آذار، يفتح أبواب الأسطح كما لو أنّه يفتح ذاكرةً نائمة في حجر المدينة.
السماء ليست سماءً، بل مرآة هائلة تعكس ارتجاف الأرواح، مكتظة بالطائرات الورقية التي تشبه فراشاتٍ مصلوبة على خيوطٍ من قلق. الأذرع ترتجف، تمتد لتقبض على الريح، كأنّها تحاول الإمساك بما لا يُمسك: معنى عابر، أو حياة تُفلت منها.
الضحكات تتناثر فوق الجدران، لكنها ليست ضحكات بريئة؛ إنها أقنعة على وجوهٍ تعرف أنّ السقوط ينتظرها من فوق هذه الحواف الضيقة. الرجال عند الأطراف يزدحمون كأنهم يحرسون شيئًا لا يعرفونه، وكل خيطٍ يعلو نحو السماء ليس انتصارًا، بل رباط خفي يشدّهم أكثر إلى هاوية لا تُرى.
الأطفال يركضون، وصوت أقدامهم على الخرسانة يشبه دقاتٍ على بابٍ مغلق منذ قرون. تحت الأسطح هوّة، لا جغرافيا لها، صمتٌ واسع كالموت.
وفي الركن، طاولة صغيرة تنتظرهم، أطباقها ممتلئة لا بالطعام، بل بالوهم الجميل أنّ الحياة يمكن أن تُطعم جوعها المؤجل. كل لقمة وعد، وكل وعد مرهون بيومٍ آخر.
ما يبدو احتفالًا هو في جوهره مرثية مؤجلة:
السماء مشدودة بخيوطٍ واهية،
والأجساد تحاول الطيران وهي لا تعرف أنّها محاصرة بجدرانها الداخلية.
كل خيط ليس سوى سؤال يجرّ صاحبه إلى الأعلى،
ثم يذكّره أن الريح نفسها لا تملك وجهة.الليل يقترب بهدوء، ينسل بين الأسطح كظلّ طويل، يسحب معه ضوء النهار المتفجّر إلى مخابئه. الأنفاس تصبح أبطأ، كل ارتجاف يتخذ شكل همسة، وكل ضحكة تتحول إلى صدى بعيد، كأن المدينة نفسها تتأمل في صمتها قبل أن تغفو.
وفي المسافة، خطوط الظلام تتشابك مع خيوط الضوء الأخيرة، مثل حبالٍ مرسومة على قماشٍ شفاف. هناك، حيث الهواء يلتقي بالحافة، يلوح الأطفال بحركاتهم البريئة، لكن في كل حركة يكمن تذكيرٌ صارم بأن الأرض تنتظرهم، مثل أمٍ صامتة تعرف أنّ البراءة عابرة.
الطاولة الصغيرة في الركن تهتز مع نسيم المساء، أطباقها تلمع كعيونٍ تراقبهم بصمت، كل لقمة منها تهمس بأن الحياة ليست إلا حلمًا مؤجلًا، وكل وعد بداخلها يطرح سؤالًا بلا إجابة.
الرجال عند الأطراف لا يزالون ثابتين، لكن كل قلب منهم يرتجف، كل عين ترقب الخيط الرفيع الذي يعلو إلى السماء، وكأنّ كل خيط يحمل معهم سرّهم، كل خيط يذكرهم أنّهم أسارى في قصتهم الخاصة، أسارى في أنفسهم، بينما الريح تستمتع بحريتها وتغني لهم لحن الهزيمة المحتملة.
في النهاية، كل شيء هنا يهمس بلغة واحدة:
السماء ليست سوى مرآة، والأرض ليست سوى سريرٍ واسع، والإنسان، مهما علا، سيظل بين الحواف، يحاول الإمساك بما لا يمكن الإمساك به، ويضحك على أوهامه، ويستمر في الركض رغم معرفته بأن هاوية الانتظار لا تهدأ.