المنمنمات اليابانية تقليد ثقافي تراثي يكرس لحرفية الأداء ودقة الصنعة
دميتان من المنمنمات اليابانية تعكسان الثقافة اليابانية
منْ منا لم يملك في طفولته بيتاً للدُمى ممتلئاً بالأثاث المصغر وقطع اللعب التي تكاد تكون حقيقية، منْ منا لم يملك سيارات السباق بمختلف أنواعها وأشكالها، أو أدوات للمهن المختلفة كالطبيب أو المهندس أو المعلم أو مصفف الشعر أو النجار أو غيرها.. منْ منا لم يملك بطفولته أصدقاء مصغرين منمنمين من البشر والحيوانات والحشرات وغيرها.. إذا كنت تعتقد أن ألعاب الطفولة المصغرة وأدوات اللهو المنمنمة ما هي إلا مجرد ألعاب ومحض تسالي لملء أوقات الصغار فأنت مخطئ تماماً.. فهناك عالم متكامل من الفن والفنانين والمتذوقين والمريدين يعملون فيما يسمى بفن المنمنمات أو المصغرات وهو مثله مثل فن الرسم والتصوير والنحت.. بل هو فن يجمع كل هذه السياقات جميعاً.
اليابانيون مفتونون بالمنمنمات
مشهد يجمع تكويناً من الكائنات المنمنمة اليابانية وقطعة من الحلوى فالمنمنمات اليابانية عالم من الفن والدقة
وفقاً لموقع web-japan.org، فاليابانيون مفتونون بالمنمنمات والأشياء الصغيرة، ويظهر عشقهم لهذا الفن بقوة في كثير من تفاصيل حياتهم وفنونهم وثقافاتهم، فالتقنيات اليابانية، حسب المثل الياباني "كل الأشياء الصغيرة تكون رائعة". مثل أميجورومي، التي تتكون من حياكة حيوانات صغيرة، أو نتسوكي والتي تعني إنشاء منحوتات مصغرة، تثير إحساساً حقيقياً بأنها حقيقية وطبيعية من فرط دقتها.
من خلال المنمنمات وفنونها يمكننا التعرف إلى المقاربات والتعابير الجديدة التي قدمها الفنانون اليابانيون المعاصرون لهذه المنحوتات الخشبية الصغيرة التي، على الرغم من محاولة تطويرها لتظهر تنوعاً كبيراً وتكون مثالاً صادقاً على الثقافة اليابانية التي تتماهى مع الطبيعة أو تتصل مع الفولكلور أو الميتولوجيا أو السياقات الجديدة التي يلتقي فيها "القديم" و"الجديد".
العمل الدقيق هو إحدى خصائص اليابان
إن حب اليابانيين للمنمنمات ليس مجرد نزوة عابرة أو هواية غريبة. بل إنه تقليد ثقافي راسخ يعكس تقدير هذا الشعب الحضاري للحرفية في الأداء والدقة والاهتمام بالتفاصيل واليقين بأن الأشياء الصغيرة يمكن أن تحمل معنى عميقاً. سواء كان ذلك في شكل لعبة كبسولة أو نموذج معماري أو شجرة بونساي أو ديوراما، فإن فن التصغير في اليابان هو شهادة على تفاني البلاد الدائم في خلق الجمال، حتى في المصغرات وأصغر الأحجام.يشرح المصور والمدير الفني الياباني تاتسويا تاناكا عبر صفحته الرسمية عبر موقع Instagram، كيف تصنع المنمنمات: "كل قطعة هي نتيجة عملية طويلة من الصبر الكبير، حيث ينحت الفنانون خشباً لا يتجاوز سمكه بضعة سنتيمترات يدوياً، باستخدام تقنيات اكتسبوها على مدار سنوات عديدة في أيام عمل طويلة"، لافتاً أن العمل الدقيق هو إحدى خصائص اليابان حيث المهارة والمثابرة لدى الحرفيين الذين يواصلون العمل المضني مع مرور الوقت لإنشاء روائع تكاد تكون حقيقية بكل المقاييس، وكأن العالم تم تصغيره ونمنمته للحصول على نسخة منه يمكن حملها على كف اليد الواحدة، كل هذه الدقة والفرادة أدى إلى ظهور التكنولوجيا المتطورة في اليابان.
كيف بدأت المنمنمات في اليابان؟
دمى المنمنمات اليابانية
- خلال القرن السابع، عندما زار المبعوثون اليابانيون الصين أحضروا أشجاراً صغيرة مقلمة بعناية في حاويات؛ أصبحت هذه فيما بعد شكلاً فنياً تراثياً ثميناً للبونساي، وعلى مدى القرون التالية انتشرت زراعة البونساي، كأشجار فردية أو في كثير من الأحيان كجزء من المناظر الطبيعية المصغرة بالكامل، وأضحت هواية شائعة لدى الأرستقراطيين.
- شهدت فترة إيدو (1603-1868) ظهور تقاليد حرفية أخرى تقدر الصنعة المعقدة والتفاصيل الرائعة، من أكسسوارات الكيمونو إلى أدوات الحياة العادية، كان الحرفيون المهرة في مجال المعادن ينتجون تصاميم معقدة للسيوف والدروع التي كانت تستخدمها طبقة النخبة من محاربي الساموراي.
- مع انتقال السلطة إلى الإمبراطور خلال فترة إصلاح ميجي (1868)، مُنع الساموراي رسمياً من حمل السيوف، الأمر الذي أدى إلى خروج هؤلاء الحرفيين من العمل. وللبقاء على قيد الحياة، تحولوا إلى صناعة الألعاب والصناديق والمزهريات وغيرها من المنتجات، وكثير منها للتصدير إلى الخارج لتلبية الطلب الجديد من أوروبا على السلع اليابانية.
- بعد ذلك أدى انفتاح التجارة مع الغرب في عصر ميجي إلى خلق شهية للمنتجات اليابانية في الخارج (عادة ما تكون صغيرة الحجم لسهولة التصدير، مثل منحوتات نتسوكي التي كانت تحظى بشعبية كبيرة)، كما ألهم الحرفيين المحليين باستيراد منتجات جديدة ومبتكرة ــ بما في ذلك المنمنمات مثل بيوت الدمى ومجموعات القطارات النموذجية.
- وقد أدى هذا التاريخ، إلى جانب العدد الكبير من الحرفيين المهرة وظروف التصدير المواتية، إلى جعل اليابان مركزاً لإنتاج الألعاب بحلول أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. وعقب الحرب العالمية الثانية، ومع إعادة بناء البلاد بدأت حرفة تصنيع المنمنمات المعقدة بشكل شاق في الانتشار بقوة، وحتى اليوم تُعد اليابان ملكة المنمنمات، ومركز المجتمع الهواة حول شخصيات الحركة وبيوت الدمى والديوراما والأطعمة المصغرة وجميع أنواع المركبات النموذجية (القطارات والطائرات والسفن والسيارات) وغيرها.
- في العصر الرقمي، تمكن المعجبون العالميون أيضاً من الوصول إلى اتجاهات المنمنمات اليابانية على وجه التحديد واحتضانها عبر المدونات ويوتيوب وإنستغرام، مثل ظهور مقاطع فيديو طهي الطعام المصغرة، وصور الديوراما لواجهات المتاجر في عصر شووا ، وحتى الأعمال المجهرية "التجريبية" للفنانين اليابانيين.
أمثلة للمنمنمات اليابانية
منحوتات النيتسوكي
في عالم النيتسوكي، يلتقي الشكل والوظيفة لإنتاج العجب والبهجة. هذه المنحوتات المصغرة صغيرة بما يكفي لتناسب راحة اليد، وتدعو المرء لتجربة الثقافة اليابانية من فترة إيدو النابضة بالحياة في البلاد (1603-1868). كانت النيتسوكي (تُلفظ نتس-كي) وكانت عبارة عن أكسسوارات أزياء شخصية تُرتدى على حزام كيمونو الرجل وتعكس براعة الحرفيين، وتتميز بتصميمات مليئة بالروح والتفاصيل المذهلة والأسلوب الممتع.
منحوتات أميجورومي
الأميجورومي صغيرة ولطيفة بالفعل، إلا أنها تتمتع بأهمية ثقافية كبيرة، يعود الفضل في ظهور الأميجورومي إلى محاربي الساموراي، حيث كانوا يحيكون الجوارب بأصابعهم، بهدف الحصول على درجة أعلى من حرية الحركة. ولعدة سنوات كانوا الوحيدين الذين يصنعون الحياكة الدائرية (التي تشكل أساس الأميجورومي).عادةً ما تُحاك هذه الدمى الصغيرة بالكروشيه في أجزاء حلزونية منفصلة يتم حشوها وخياطتها معاً، ولكن هناك استثناء أيضاً (عندما تكون الدمية ذات رأس وجذع فقط، يمكن حياكتها بالكروشيه في نفس واحد)، على أنه بالأساس تكون الدمى صغيرة الحجم، ولها رأس كروي كبير بشكل غير متناسب يقع على جسم أسطواني بأطراف صغيرة وقصيرة. خارج اليابان، يُطلق على هذا النمط الذي يشبه الرسوم المتحركة عادةً اسم "chiques"، يتميز وجه الأميجورومي الأصلي بميزات مميزة: فالعينان متباعدتان بشكل كبير، والفم يقع بينهما مباشرة. وهذا يخلق ذلك التعبير اللطيف المميز بأسلوب "كاواي" ("كاواي" هي الكلمة اليابانية التي تعني الحلو). يمكنك ملاحظة هذه الميزات في جميع أنحاء الثقافة اليابانية.
اسم الموضوع : المنمنمات اليابانية تقليد ثقافي تراثي يكرس لحرفية الأداء ودقة الصنعة
|
المصدر : هل تعلم