القاهرة 1879
كانت الساعة تشير إلى الواحدة من بعد ظهيرة يوم 30 يونيه/ حزيران من ذلك العام عندما وصل الخديو إسماعيل إلى محطة العاصمة - سكة حديد مصر- فى طريقه إلى القطار الذى سيحمله إلى الإسكندرية بعدما بلغ مجموع الديون التى اقترضها من الخارج حوالى 33 مليون جنيه مصرى –حينذاك– (تساوى الآن 167 مليار جنيه تقريباً) فى أقل من سبع سنوات! الآن هو على الرصيف.. والآن بجواره -على الرصيف أيضاً- كبار القوم يقفون فى سأم، وحزن، وغضب مكتوم! هو ينظر إلى المجهول الذى فى طريقه إليه. وهم ينظرون، ويتذكرون – فى حسرة– زمن (ولى النعم) الذى زالت عنه كل النعم بسبب «بذخه وإسرافه، وعدم تقديره للعواقب»! الآن هو يمشى على الرصيف خطوة -أو خطوتين- ثم يتوقف! هو يبتسم ابتسامة ساخرة -أو ابتسامتين- ثم يتوقف! هو يتحدث إلى ابنه «توفيق» بكلمة -أو كلمتين- ثم يتوقف! ليبقى هذا المشهد التاريخى للخديو ورجاله على الرصيف فى مجمله شاهداَ على انتهاء مرحلة حكمه – جلس على عرش مصر 17 عامًا– التى اختلف حولها المؤرخون فمنهم من يراه «أقام مشروعات لتمدين مصر وبناء حضارتها الحديثة؛ ومنهم من يراه حَمّل البلاد والعباد قروضا خارجية وضرائب داخلية أوقعتها تحت الوصاية الأجنبية مما تسبب فى احتلال الإنجليز لمصر. الآن أفندينا يتوقف عن السير البطىء. يبتسم فى سخرية، ثم يهمس فى أذن ابنه توفيق قائلًا: «كن يا بنى أسعد حالًا من أبيك»! هز الابن رأسه فى صمت ولم يتكلم!
(المحطة - بعد مرور 10 دقائق)
نظر الخديو يمناه ويسراه وعدّل من هندامه ونظر مندهشًا إلى عربات مسدولة الستائر تقف على الرصيف المقابل تخرج منها صيحات بكاء من بعض النسوة -هن بقايا حريمه- اللاتى قرر تركهن فى مصر، بعدما انتقى منهن من تصلح لمرافقته فى سفره الأخير حيث استمع إلى أصواتهن، يصرخن، ويهتفن.. قائلين:
«ما حد خالى من الهم
حتى الحصى فى الأراضى
ما له مصارين.. ولا.. دم
ولا حَد من الهم فاضى»!
هز الخديو رأسه، وأشار بالتحية لهن قبل مواصلة تحركه الجنائزى الحزين إلى استراحته الخاصة بالمحطة التى ما أن وصل إليها حتى فوجئ بمشهد آخر مختلف لم يكن فى حسبانه، ولا فى حسبان السادة كبار قومه من رجال الباشا، وحاشيته، الذين وصلوا للمحطة قبل وصوله ليكونوا فى وداعه بعد سقوط عصره، وانتهاء أمره، وغروب مصره!
وكانت المفاجأة هى خروج أصوات نسائية أخرى من الرصيف المقابل ارتفع صراخها فى تهليل وسعادة مصحوبة بزغاريد - قيل إنهن من حريم إسماعيل باشا صديق (المفتش) وزير المالية - جئن يبدين السخرية، والشماتة، والتهكم على الرجل الذى قتله غيلة فى واحدة من أشهر حوادث الموت الغامض - التى جرت كعادة الصراع على السلطة- داخل أروقة بلاط الحكم فى صمت وهدوء وخسة! نظر الخديو لهن ولم يحرك ساكنًا فيما ارتفعت أصواتهن تواصل الطرب والفرح.. صارخات:
« فَرطت قَلعىِ ما جانيش ريح
وعاودت ع البر ناوى
يا ما ناس زينا مجاريح
لكن.. صابرة ع البلاوى»
هز الخديو رأسه ونظر إلى الجمع الغفير من الأمراء والوزراء والتجار والأعيان والعمد والمشايخ ثم اتكأ على كتف ابنه توفيق وسأله: «ما هذه الأصوات»؟ رد: «يا مولاى.. هؤلاء من نساء إسماعيل صدّيق (المفتش). هز الخديو المخلوع رأسه ونظر إلى الناحية التى فيها النسوة، وعاد بالذاكرة إلى يوم الجمعة 18 نوفمبر 1876 عندما (غاب) صدّيق المفتش عن الحياة واختفى إلى الأبد بعد آخر لقاء جرى بينهما.
****
«الندل ميت وهو حى
ما حد يحسب حسابه
كيفه كيف الترمس النىِّ
حضوره يشبه غيابه»
(المحطة - بعد مرور 10 دقائق)
نظر الخديو يمناه ويسراه وعدّل من هندامه ونظر مندهشًا إلى عربات مسدولة الستائر تقف على الرصيف المقابل تخرج منها صيحات بكاء من بعض النسوة -هن بقايا حريمه- اللاتى قرر تركهن فى مصر، بعدما انتقى منهن من تصلح لمرافقته فى سفره الأخير حيث استمع إلى أصواتهن، يصرخن، ويهتفن.. قائلين:
«ما حد خالى من الهم
حتى الحصى فى الأراضى
ما له مصارين.. ولا.. دم
ولا حَد من الهم فاضى»!
هز الخديو رأسه، وأشار بالتحية لهن قبل مواصلة تحركه الجنائزى الحزين إلى استراحته الخاصة بالمحطة التى ما أن وصل إليها حتى فوجئ بمشهد آخر مختلف لم يكن فى حسبانه، ولا فى حسبان السادة كبار قومه من رجال الباشا، وحاشيته، الذين وصلوا للمحطة قبل وصوله ليكونوا فى وداعه بعد سقوط عصره، وانتهاء أمره، وغروب مصره!
وكانت المفاجأة هى خروج أصوات نسائية أخرى من الرصيف المقابل ارتفع صراخها فى تهليل وسعادة مصحوبة بزغاريد - قيل إنهن من حريم إسماعيل باشا صديق (المفتش) وزير المالية - جئن يبدين السخرية، والشماتة، والتهكم على الرجل الذى قتله غيلة فى واحدة من أشهر حوادث الموت الغامض - التى جرت كعادة الصراع على السلطة- داخل أروقة بلاط الحكم فى صمت وهدوء وخسة! نظر الخديو لهن ولم يحرك ساكنًا فيما ارتفعت أصواتهن تواصل الطرب والفرح.. صارخات:
« فَرطت قَلعىِ ما جانيش ريح
وعاودت ع البر ناوى
يا ما ناس زينا مجاريح
لكن.. صابرة ع البلاوى»
هز الخديو رأسه ونظر إلى الجمع الغفير من الأمراء والوزراء والتجار والأعيان والعمد والمشايخ ثم اتكأ على كتف ابنه توفيق وسأله: «ما هذه الأصوات»؟ رد: «يا مولاى.. هؤلاء من نساء إسماعيل صدّيق (المفتش). هز الخديو المخلوع رأسه ونظر إلى الناحية التى فيها النسوة، وعاد بالذاكرة إلى يوم الجمعة 18 نوفمبر 1876 عندما (غاب) صدّيق المفتش عن الحياة واختفى إلى الأبد بعد آخر لقاء جرى بينهما.
****
«الندل ميت وهو حى
ما حد يحسب حسابه
كيفه كيف الترمس النىِّ
حضوره يشبه غيابه»
اسم الموضوع : القاهرة 1879
|
المصدر : الحضارة المصرية القديمة