكان معظمهم غير مرتاح البال إلى هذه الدعوة، إلا أن خوفهم من نزع السلطة كلها من أيديهم حملهم على تلبيتها، وطَمأن خاطرهم قربُ معسكر القائد «هتشنسون» الإنجليزي.
قابلهم الباشا القبطان بتهلُّل واستبشار وأكرم مثواهم، ثم دعاهم إلى ركوب زورق له لزيارة القائد الإنجليزي، بحجة أنه يريد أن يتفاوض معه أيضًا، ولما بعدوا عن الشاطئ قليلًا لحقه زورق يحمل بعض الأوراق، فاستأذنهم ليقرأها على انفراد وترك الزورق بمن فيه من البكوات؛ فظهر لهم عند ذلك أنه يريد بهم سوءًا، فأمروا النواتي بالرجوع فامتنعوا وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا ثلاثة وجُرح عثمان بك البرديسي واثنان آخران، فلما علم القائد الإنجليزي بذلك استشاط غضبًا، فاعتذر له الباشا القبطان بأسباب واهية. وفي الوقت الذي حدثت فيه تلك الحادثة عند ساحل البحر كانت تمثَّل الرواية نفسها في القاهرة، وقد احتمى معظم من بها من البكوات بالمعسكر الإنجليزي فيها، فأسعفهم القائد «رَمْزي» رغم إلحاح الصدر الأعظم في تسليمهم إليه؛ فكانت هذه الحادثة مدعاة إلى اشتعال نيران الحقد في صدور المماليك، وقد زادها لهيبًا جعل «محمد خُسْرُو» مملوك الباشا القبطان واليًا على مصر في (ربيع الأول سنة ١٢١٦ﻫ/يوليو سنة ١٨٠١م)؛ حصَّل له القبطان ذلك المنصب بتوسط الصدر الأعظم يوسف باشا لدى الباب العالي.
ويُعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية من أشهر رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حُظْوة عظيمة لدى السلطان، وقد خاصم محمد علي مدة نصف قرن كان في أثنائها عدوَّه المبين لأسباب سنذكرها في موضعها. وكان من الذين يُعتدُّ برأيهم في جسام الأمور ومعضلات السياسة كما سيجيء، ولا يُعزَى فشلُه في مصر إلى قلة الذكاء والشجاعة، بل لأنه ابتدأ حروبًا داخلية في وقت كانت فيه خزانته خلوًا وجيشه غير مدرب، على قوة عظيمة من فرسان المماليك الذين كان في قبضتهم خيرات البلاد وفيضُها.
ومن العبث أن نتجاهل ما كان للمماليك من المزايا العظيمة التي يمتازون بها على الأتراك في حربهم لهم؛ وذلك لأنهم التحموا بالجيوش الفرنسية أكثر من الأتراك، فاقتبسوا من طرقهم الحربية ما زادهم فَوْقًا على الأتراك، ذلك إلى أنهم يعرفون البلاد أكثر من جنود الترك الذين وصلوا إليها حديثًا، وأنهم كانوا لا يزالون أصحاب النفوذ والسلطان في البلاد.
فلما أراد «خسرو» مطاردتهم ونزْع البلاد من أيديهم، ظهرت كل هذه العقبات أمامه، فضلًا عن أنهم القابضون على أَزِمَّة الأحكام في المديريات، فأصبح القصد إذنْ من حربه لهم انتزاعَ البلاد من قبضتهم؛ فأرسل لذلك «طاهر باشا» قائد الألبانيين بجيش كان نصيبه الخيبة والفشل، وطارده عثمان بك البرديسي قائد المماليك من الوجه القبلي إلى الوجه البحري حتى ساحل البحر. ولما وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى خسرو أعدَّ مددًا أرسله بقيادة محمد علي، وكان ممن نال ثقة خسرو في هذا الحين، إلا أن عثمان بك بادر إلى مناجزة الجيش التركي قبل أن يصل إليه المدد الذي كان يقوده محمد علي، وبدَّد شمله.
فلما علم خسرو بالهزيمة الثانية وجَّه لومًا إلى الألبانيين وخاصة إلى محمد علي، وأراد أن يحاكمه على تقصيره أمام مجلس عسكري، وكان غرضه بذلك اغتياله، فامتنع محمد علي عن الحضور، ومن هذا العهد ابتدأت بذور العداوة تنبت بين هذين الرجلين؛ تلك العداوة التي فتَّت في عضد الدولة ومزَّقت أحشاءها كلَّ ممزق.
وبعد الهزيمة الأخيرة أبت عساكر الترك الحرب كل الإباء لتأخر رواتبهم، وثاروا وحاصروا الخزانة ونهبوا وسلبوا القاهرة، فاعتصم خسرو بالقلعة، وأصلى العصاة منها نار حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة الألبانيين — وعددهم ٥٠٠٠ — أن يتوسط بين خسرو والعصاة، فأبى خسرو وساطته، فانضم إلى العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه حينئذٍ جندًا تحميه ولَّى هاربًا إلى دمياط، وبقي بها ينتظر فرصة يسترد بها ما فقده.
ولما علم طاهر بذلك جمع رءوس العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضُوا أن يكون نائبًا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولِّيَ الباب العالي خلفًا لخسرو باشا، وذلك في (صفر ١٢١٨ﻫ/مايو ١٨٠٣)، وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة التي وقع فيها خسرو؛ إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند، وبعد ٢٢ يومًا من قبضه على زمام الأحكام تألَّب عليه الجند، واغتاله ضابطان — موسى أغا وإسماعيل أغا — بعد أن تظلَّما له من تأخير رواتب الجنود.
فأصبح محمد علي — بعد هرب خسرو وقتل طاهر — رئيس الأجناد غير المماليك من الأرناءوط وغيرهم؛ لأن رتبته في الجيش كانت تلي رتبة طاهر باشا، ولأنه كان محبوبًا لدى العلماء والأهالي لما كان يُبديه من العطف والحنان عليهم، فحاز رضاهم بدفاعه، وكاد يعلن نيابته عن الوالي لولا أن رأى مركزه لا يقل خطرًا عن مركز طاهر؛ لعدم قدرته على دفع مؤخر رواتب الجند، وعلى مقاومة خسرو باشا والمماليك معًا بمن كان تحت إمرته من الألبانيين؛ فرأى أنه من الحكمة والكياسة أن ينضم إلى عثمان بك البرديسي هو ومن معه، فتحالفا ونصَّبا إبراهيم بك الكبير نائبًا عن الوالي العثماني، لكبر سنِّه ومكان احترامه عند المماليك، وطردوا الإنكشارية من مصر.
وكان بمصر وقتئذٍ «أحمد باشا» والي المدينة وينبع، مارًّا بها، يستمدُّ واليها ويتأهب للخروج إلى منصبه، ويؤلِّف حملة يكافح بها الوهابيين؛ فاشترك في هذه الحوادث وفي مقتل طاهر باشا، وجعل نفسه واليًا على مصر، أو على الأقل نائبًا عن خسرو ريثما يحضر من دمياط، وكاد يتم له مراده لولا مناصبة محمد علي وإبراهيم بك له وعدم اعترافهما له بأي حق في التدخُّل في شئون البلاد. ولم يشعر بسلطته أحد؛ لأنها لم تَدُمْ أكثر من يوم وليلة، ثم جاءه التقليد من الأستانة بنيابته عن الوالي حتى يحضر، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإنهم طردوه وباقيَ الإنكشارية من مصر، فخرج إلى الحجاز.
ثم إن البرديسي ومحمد علي تعاونا على إخضاع المماليك الثائرين الذين كانوا يهددون العاصمة، وبعد أن تم لهما ذلك عمِلا على بت الأمر في قضية خسرو؛ فأعدَّ لذلك عثمان بك البرديسي جيشًا بريًّا، أما محمد علي فإنه جهَّز أسطولًا صغيرًا ونزل به إلى دمياط، وكان قد أخذ لذلك عدته، وبعد مناوشات خفيفة أخذ خسرو سجينًا إلى القاهرة.
ولما علم الباب العالي بسير الأحوال في مصر استولى عليه الخوف والقلق، واتضح له جليًّا أن خسرو أصبح غير لائق لولاية مصر، فأصدر عهدًا بتولية «علي باشا الجزائري»، ونزل هذا الوالي الجديد بالإسكندرية في (ربيع الأول سنة ١٢١٨ﻫ/٨ يوليو سنة ١٨٠٣م)، فرأى أنه لا يمكنه مقاومة البرديسي ومحمد علي بحد السيف، فاتفق معهما ظاهرًا، على حين أنه كان يعمل في الخفاء على هدم قوتهما وتكوين حزب وطني مصري يناهض المماليك، ولكن من سوء حظه أن بعض مراسلاته مع السيد «السادات» وقعت في يد البرديسي — وكان هذا ضيفًا عنده — فاحتال البرديسي في قتله، وتم له ذلك في (شوال سنة ١٢١٨ﻫ/يناير سنة ١٨٠٤م).
وفي الشهر التالي لمقتل علي باشا الجزائري ظهر رجل ذو سطوة وبأس وأعوان كثيرين، وهو «محمد بك الألفي» الذي يُعَدُّ من أكبر المماليك في الديار المصرية؛ وذلك أنه رجع من إنجلترا بعد أن مكث بها سنتين، وكان قد سافر إليها عام (١٨٠٢م) مع الحملة الإنجليزية، وسبب سفره أن الإنجليز كانوا قد عاهدوا المماليك في واقعة سنة (١٨٠١م) أن يأخذوا بناصرهم، ليتخذوهم صنائع وأعوانًا لهم بمصر إذا اقتضى الحال تدخلهم في شئونها مرة أخرى. فلما رجعت الحملة صار يتغنى قوادها بفروسية المماليك وشجاعتهم وخدماتهم، فسهل على الأمة الإنجليزية تعزيز هذا الاتفاق، وعزموا على مساعدة الألفي وحماية المماليك. فلما وصل إلى السواحل المصرية علم أنه لا يمكنه الوصول إلى ضالته إلا بتوحيد قوى المماليك وجعْلهم تحت حماية الإنجليز، وكان ذلك لا يتم له إلا بالاتحاد مع البرديسي عدوه العنيد، وإبراهيم بك الكبير. فلما نزل عند بوقير قابله أعوانه بكل حفاوة وإكرام، وإذ كان في ريبة من أمر البرديسي اتخذ مسكنه في دمياط، وأصدر الأوامر إلى أتباعه بالاجتماع في ضيعته بالجيزة، ومعهم كل ما يمكن جمعه من العدة والعدد، على أن يلحق بهم بعد.
إلا أن وصوله إلى الديار المصرية لم يَرُقْ في نظر كلٍّ من البرديسي ومحمد علي؛ لأن الأول رأى أن من الخطل أن تكون نتيجة خلعه واليَيْن وقتله ثالثًا أن يشاركه في السلطة مناظر كان بعيدًا عن الديار أثناء حربه معهم، وفاته أنه لو اتحد مع الألفي كما اتحد مع إبراهيم بك لاستعادوا سلطة المماليك في مصر؛ لأن محمد علي غريب عن البلاد وهو وحده لا يقوى على مقاومتهم، ولكن تدبير محمد علي ودهاءه وسعوده كلها حالت دون اتفاقهم، خصوصًا أنه رأى أن البرديسي في قبضته ولا داعيَ قط لإشراك مملوك آخر في حكم البلاد؛ فاتفق الاثنان على أن يتخلصا من محمد الألفي، وفعلًا حاصر محمد علي ومن كان معه من الألبانيين قصرَه في الجيزة وأخذ أتباعه على غرة، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وفر الباقون. أما البرديسي فسار بجيشه ليفتك بالألفي في طريقه إلى القاهرة، فقابله بالمنوفية هو وحاشيته، فأفْلت الألفي من يده وهرب إلى سورية، أما من كان معه فقتل معظمهم وسلب كل ما معهم من المتاع والمال.
اتَّبع محمد علي أثناء كل هذه المكافحات التي ناصب بها السلطان ومحمد الألفي خطة أظهرت ما كان عليه من الدهاء والحكمة؛ إذ إنه اختفى وراء الستار، وأظهر البرديسي بمظهر العاصي في وجه السلطان والمهاجم للألفي بك، مع أن محمد علي كان يساعده في جباية الأموال اللازمة للجيش الذي كانا يستظهران به على من ينازعهما السلطة.
ولما هرب الألفي من الديار المصرية طلب محمد علي من البرديسي رواتب الجند، وأنذره أنه إذا تأخر اضطُر إلى تركه وحيدًا وساعد الترك عليه وانضم إليهم، فلم يسع البرديسي إلا تلبية طلبه، وبذل كل جهده في جباية ما يلزم من المال بالقوة من التجار، فأثار غضب الأهالي وهيَّجهم، ولا سيما أن ذلك أعقب ضرائب فادحة جمعتها الحكومة واستَعمل الجباة في استخراجها العنف والشدة معهم؛ إذ كانوا يضربون من يمتنع منهم، وقد يقتلونه.
فانتهز هذه الفرصة محمد علي وانسلخ من البرديسي، وأظهر استياءه لجمع هذه الضرائب الفادحة، ووعد الأهالي بالأخذ بناصر الذين يعارضون في جمعها، فمال إليه الناس، وأصبح محبوبًا عند عامة أهل القاهرة وأشرافها، ولَمَّا وثق من أن الرأي العام يؤيِّده، وأن هذه أحسن فرصة للقضاء على سلطة البرديسي والتخلُّص منه ومن أتباعه، قام في فجر يوم (٣٠ ذي القعدة سنة ١٢١٨ﻫ/١٢ مارس سنة ١٨٠٤م) هو وجميع من التفَّ حوله من الجند وحاصروا قصر البرديسي — الذي كان محصنًا بالمدافع — فتمكَّن محمد علي من رَشْوِ رجال مدفعية البرديسي فحوَّلوا مدافعهم على سيِّدهم؛ إلا أن البرديسي وإبراهيم بك الكبير اقتحما الطريق وفرَّا هاربَين إلى بلاد سورية.
فصفا الجو عندئذٍ لمحمد علي، وأصبح صاحب الكلمة النافذة في القاهرة، إلا أنه رأى الفرصة لم تَحِنْ بعدُ للقبض على زمام الأمور في الديار المصرية للأسباب الآتية:
  • (١)
    أنه رأى لا بد من أن عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي سيتفقان على مناوأته، وهو لا يقوى على مكافحتهما متَّحدَين.
  • (٢)
    أن أتباعه من الجند لم تكن إلا عصابة صغيرة من الألبانيين لا تقوى على منازعة جميع الماليك.
  • (٣)
    أنه كان يعتبر في هذه الفترة خارجًا على الدولة لاشتراكه في خلع خسرو، وأن الدولة ربما أرسلت جيشًا لقهره والضرب على يده.
فأراد أن يتخلص من هذا المأزق الحرج بإذاعته أنه يريد تحرير القطر المصري من جور المماليك وعسفهم، حتى يكون قد خدم الدولة خدمة جليلة تمحو ما مضى من سيئاته وعصيانه، ومهَّد السبيل لذلك أنه لَمَّا علم أن الباب العاليَ عين واليًا جديدًا بدلًا من الجزائري١ قام في الحال وأطلق خسرو باشا — وكان سجينًا — ليتولى الأمور حتى يصل الوالي الجديد، ولكن الجند لم يرضَوْا بأي حالٍ إعادة تنصيبه واليًا؛ فاضطُر محمد علي بعد إطلاقه بثلاثة أيام أن يُسفِّره إلى رشيد، ومن ثَمَّ أبحر إلى القسطنطينية بعد أن أظهر له عجزه عن حمايته.
وبعد هذا الحادث بزمن وجيز وصل «أحمد خورشيد باشا» الوالي الجديد، واعترف بتوليته كل الجيش من تُركٍ وألبان، وأذعنوا له بالطاعة، ولكنه أظهر بعد فترة من الزمن أنه والٍ ضعيف الإرادة غير كفء لهذا المنصب، وعجز كسابقيه عن دفع مرتب الجند والأتراك، فرجعوا إلى السلب والنهب. أما محمد علي فاتبع الطريق الأقصد، ومنع أتباعه من الألبانيين من مصادرة الأهالي، بل كان بالعكس يجتهد في حمايتهم من ظلم الأتراك وعسفهم. ولَمَّا رأى الأهالي ما ارتكبه الجنود ثاروا على الوالي والتجئوا إلى محمد علي ليوقف هذه المظالم، فأمَّنهم على حياتهم وأموالهم بشرط أن يدفعوا له من المال ما يقوم بحاجة أتباعه من الألبانيين. وفي هذه الأثناء جاء إلى خورشيد باشا الوالي أمر سلطاني باستدعاء الألبانيين وقائدهم محمد علي، فتأهب هو وجنده للرحيل من الديار المصرية، فرجاه كبار الأمة وعلماؤها في البقاء بمصر خوفًا من تسلط الأتراك وبطشهم، فقبل ذلك منهم وأبى الرجوع. وفي هذه الأثناء جمعت المماليك جموعها على مقربة من المنية للإغارة على القاهرة، فولى خورشيد محمد علي قائدًا على الجيش الذي أعده لمحاربة المماليك، فحاربهم في عدة وقائع لم تكن فاصلة. وفي خلال هذه الحروب وصل جيش من الدلاة من قِبل الباب العالي أكثر همجية وأبشع حالًا من الجيش الذي في داخل البلاد ليحل محل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك ظن أنه وقع بين نارين، فقفل راجعًا إلى القاهرة وواجه الجيش الجديد جهة «البساتين» و«دير الطين»، وأخبرهم أنه لم يحضر لخلاف ولا عصيان، ولكن لطلب النفقة والمئونة، وأنه يرمي معهم إلى غرض واحد وهو تأييد الوالي والسلطان وإبادة المماليك؛ فانخدعوا بقوله، وأفسحوا له الطريق، فدخل القاهرة دخول المنتصر بعد أن اتفق مع الدلاة وأجزل لهم العطاء والهدايا، فأصبحوا معه على الوالي، وسمح لهم بالذهاب في طول البلاد وعرضها، يجمعون الضرائب ويأكلونها.
ولما عاثت جنود الأكراد — الدلاة — في الأرض فسادًا قام الأهالي في وجه خورشيد، وطلبوا من محمد علي أن يحميَهم ويكون الواليَ عليهم، فقبل ذلك وشنَّ الغارة على الوالي، فاعتصم هذا بالقلعة، ولما لم يجد له وسيلة يتخلص بها من محمد علي اجتهد في الحصول على عهد من الباب العالي بتنصيب محمد علي واليًا على جدة، فلم يلتفت محمد علي لهذا التنصيب، وحاصر خورشيد باشا في القلعة، وأطلق عليها المدافع إطلاقًا ذريعًا، وذلك في (صفر سنة ١٢٢٠ﻫ/مايو سنة ١٨٠٥م).
وحينئذٍ اجتمع علماء البلد ووجهاؤها وأقاموا محمد علي واليًا على مصر، فقام إليه الشيخ الشرقاوي و«السيد عمر مكرم» نقيب الأشراف وألبساه «الكرك» إيذانًا بالولاية. وكان في يد السيد عمر أمر العامة في جميع أنحاء مصر، لا يعصون له أمرًا؛ فأيد أمر محمد علي بنفوذه وجاهه أكثر من ٤ سنين تأييدًا لم يقم به أحد مثله، وأرسل العلماء رسولًا إلى الباب العالي ليلتمس العفو عما فرط منهم في حق الوالي ويرجو اعتماد تنصيب محمد علي خلفًا له، فعلم السلطان من ذلك مقدار ميل الأهلين لمحمد علي، وأيقن أنه أصبح صاحب الكلمة العليا في مصر، فوافق على تنصيبه واليًا عليها في (ربيع الآخر سنة ١٢٢٠ﻫ/يوليو سنة ١٨٠٥م). ولما علم خورشيد باشا بهذا النبأ سلَّم له القلعة وتخلى عنها.

 
Comment

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,245
مستوى التفاعل
2,652
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر

توطيد سلطة محمد علي في مصر​

كانت لا تزال سلطة محمد علي بعد يوليو سنة ١٨٠٥ مزعزعة الأركان؛ لأن اختياره واليًا كان بالرغم من الباب العالي، فكان أولياء الأمور في القسطنطينية يتحيَّنون أول فرصة للتخلُّص منه، فإنه وإن كان أدار الشئون المصرية بالضبط والمهارة، وقام بها خير قيام، لا يبعد أن يجاهر يومًا ما بالعصيان في وجه الباب العالي كما فعل من قبل. هذا إلى أن ما حاق بالمماليك من المصائب والنكبات المتتابعة جعلهم يتَّحدون معًا على محمد علي عدوهم العنيد، ثم دهمه أمر لم يكن في الحسبان، وهو ورود حملة إنجليزية لغزو مصر، والسبب فيها يرجع إلى تحالف فرنسا مع الترك بعد توليته بعام ونصف، وكانت فرنسا إذ ذاك في حرب عوان مع إنجلترا، فأرسلت الأخيرة حملة لتغزوَ البلاد المصرية باتفاق مع حليفتها الروسيا مؤملة أن ترجع البلاد المصرية إلى حكم المماليك على الأقل، وتقضي على آمال الترك فيها «وأرسلت أيضًا أسطولها ليقتحم الدردنيل»، فساعد الحظ محمد علي باشا وتخلص من كل هذه الأخطار التي كانت تحدق به، الواحد بعد الآخر؛ فأرضى الباب العالي، وقضى على المماليك وسلطتهم، وتغلب بمعونة الأهالي وحامية رشيد على الحملة الإنجليزية.
ذكرنا سابقًا أن المماليك كانوا يهددون القاهرة في أول ولاية محمد علي، وكان هذا أول خطر يحدق به؛ لأن جميع ما لديه من الجند كانوا مشاة لا يقوَوْن على مكافحة فرسان المماليك خصوصًا في الخلوات؛ حيث يمكنهم الكرُّ والفرُّ بكل نظام وبدون أدنى خطر، فدبَّر لهم مكيدة أنفذها بعض الموالين له؛ وذلك أنهم اتفقوا سرًّا مع رؤساء المماليك على أن يفتحوا لهم أبواب القاهرة في يوم الاحتفال بفتح الخليج، أي في الوقت الذي يكون فيه محمد علي وجميع ضباطه مشغولين لاهين في الاحتفال خارج المدينة، على شرط أن يدفعوا لهم مالًا في مقابل هذه الخدمة. فاغترَّ المماليك ووقعوا في هذه الأُحبولة، فلما حلَّ اليوم المعهود دخلوا المدينة من باب الفتوح، فلم يجدوا في حراسته إلَّا ثُلَّة ضئيلة من الفلاحين تغلبوا عليها بدون عناء، ثم ساروا قاصدين باب زَوِيلة، فلما صاروا في قلب المدينة انصبَّت عليهم النيران من جانبَي الشارع من النوافذ، وكان قد استعد لذلك محمد علي، فلما تنبهوا لغلطتهم الْتَجأ أكثرهم إلى جامع برقوق، وسلَّم معظمهم عندما أمَّنهم الوالي على حياتهم، إلا أنه رغم ذلك ذُبح معظمهم في (جمادى الآخرة سنة ١٢٢٠ﻫ/أغسطس سنة ١٨٠٥م).
ثم أراد محمد علي أن يجمع مالًا لإعطاء الجند مرتبهم مخافة أن يُعزل كسابقيه، وأراد أيضًا أن يجزل العطايا إلى أمير البحر التركي — وكان راسيًا بأسطوله في مياه الإسكندرية، يحمل الأوامر بمساعدة المماليك على محمد علي. ولما رأى أنه من المحال أن يضرب الضرائب على الفلاحين، ولا سيما أن جميع الأراضي كانت لا تزال في قبضة المماليك، جمع بعض المال من أقباط مدينة القاهرة، ووجد بفحص دفاتر الحساب أن الجُباة منهم اختلسوا ما لا يقل عن ٤٨٠٠ كيس، فأجبرهم على دفعها؛ وبذلك أجزل العطايا إلى أمير البحر التركي وأرجعه من حيث أتى، وكان ذلك في أكتوبر سنة ١٨٠٥. ولم يمر على هذا الحادث إلا زمن يسير حتى عاد أمير البحر التركي نفسه يصحبه «موسى باشا» والي سلونيك ليكون واليًا على مصر، ولينتقل محمد علي معه ليتولى منصب موسى باشا؛ فتظاهر محمد علي بإظهار الطاعة لأوامر الباب العالي، ثم ادَّعى أنه يتعذر عليه أن يغادر مصر توًّا؛ لأن الجنود أبوا عليه النقلة ولا حيلة له في دفعهم، فإن فئة كبيرة من الضباط عاهدوا أنفسهم وأغلظوا الأيمان والمواثيق ألا يخضعوا لأحد غيره، وأن يعاضدوه ويأخذوا بناصره ولو على السلطان. وقد تظلَّم العلماء والأشراف لدى الباب العالي، والتمسوا إبقاء محمد علي. ومن حسن حظه أن نشبت في هذه الفترة نار حرب بين الروس والترك، فاضطُر الترك بطبيعة الحال إلى استدعاء أسطولهم إلى المياه التركية، فأبحر الأسطول بعد أن أجزل محمد علي العطاء لأمير البحر وموسى باشا معًا، وأخيرًا وصل إلى مصر في (٢٤ شعبان سنة ١٢٢١ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٠٦م) عهد بتأييد محمد علي في منصب والي مصر.
وفي أثناء هذه الحوادث جمع الألفي بك والبرديسي شعَث جيشهما، وأوثقا عُرى التحالف بينهما وبين البدو، وشنَّا الغارة على محمد علي في بلاد الوجه البحري، وشجعهم على ذلك الأسطول التركي الذي كان راسيًا في المياه المصرية. فاشتبك الألفي مع فرقة أرسلها عليه محمد علي، فانهزمت عند «النجيلة»، ثم انضم الألفي بعد انتصاره إلى البرديسي وحاصرا دمنهور، فدافع الأهالي عنها دفاعًا صادقًا، وأظهروا شدةً وبسالةً لم تكن في الحسبان، على حين أن الألفي والبرديسي كانا يتنازعان السيادة والأفضلية، وكان محمد علي يستعد للواقعة الفاصلة بينه وبين المماليك بعدما تخلص من الأسطول التركي كما تقدم، فساعدته السعادة وحسن الجد بموت عدويه العظيمين؛ فمات البرديسي بالحُمَّى في (سنة ١٢٢١ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٠٦)، ومات الألفي في (ذي القعدة سنة ١٢٢١ﻫ/يناير سنة ١٨٠٧م)، وبموتهما تفرَّق أتباعهما أيدي سبأ، وفرَّ معظمهم إلى الوجه القبلي.
ثم وصلت الحملة الإنجليزية التي أسلفنا الذكر عن سبب مجيئها إلى الديار المصرية باختصار، وكان الغرض من هذه الحملة تأييد سلطة المماليك ونزع البلاد من يد الباب العالي، ولكن كانت نتيجةُ الحملة الفشلَ التام؛ والسبب في ذلك يرجع إلى غلو الإنجليز في تقدير ما كان لدى المماليك من الجند.
وصلت هذه الحملة في (أول المحرم سنة ١٢٢٢ﻫ/مارس سنة ١٨٠٧م) واستولت على الإسكندرية، ثم سيَّر قائدها «فريزر» قوة لتحتل رشيد، فتغلَّبت عليها أولًا لضعف حاميتها، إلا أن الحامية عادت وأخذتهم على غِرَّة وبددت شملهم. ولَمَّا علم محمد علي بما جرى في الإسكندرية رجع من مطاردة المماليك في الصعيد إلى القاهرة، وجهز جيشًا سيَّره إلى رشيد، فالتقى هو وأهالي البلاد من رشيد ودمنهور وبعض أهل البحيرة مع الإنجليز عند قرية «الحمَّاد» — جنوبي رشيد — وهزموهم شرَّ هزيمة، ثم ذهب محمد علي إلى جهة الإسكندرية وأراد أن يحاصرها، ولكن ولاة الأمور الإنجليز كانوا أرسلوا إلى قائد الحملة بالرجوع، فأخلى الإسكندرية بعد أن عقد شروط الصلح مع الوالي في دمنهور، وتركت الحملة البلاد المصرية في (رجب سنة ١٢٢٢ﻫ/سبتمبر سنة ١٨٠٧م). أما العمارة البحرية التي أرسلتها الأمة الإنجليزية لاختراق الدردنيل فإنها حُطِّمت، ولم ينجُ منها إلا بضع سفن.
وكان من نتائج هذه الحملة رضاء الباب العالي عن محمد علي، فمنحه السلطان خلعة وسيف شرف، وأمر بإرجاع ابنه إبراهيم إليه — وكان معتقلًا في القسطنطينية. وقد صار لهذه الإنعامات السلطانية أثر عظيم في توطيد سلطته؛ إذ كان في هذا الوقت في وَجَلٍ شديد من جنده، حتى إنه استعد للاعتصام بالقلعة إذا تألَّبوا عليه.

(١-٣) القضاء على المماليك​

لَمَّا وثق الباب العالي من محمد علي أراد أن يستخدمه في إصلاح شئون الدولة، فأول أمر كلَّفه إياه إخضاع طائفة الوهابيين الذين كانوا يتدخلون في أمر الحج، واحتلوا الحرمين الشريفين وسلبوهما. ولهذه الطائفة مذهب خاص سنتناول الكلام عليه فيما بعد. فجاءت الأوامر إلى محمد علي بإخضاع هؤلاء القوم، فاضطُر أن يُعِدَّ جيشًا أعظم عددًا وأكثر تدرُّبًا من الجيش الذي عنده، وأن يكون له أسطول لنقل الجنود في البحر الأحمر، فوجد أن لا مندوحة من زيادة الضرائب إلى درجة أقصت عنه كل من كان ملتفًّا حوله، ولقد كان مركزه إذ ذاك غاية في الخطر، فرأى أن لا يتحرك بجيشه إلى محاربة الوهابيين قبل أن يقضيَ على البقية الباقية من المماليك، وخاصةً بعد أن ظهر له أنهم جميعًا مزمعون على قتله. وكان قد رأى أولًا أن يتفق معهم، وأرسل لهذا الغرض حسين باشا الأرناءوطي يبلغهم أنه يعطيهم كل ضِياعهم، فأبَوْا ذلك، ففكر في قهرهم بحد السيف، فحاربهم في موقعة عند أسيوط انهزم فيها جيشه، إلا أن المماليك انتكث فتلهم وتفرقوا ثانية في طول البلاد وعرضها، في (أواخر رجب سنة ١٢٢٥ﻫ/أغسطس سنة ١٨١٠م). ولم تمضِ مدة يسير حتى خُدع شاهين بك — رئيس المماليك بعد موت الألفي — واحتال لذلك محمد علي بمنحه كل الأراضي التي على ضفة النيل اليسرى من الجيزة إلى بني سويف وفيها الفيوم؛ فخضع كل المماليك اقتداءً به، ووقَّعوا على شروط الصلح في سلخ عام ١٨١٠م، ورجعوا إلى القاهرة واتخذوا مساكنهم في قصورهم كما كانوا من قبل.
وكان شغل محمد علي الشاغل في هذه الأثناء تخليص الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، إلا أنه لم يجرؤْ على تسيير جندي واحد إلى بلاد العرب ما دامت المماليك تهدد ولايته وتناصبه العداء، وكان على يقين من وثوبهم به في أول فرصة تتغيب فيها الأتراك عن البلاد، وقد تمثل له جليًّا مبلغ تحفزهم لقتله غِيلة عندما وافته الأخبار وهو في مدينة السويس مهتمًّا بشئون الحملة إلى بلاد العرب من «محمد بك لاظ الكخية» يحذِّره من المماليك، وكانوا يريدون اغتياله وهو راجع إلى القاهرة؛ فأخذ الحيطة، وبدلًا من مكثه في السويس إلى اليوم الذي ضربه لرجوعه تركها في غَلَس الظلام على ظهر نجيب سريع العَدْو غير معلنٍ أحدًا وجهتَه، ووصل القاهرة في فجر اليوم الثاني يصحبه أربعة من الخدم؛ فهذه المؤامرة وغيرها جعلته يفكر في القضاء عليهم بأية وسيلة قبل أن يسبقوه إلى ذلك.
وفي شهر (صفر سنة ١٢٢٦ﻫ/فبراير سنة ١٨١١م) جمع محمد علي جيشًا مؤلَّفًا من ٤٠٠٠ جندي في القاهرة تحت قيادة «طوسون باشا» ثاني أولاده، لغزو بلاد العرب وإخضاع الوهابيين، ورأى أنه لا بد قبل مسير الحملة من الديار من الاحتفال بها وتسليم وسام الشرف السلطاني له، فدعا في اليوم المضروب جميع ضباط الجيش والأعيان، وعددًا عظيمًا من الجند، ثم دعا جميع المماليك ورؤسائهم، وأعدَّ لهم وليمة فاخرة تذكارًا لهذا اليوم المشهود، فاجتمع الجميع في القلعة في يوم الجمعة خامس صفر — أول مارس — وكان عدد من حضر من المماليك يقرب من الخمسمائة.
وكان الغرض الحقيقي من دعوة المماليك التخلُّص من شرهم ودسائسهم، فأسرَّ محمد علي بذلك إلى «حسن باشا» و«صالح قوج» الأرناءوطيين فقط، وفي صبيحة هذا اليوم أسرَّ به إلى «إبراهيم أغا» — حارس الباب — فنُظِّم الموكب في القلعة على الترتيب الآتي: ابتدأ الموكب بعساكر الدلاة، ثم تبعهم العساكر الإنكشارية، ثم الجنود الألبانية بقيادة صالح قوج، وتلاهم المماليك، ففرقة من الجنود النظامية. فلما سار الموكب وانفصل الدلاة ومَن خلفهم من الإنكشارية عند باب العزب، أمر صالح قوج بإغلاق الباب وأشار إلى طائفته بالمقصود، فأعملوا السيف في رقاب المماليك، وقد انحصروا جميعهم في المضيق المنحدر، وهو الحجر المقطوع في أعلى باب العزب — بين الباب الأسفل والباب الأعلى — الذي يُتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة. وكان قد جهز محمد علي عددًا من الجند على الحجر والأسوار، فلما بُدئ بالضرب من أسفل أراد المماليك التقهقر فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا؛ وذلك لوجود خيلهم في مضيق صغير جدًّا لا يسع جوادين جنبًا إلى جنب، وقد أعمل جنود محمد علي فيهم السيف قتلًا وفتكًا حتى فني كل من كان منهم في القلعة.
ولما قُتل شاهين بك كبير المماليك وعلم الناس بهذا الخبر أغلقوا الحوانيت، وصارت العساكر بعد ذلك تنهب وتسلب في جميع أنحاء العاصمة بدعوى البحث عمن هرب من المماليك للفتك بهم، ولَمَّا علم محمد علي بما ارتكبه الجنود من السلب، والنهب، ركب جواده ونزل بشخصه يمنع العسكر من ارتكاب هذه الجرائم. وقد حذا حذوه ابنه طوسون باشا في إيقاف الجنود عند حدها. ويقال إن محمد علي كان في شدة الوجل خوفًا من خيبة تدبيره، وكان قد أعد الخيل للهرب إذا لم يفلح.
وفي أثناء حدوث هذه الحوادث في القاهرة أصدر في الوقت نفسه أوامره لكل حكام المديريات بقتل من يعثرون عليه من المماليك؛ فكان مجموع من قُتل منهم بالقاهرة والمديريات يزيد على الألف. وهكذا انقرضت هذه الطائفة التي عاثت في الأرض فسادًا أكثر من ستة قرون، أذاقت في خلالها المصريين كل صنوف الذل والعذاب.
figure


محمد علي في القلعة وقت مذبحة المماليك (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
 
Comment

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,245
مستوى التفاعل
2,652
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر

الحروب الوهابية في بلاد العرب​

من أعظم الثورات المشهورة، وأكبر الفتن الدينية التي شاهدتها بلاد العرب من عهد القرامطة، الثورة التي أضرم نارها الوهابيون؛ وذلك أنهم أثبتوا في حماستهم العسكرية وشجاعتهم البدوية صفات العرب القديمة وتمسُّكهم بالدين. ومؤسس هذه النهضة رجل اسمه «عبد الوهاب» من بني تميم بنجد، وقد أُطلق على ما كان متمسكًا به من العقيدة «المذهب الوهابي».
ولد عبد الوهاب صاحب هذا المذهب عام (١١٠٨ﻫ/١٦٩٦م) في قرية تُسمَّى «العُيَيْنَة» من إقليم «العارِض». وقد جاور في أثناء شبابه بمكة والمدينة ومعظم مدن المشرق المشهورة، وخاصة البصرة. ولما رأى في أثناء سياحاته العديدة أن الدين الحقيقي داخله الفساد، وتسلطت عليه البدع والمنكرات، عزم على إصلاح ما أفسده المفسدون. وكانت قواعد مذهبه وسياسته على غاية من الإيجاز في الإصلاح الإسلامي، وهي أشبه بالإصلاح البروتستنتي عند المسيحيين.
وكان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السُّنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم هو توحيد الله، واعتقاد أن النبي ﷺ إنسان أدَّى ما يجب عليه من إبلاغ الرسالة، ورفض جميع تفاسير القرآن التي لم تأتِ من طريق السُّنة، ومن معتقداتهم أن الناس عند الله سواء، وكلهم عباده، أكرمُهم عنده أتقاهم وأصلحهم في أعماله، وبنَوْا على هذا الاعتقاد أن الاستغاثة بالذين تُوُفُّوا من الأولياء الصلحاء والأنبياء إثمٌ عند الله، وبدعة حدثت في الدين يجب استئصالها وإزالة كل أثر يُقوِّيها، كالتناصيب التي على القبور والقباب وما أشبهها، فأزالوها وحرَّموا زيارتها والتوجه إليها والاستغاثة عندها. ويرَوْن أن الحلف بسيدنا محمد ﷺ جريمة كبرى، ويلعنون مَن يُكثر من الخضوع للموتى لعنًا مؤبدًا، ولا يلفظون بلفظ «سيد» للنبي ﷺ في صلاتهم.
أما آدابهم فهي على نقاء وصفاء؛ إذ يحرِّمون جميع الموائع المسكرة وكل المواد المخدرة، ويحرِّمون جميع أنواع الفجور والفسق والعدول عن الحق والإنصاف والعمل بالحيل والخداع والاغتصاب والمقامرة. أما في شهامة التعصب الحقيقي للدين فإنهم يغارون على كل صغيرة مخلة بالدين الحق، ووجَّهوا أيضًا جُلَّ قوتهم إلى تحريم الملابس الحريرية، والترف في العيش، وحلق الرأس، والبكاء والنحيب على الميت.
ولما أراد عبد الوهاب نشر مذهبه قام في وجهه أناس كثيرون واضطهدوه، ففرَّ هاربًا إلى «الدرعية»، وهي إحدى مدن نجد وعلى بُعد ٤٠٠ ميل من شرق المدينة، فحماه «محمد بن سعود» حاكمها، ومال إلى مذهبه فاعتنقه وعمل على نشره، وكان غرضه من ذلك أن يمدَّ سلطانه على البلاد العربية، فاتخذ ذلك وسيلة إلى مطامعه الشخصية، فامتد سلطانه وسلطان ابنه «عبد العزيز» على جميع بلاد نجد من سنة (١١٥٩ إلى ١٢٠٦ﻫ/١٧٤٦–١٧٩١م). ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن عبد الوهاب عاش حتى رأى مذهبه منتشرًا في طول البلاد وعرضها، وتُوفِّي سنة (١٢٠١ﻫ/١٧٨٧م) بعد أن بلغ من العمر الخامسة والستين تقريبًا، تاركًا ثمانية عشر ولدًا من عشرين زوجة.
ولقد أقلق بالَ شريف مكة انتشارُ مذهب عبد الوهاب وازدياد نفوذ عبد العزيز بن سعود في البلاد العربية، فجرَّد في عام (١٢١٣ﻫ/١٧٩٨م) حملة على عبد العزيز كان نصيبها الفشل.
ولما أمن عبد العزيز جانب شريف مكة — لأنه كان لا يقوى على مقاومته — وجَّه جُل عنايته إلى نشر مذهب الوهابية، وتوسيع نطاق ملْكه في وادي الفرات ودجلة، فلم يوفَّق إلى ذلك لأن واليَ بغداد هزمه هزيمة منكرة، وإن كان لم يقتفِ أثره في أواسط بلاد العرب خوفًا من هلاك جيشه في وسط الصحراء؛ ومن ذلك الحين لم يجرؤْ عبد العزيز على محاربة والي بغداد، إلا أنه قام في عام (١٢١٦ﻫ/١٨٠١م) وهاجم «كربلاء» وقتل رجالها، واستحيا نساءها، وانتهك حرمة ضريح الحسين وسلب أشياء كثيرة. وفي العام التالي دخل مكة بدون معارضة من شريفها «غالب»، وكان تركها وانحاز إلى جدة.
وفي نفس العام قام أحد المتعصبين من الأعجام واغتال عبد العزيز وهو يصلي، انتقامًا لما ارتكبه من الفظائع في كربلاء، فقام بأعباء الملك بعده ابنه «سعود الثاني»، وهو أعظم رجال هذه الأسرة؛ إذ وصلت في عصره مملكة الوهابيين إلى أوج عزها ومجدها. وقد دخل في السنة التي تولى فيها الضريحَ النبوي، ونهب كل ما فيه من الكنوز؛ ومن هذا العهد أصبحت بلاد العرب كلها تحت سلطانه، ثم ابتدأ من عام (١٢٢١ﻫ/١٨٠٦م) يتشدد في جمع الضرائب، حتى كره الناس حجَّ بيت الله الحرام، ومن غلوه في مذهبه أنه أغلق أبواب جميع القهوات وحرَّم شرب الدخان ولبس الحرير وغيره مما يُتزيَّن به.
ومما سبق يُعلَم أن ما كُلفه محمد علي من قِبل الباب العالي كان في الحقيقة فتح بلاد العرب للدولة من جديد، وكان بقاؤه على ولاية مصر متوقفًا على نجاحه في إخضاع الوهابيين.

(٢-١) حملة محمد علي على الوهابيين​

قبل أن يعدَّ محمد علي حملته على بلاد العرب كاتَب شريف مكة، ولما وثق من موالاته له، وعلم أنه لم ينقد للوهابيين إلا كرهًا، جهَّز جيشًا عظيمًا يبلغ ٨٠٠٠ من الألبانيين، وأرسله بطريق البحر الأحمر في أسطول أعدَّه لهذا الغرض، كان يصنع سفنه قطعًا مفككة بالقاهرة، ثم يرسلها إلى السويس على ظهور الإبل لتركَّب هناك، وقد أفاد من هذا الأسطول فائدة عظيمة؛ إذ به يمكنه أن يسيطر على جميع ثغور العرب، ويصبح في قبضته كل التجارة وطرق الحج إلى بيت الله الحرام.
نزلت هذه الحملة في ثغر «ينبُع» بقيادة ابنه طوسون، فلم يلقَ بها أدنى مقاومة؛ لأن شريف مكة «غالبًا» سلَّمها طوع إرادته؛ ومن ثَمَّ سار نحو المدينة. وكان العدو قد كمن له، فتغلب في طريقه بعد مناوشات خفيفة على قريتَي «بدر» و«الصفراء»، إلا أن العدو بيَّته عند «الجُدَيدة» في درب ضيق جدًّا وكاد يقضي على كل الجيش، فلم يبقَ منه إلا ٣٠٠٠ جندي التجَئُوا إلى ينبع بعد أن أنهكهم التعب، وهرب بعد هذه النكبة كل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك استشاط غضبًا وأنَّب «صالح قوج» رئيسهم على تخاذلهم وما أظهروه من الجبن. وكان يريد الفتك بصالح قوج، لولا ما له عليه من المآثر خصوصًا بلاءَه في حادثة القلعة، فاكتفى بنفيه من مصر مع مَن هرب معه مِن الألبانيين بعد أن أجزل لهم العطاء. وكان يعتقد أنه لا يهدأ له بال ما دامت هذه الفئة الثائرة المتمردة في داخل البلاد.
وفي عام (١٢٢٧ﻫ/١٨١٢م) أرسل محمد علي مددًا إلى طوسون بطريق القُصَير، فسار به نحو المدينة، ودخلها عنوة بعد أن دوَّخ الوهابيين؛ وكانت هذه ضربة قاضية على سعود الثاني، وابتدأ المذهب الوهابي يتدهور بعض الشيء، ثم ذهب طوسون توًّا إلى مكة بطريق جدة، فلم يلقَ إلا الإكرام من شريف مكة وسلَّمه مفاتيح الكعبة، فأرسلها طوسون هي ومفاتيح الحجرة الشريفة إلى والده، فأرسلها إلى الباب العالي يبشره برجوع الحرمين إلى حوزته. وأراد بعد ذلك طوسون أن يقتفيَ أثر الأعداء في داخل البلاد؛ فهزمه الوهابيون شرَّ هزيمة عند «طَرَبة»، وهي بلد صغيرة في شرقي مكة وعلى مقربة منها. وكانت خسائر هذه الهزيمة عظيمة جدًّا، حتى إن سعودًا زحف بجيشه على المدينة ثانية وهددها بالأخذ عنوة.
ولما وصل خبر هذه النكبة إلى محمد علي، عزم على أن يتولى قيادة الجيش بنفسه، فأخذ العُدَّة لذلك، وتوجَّه إلى الأقطار الحجازية، ولَمَّا وصل هناك أدى فريضة الحج، ثم علم من بعض الأفراد أن الشريف غالبًا مذبذب في ولائه، فاحتال في القبض عليه بواسطة طوسون ابنه، وأرسله إلى القسطنطينية حيث قُتل هناك بعد مدة وجيزة.
ثم ابتدأ محمد علي بعض مناوشات مع الوهابيين لم تكن فاصلة، وكان كلا الفريقين يخاف منازلة خصمه.
وفي أوائل سنة (١٢٢٩ﻫ/١٨١٤م) مات سعود الثاني، وبموته فقد الوهابيون أعظم ساعد وأكبر بطل، بلغت في مدته دولتهم شأوًا بعيدًا لم تبلغه من قبلُ ولا من بعدُ؛ فإن عبد الله ابنه الذي خلفه كان أقل منه ذكاءً وفروسية وقدرة. وكان آخر ألفاظٍ فاه بها سعود يوصي بها ابنه الأكبر: «يا عبد الله، لا تدخل في حرب مع الترك في ميدان مكشوف أبدًا، والزم أنت وعساكرك في حربهم المواقع الصعبة حتى لا يتيسر لهم النصر، وخذ لنفسك الحذر، ولا رادَّ لقضاء الله وقَدَره.» ولو اتبع عبد الله هذه النصيحة لَمَا تغلب عليه المصريون قط، إلا أنه خالف والده، والتحم مع محمد علي في أول واقعة عند «بَيْصل» حيث دارت الدائرة فيها عليه، وذلك في سنة (١٢٣٠ﻫ/١٨١٥م).
ثم حصلت حوادث في هذه الفترة اضطَرت محمد علي أن يرجع إلى مصر، منها أنه لما علم بهرب نابليون من منفاه في «إلبا»، وتوقع احتمال غزو الترك للبلاد المصرية، رجع مسرعًا بطريق القصير فقنا، ووصل القاهرة في اليوم الذي جرت فيه موقعة «ووترلو». ومنها أنه علم أيضًا بتدبير مؤامرات على عزله وقتله، وظن أن ذلك بإيعاز من رجال الباب العالي، أما رئيس المؤامرة فهو «لطيف باشا» أحد المماليك، وكشفَ سر هذه المؤامرة «الكخيا لاظ أوغلي باشا»، فقتل لطيفًا ومن معه بعد أن حاول الهرب والاختفاء، وكان غرضه أن يكون واليًا على مصر إذا نجح في قتل محمد علي.
وعند عودة محمد علي همَّ بتنظيم جيشه على الطراز الغربي، فأبى عليه ذلك الجند، مقلِّدين الأتراك في ذلك، ولما علم طوسون بتلك الفتن والقلاقل من جهة، وتألُّب الجيش عليه من جهة أخرى عاد مسرعًا إلى مصر، وتُوفِّي بالإسكندرية عقب مرض لم يمهله أكثر من عشر ساعات.
وكان قبل سفره قد عقد شروط صلح مع الوهابيين، إلا أنهم نبذوها ظهريًّا؛ ولذلك جهز محمد علي حملة أخرى إلى بلاد العرب بقيادة ابنه إبراهيم باشا في (شوال سنة ١٢٣١ﻫ/سبتمبر ١٨١٦م). ولم يسلك إبراهيم طريق السويس، بل نزل في النيل بجنده — في سفن أُعدت لذلك الغرض — إلى قنا، ومن ثَمَّ على ظهور الإبل إلى القصير، ثم إلى ينبع، ومنها إلى طريق المدينة المنورة.
قد أعمل الفكرة ذلك البطل العظيم في استنباط الخطط الحربية التي وقَّفته بين صميم عظماء الرجال ومشاهير القوَّاد، وأعانه على تنفيذ تلك الخطط مَهَرة الضباط والمهندسين الفرنسيين، على أن والده قد أوصاه أن يحارب كل قبيلة معاضدة للعدو على انفرد؛ ليكون بذلك أقدر على الفتك بجنودها، وتفريق كلمتها وتمزيقها شرَّ ممزق، كما نصح له ألا يتوغل داخل البلاد، وحذَّره من الإغارة على الدرعية من طريق غير طريق المدينة المنورة؛ ليحفظ لنفسه خط الرجعة، وليكون وصول المدد إليه من السهولة بمكان. وأول موقعة الْتَحم فيها جيشه مع الوهابيين كانت عند «الريْس» سنة (١٢٣٢ﻫ/١٨١٧م)، وفي هذه الملحمة انهزم جيشه هزيمة لم تَثْنِ من عزمه، ولم تَفُتَّ في ساعده، بل استمر سنة كاملة في كفاح وجلاد، حتى ذلل كل صعوبة اعترضته في هذا المضمار؛ ولذلك أخضع قرًى كثيرة، وصار قاب قوسين أو أدنى من الدرعية حاضرة الوهابيين، وهي على بعد ٤٠٠ ميل من المدينة المنورة التي اتخذها قاعدة لأعماله الحربية.
وابتدأ إبراهيم باشا في حصار الدرعية في (جمادى الآخرة سنة ١٢٣٣ﻫ/أول شهر أبريل سنة ١٨١٨م)، فمكث مدة يعالج فتحها وهو مستعصٍ عليه، وفي غضون ذلك انفجر مخزن ذخيرته فلم تفتر همته ولم يساوره اليأس؛ لأنه كان على يقين من استياء العالم الإسلامي أجمع من فظاعة الوهابيين، هذا إلى أن تلك الحروب في الحقيقة كانت حربًا بين العنصرين التركي والعربي، وكلاهما يود لو يضعف الآخر أمامه، فيميل عليه ميلة واحدة يكون فيها القضاء المبرم عليه.
figure


عبد الله سعود في سرادق إبراهيم باشا.
بعد ذلك أخذ إبراهيم باشا يمد يد التخريب والتدمير في ضواحي مدينة الدرعية، ليحول بينها وبين المؤنة والمدد؛ وبذلك اضطُر عبد الله إلى الخضوع والاستسلام لسيطرته وسلطانه، فسلَّم نفسه في (ذي القعدة سنة ١٢٣٣ﻫ/سنة ١٨١٨م). ولم يعامله إبراهيم باشا إلا بكل كرامة وإحسان، ثم أرسله إلى والده بالقاهرة فبالغ في إكرامه أيضًا، ثم أرسله إلى الباب العالي بعد أن استرد منه كل ما سلبه من الحرم الشريف، وبعد وصوله بزمن يسير أُمر به فقُتل. فلما بلغ أهل الدرعية مقتله هاجوا وماجوا، وانتثر عقد نظامهم؛ ولذلك أرسل محمد علي في طلب قرابة عبد الله إلى القاهرة، وأجرى عليهم وظائف تقوم بمعاشهم.
أما مدينة الدرعية فأصبحت أثرًا بعد عين؛ لأن إبراهيم باشا رأى بقاءها عامرة حجر عثرة في طريقه، ولو تركها من غير تخريب لكانت ركنًا مكينًا ومعقلًا حصينًا لأعدائه، فلم يُبقِ عليها لذلك، وساعده على تخريبها الأهالي أنفسهم، تقرُّبًا إليه واسترضاءً له.
هكذا انتهت الحروب في بلاد العرب بعد القضاء على سلطة الوهابيين، الذين كانوا يدَّعون أنهم يسعَوْن في سبيل استرداد مجد الإسلام الضائع.

 
Comment

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,245
مستوى التفاعل
2,652
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر

فتح السودان​

بعد أن تم النصر المبين لمحمد علي وقضى على الوهابيين القضاء المبرم، واستأصل شأفتهم من بلاد العرب، عنَّت له حاجة شديدة إلى فتح السودان، وضمه إلى سلطانه ونفوذه؛ وذلك لأسباب سياسية ومادية.
أما الأسباب السياسية فتُلخَّص فيما يأتي: لَمَّا قضى محمد علي على دولة المماليك في مذبحة القلعة هرب أناس كثيرون منهم واعتصموا بالوجه القبلي، فطاردهم إبراهيم باشا حتى اجتازوا الحدود المصرية، وتحصَّنوا في دنقلة وأقاموا بها القلاع والحصون، وقد احتال محمد علي في القبض عليهم والإيقاع بهم فلم يفلح.
هذا إلى أن جنده الألبانيين كانوا خطرًا عليه في كل وقت؛ لأنهم كانوا لا يُنزلونه من أنفسهم إلا منزلة فرد منهم، وكان الضباط يشقُّون عصا طاعته ويأتمرون فيما بينهم ليُسقطوه، ولم يذعنوا للإصلاح الذي أدخله في الجيش؛ ولذلك كان يصدِّرهم في مقدمة الجيش عند الالتحام ليبيدهم ويقضيَ عليهم فيربأ بنفسه عنهم، ويستبدل بهم أبناء السودان — الذين شبوا على الشجاعة والصبر ومقاومة أعباء الحروب — بعد تدريبهم على الفنون الحديثة الحربية؛ لأنه اعتقد أن أبناء مصر لا يصلحون للتجنيد لما ينقصهم من الصفات التي تؤهلهم لذلك.
أما الأسباب المادية فتُلخَّص أيضًا فيما يأتي: أراد محمد علي فتح السودان ليتسنى له بذلك تجديد طرق القوافل التي كانت بين مصر والسودان؛ فيتسع نطاق التجارة بين القطرين، ويناله من هذه التجارة ما يفرضه عليها من ضرائب ومكوس جمة، حتى يسترد ما أنفقه في محاربة الوهابيين، ويكون ذلك موردًا دائميًّا من موارد خزانته، فضلًا عما كان يسمع عن السودان وما فيه من مناجم الذهب الغنية التي يمكن استخراجها والانتفاع بها.
وإن من البواعث التي حرَّكته لفتح السودان ما رآه من أن سعادة مصر متوقفة على استحواذه عليه وضمِّه إلى ملكه؛ لأن ريف مصر متوقف ريُّه على روافد النيل العليا؛ ولذلك أصبح من المحتم أن يكون النهر وروافده تحت سلطة واحدة، ليمكنها بذلك توزيع المياه على حسب الحاجة مع مراعاة المصلحة العامة.
ولما عزم محمد علي على إنفاذ رأيه، ورأى أن فتح السودان أمرٌ من العِظَم بمكان، سيَّر جيشًا بادئ بَدء إلى واحة سيوة لإخضاعها قبل الزحف على السودان، حتى لا تكون مصدر شرٍّ بجواره، فسار هذا الجيش الصغير في (جمادى الأولى سنة ١٢٣٥ﻫ/فبراير سنة ١٨٢٠م)، فأخضع سكان الواحة، وصارت جزءًا متممًا لمصر من ذلك الوقت.
أما حملة السودان فإنها ابتدأت السير من القاهرة في (شوال سنة ١٢٣٥ﻫ/يوليو سنة ١٨٢٠م)، وكانت مؤلفة من ثلاثة آلاف راجل، وألف وخمسمائة فارس، واثني عشر مدفعًا، وخمسمائة من عرب العبابدة تحت إمرة شيخهم «عابدين كاشف» — وكان قد وعده محمد علي بولاية دنقلة بعد فتحها — فتجمع الجيش في أسوان، حيث رُتِّبت هناك الميرة والذخيرة.
ولما خرج إسماعيل باشا — وهو أصغر أولاد محمد علي — لتولي قيادة الجيش اجتاز هو ومن معه الحدود المصرية، ودخلوا أرض دنقلة، حيث تقيم البقية الباقية من المماليك الذين طاردهم إبراهيم باشا كما تقدم والتجَئُوا إلى هذا الإقليم.
فلما علموا بذلك انقسموا قسمين: قسمًا سلَّم صاغرًا بدون معارضة، وآخر ركب رأسه فارًّا إلى كردفان بعد أن تشتت شمله وناله من العناد والذلة ما ناله.
ومما هو خليق بالذكر هنا أن إبراهيم بك الكبير مات بدنقلة قبل الحملة بزمن يسير، وبموته انقرضت رؤساء هذا العنصر الذي حكم مصر ستة قرون تقريبًا.
سار إسماعيل وبيده زمام القيادة العامة ولم يعترضه في طريقه عقبات تُذكر حتى وصل مدينة «كُرْتي»، حيث سحق عرب الشيخية وشتت شملهم في موقعتين فاصلتين؛ ومن ثَمَّ يمم جيشه «بربر»، ودخلها بدون مقاومة في (جمادى الآخرة سنة ١٢٣٦ﻫ/مارس سنة ١٨٢١م). وفي ٤ شعبان من تلك السنة دخل أيضًا مدينة «شِنْدِي» التي سلَّمها الملك «نَمِر»، وتم له إخضاع قبيلة الشيخية. وما زال إسماعيل متوغلًا في البلاد حتى وصل رأس الخرطوم، ثم حوَّل وجهه شطر النيل الأزرق، ولحسن حظه دخل «سنَّار»، وهي حاضرة أكبر إقليم في السودان، بدون معارضة تذكر؛ وذلك أن سلطانها «بادي» وأخاه كانا إذ ذاك يتنازعان الملْك، فنجح إسماعيل في تثبيت عرش «بادي»، الذي قابله بكل تجلة وحفاوة، ثم قَبِلَ أن يكون نائبًا عن محمد علي في هذه الأرجاء الشاسعة مع الاعتراف بسلطانه. ومن هناك أرسل إسماعيل آلافًا من العبيد إلى أسوان؛ حيث أُعدَّ لهم معسكر لتدريبهم على الفنون الحربية الحديثة.
وتفشَّى المرض في جيش إسماعيل أثناء إقامته بسنار، حتى اضطُر إلى أن يطلب مددًا ومئونة من أبيه لانحطاط قوة الجيش لقلة عدده وفتور عزيمته، ذلك إلى أن جنده كانوا بين قبائل شتى معادية لهم، ولا يمكنهم أن يصدوا هجماتهم إذا ثار ثائرهم وخرجوا عليهم.
لذلك كان إسماعيل قلقًا مضطربًا، ولكن هدأ روعه وسكن اضطرابه إذ علم بوصول المدد إليه، فرجع قافلًا منحدرًا إلى ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض، حيث وصل المدد الذي أرسله أبوه تحت إمرة أخيه «إبراهيم باشا»، فلما وصل إسماعيل بجيشه والتقى بأخيه اتفقا على تقسيم العمل والجيش معًا؛ فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه إلى أعالي النيل الأزرق بقدر استطاعته، وأما مهمة إبراهيم فهي الاستكشاف عن النيل الأبيض من الجهة الغربية، وكان الباعث له على ذلك رغبته في الوصول بجيشه إلى المحيط الأتلنتي إذا كان النيل الأبيض متصلًا بنهر النيجر، وإذا لم يتحقق له ذلك عاد إلى كردفان وعبَّأ جيشًا يسيرُ به نحو الشمال مخترقًا الصحراء حتى يصل إلى طرابلس، ومن هناك إلى البحر الأبيض المتوسط. وإن هذه الخطة لتدل صراحة على مقدار ما كان يطمح إليه محمد علي وأولاده، كما تدل على مقدار هممهم العالية وثقتهم بأنفسهم.
وصل إسماعيل في زحفه على النيل الأزرق إلى «تومات»، أما إبراهيم باشا فقد اعترضه مرض شديد، حال بينه وبين تنفيذ خطته، واضطره إلى العودة لمصر بعد أن وصل جيشه إلى جبل «دِنْكا» جنوبًا.
وفي منتصف عام (١٢٣٧ﻫ/١٨٢٢م) أرسل محمد علي جيشًا ثالثًا تحت قيادة صهره «محمد بك الدفتردار» لغزو كردفان، فهزم بعض القبائل عند مدينة «بارا»، واستولى على الأبيض، وضم إقليم الأبيض إلى مصر.
ومما قام به هذا الجيش أيضًا الانتقام من «نمر» ملك شندي على نكايته بإسماعيل ومن معه.
وذلك أن إسماعيل وهو عائد إلى مصر ظافرًا منصورًا أهان نمرًا إهانة شنيعة، فأسرَّها نمر في نفسه، وأخذ يفكر في طريقة الانتقام من إسماعيل، حتى بيَّت رأيه على أن يأدب مأدبة فاخرة يدعو فيها إسماعيل ومن معه، فلما تم له ذلك، ولبَّى دعوته إسماعيل ومن معه، أمر أتباعه وأشياعه بأن يجمعوا حول نُزُله حطبًا ومواد ملتهبة ثم يضرموا فيها النار، ففعلوا فشبت النار في النُّزُل، فدمرته وحرقت جميع من فيه، وكان بين المحروقين إسماعيل، الذي لبَّى دعوته جاهلًا بنيته الخبيثة.
figure


على أن الجيش لم يظفر بقتل نمر، ولكنه أحرق شندي بعد أن أخضع كل الإقليم، وبعد ذلك بنى مدينة الخرطوم سنة (١٢٣٨ﻫ/١٨٢٣م)، وجعلها حاضرة البلاد.
ومما تقدم نعلم أن الحملة على السودان لم تقم بتحقيق جميع الأغراض التي كان يرمي إليها محمد علي؛ لأنه لم يجد في السودان ذهبًا يفي بنفقات استخراجه من مناجمه، ولأن طرق القوافل لم تثمر لكثرة الضرائب الفادحة التي كانت تجبى على البضائع عند الحدود المصرية. أما التجنيد من أبناء السودان فلم يتحقق تمامًا؛ لأنه جنَّد منهم جيشًا عظيمًا، ولكن جوَّ مصر لم يكن ملائمًا لهم؛ فمات عدد عظيم من هذا الجيش؛ ولذلك أضرب محمد علي عن التجنيد منهم، وعاد إلى التجنيد من المصريين.
وقد ازداد الاتجار بالرقيق بعد فتح السودان زيادة عظيمة، حتى اضطُرت إنجلترا وفرنسا للتدخل في الأمر، فوعد محمد علي أن يقضيَ على هذه الحرفة الشنيعة التي تنافي الإنسانية؛ ولذلك خرج لزيارة السودان عام (١٢٥٤ﻫ/١٨٣٨م)، وأمر بمنع بيع الرقيق جملة، ولكن رغم ذلك كله بقي الاتجار به منتشرًا إلى زمن قريب، ولم يضمحل تمامًا إلا بعد الاحتلال البريطاني
 
Comment

امل مفقود

نجوم المنتدي
إنضم
5 مايو 2021
المشاركات
12,575
مستوى التفاعل
4,282
مجموع اﻻوسمة
2
محمد علي والي مصر
شكرا للموضوع المميز
تسلم الايادي
 
Comment
أعلى