تواصل معنا

تفسير سورة البقرة( آية الدين 282 ) قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...

Alexandera

الــــــدرة " فقيدة الغابة "
نجوم المنتدي
إنضم
12 مايو 2021
المشاركات
9,526
مستوى التفاعل
13,430
العمر
21
الإقامة
𝓟𝓐𝓛𝓔𝓢𝓣𝓘𝓝𝓘𝓐𝓝
مجموع اﻻوسمة
8
تدبر آية الدين ج ( 1 ) .. فعالية ملوك المواضيع " الفريق الأحمر "




تفسير سورة البقرة( آية الدين 282 )


قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [282].


معنى تداينتم: داين بعضكم بعضاً، والمراد بالدين هو المال الذي يكون في الذمة من قرض أو سلم أو ثمن مبيع مؤجل، سواء من عروض المال أو العقارات والمجوهرات وغير ذلك. وهذا إرشاد عظيم كريم من الله لعباده بحفظ أموالهم وضبطها بالكتابة أو الاستيثاق بالرهن، وهو من معجزات القرآن ومعجزات من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم حيث ظهرت فائدة هذا الإرشاد بهذه الآية في أحدث عصر يزعم أهله التقدم والوعي العقلي والتفوق في الفنون الاقتصادية، ومع ذلك لم يأتوا بجديد، ولم يستطيعوا أن يشرعوا لكتابة العقود المالية أكثر مما جاء به القرآن في هذه الآية، بل بعضهم سلك تعقيداً باعتبار الكتابة في التجارة الحاضرة التي هي كالمعاطاة بين المتبايعين، حتى اضطره الواقع إلى إلغائها، فأخذ يتبجح بأنه اهتدى إلى فتح جديد في عالم الاقتصاد، ولم يعلم أن القرآن سبقه إلى ذلك بأربعة عشر قرناً حيث قال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾.


وقد جاء الله بآية حفظ الدين بعد الأمر بالصدقات والنهي الشديد عن الربا لعدة أمور:

أحدها: أن الكلام في الأموال بدأه الله بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله، وذلك محض الرحمة للفقير، ومنتهى الجود في البذل للعقيدة، ثم ثنى الله ذلك بالنهي الشديد عن الربا الذي هو محض القساوة بظلم المحتاج، ثم ثلث بذكر ضبط الدين والتجارة بالكتابة أو الرهن، وهذا محض العدالة في ميدان الاقتصاد، فقد أمر الله عباده ببذل المال حيث ينبغي بذله في سبيله الصحيح، وأمر بإطراحه حيث ينبغي طرحه، وذلك إذا كان من طريق الربا، وأمر بتأخيره حيث ينبغي التأخير بإمهال المعسر وعدم إرهاقه إلى إيساره، ثم أمر بحفظه حيث ينبغي الحفظ، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من جميع العقود والمعاوضات والاستيثاق بالرهن إذا لم يحصل الإشهاد والكتابة لأن من يضيع ماله بالإهمال يكون مذموماً عند الناس وغير مأجور عند الله، كما قال الحسن رضي الله عنه في المغبون بالبيع.


ثانيها: أن الله لما أنزل سلطة صاحب الربا بتحريمه وإبطال أرباحه ولم يبق له سوى رأس ماله، وقد أمره الله بإمهال المعسر، وقد يضيع حقه بالنسيان أو الإنكار، فكان من الضروري ضبطه بالكتابة والشهود، أرشد الله عباده إلى ذلك.


ثالثها: أن في آية الدين احترازاً أو استدراكاً مما ينشأ من الفهم الفاسد أن المال مذموم أو أنه ليس شيئاً وذلك للمبالغة بالأمر في إنفاقه وتحريم الربا الذي ينميه، فيتوهم متوهم أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الكتب المحرفة عند بعض الطوائف، فكأن الله يقول: إنا لا نأمركم بإهمال المال والزهد فيه وإضاعته ولا نأمركم بترك استثماره واستغلاله وإنما نأمركم بمواصلة التكسب وطلب المال من طرقه المشروعة وأن تنشطوا في اكتسابه، وتقوموا بحفظه، ليتسنى لكم إنفاقه في الطرق المشروعة والمندوب إليها.


ويؤيد هذا المعنى قوله في الآية الخامسة من سورة النساء: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 5].


يعني تقوم بها منافعكم ومصالحكم، وما ورد في الحديث النبوي: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))[1].


رواه الإمام أحمد والطبراني في معجميه الأوسط والكبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بسند قوي.


فاكتساب المال من الوجوه الحلال شعبة من شعب الإيمان، كما قدمنا ذلك، ولكن بشرط أن يجعل وسيلة، فأما الذي يعكس الأمر ويجعله غاية فهو مذموم الذي دعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدعوات المتقبلات حيث قال: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم...))[2]. إلى آخر الحديث المشهور والذي أسلفنا ذكره وشرحه.


فطلب المال مشروع وممدوح خلافاً لما يتوهمه بعض المتوهمين جهلاً منه أو محاولة للطعن في الإسلام، ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصودة لما جاءت آية الدين مرادفة لآيات الربا ومشتملة على المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه بأسلوب مسهب مخالف لأسلوب القرآن في الإيجاز.


وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾. فيه توكيد ثان لحفظ الدين وسائر الحقوق والعهود بطريق أولى، لأن مرور الزمن مدعاة للنسيان، وموت الشهود أو أحد الطرفين ذوي العلاقة بدون توثيق للحق مدعاة للإنكار وأكل أموال الناس بالباطل، فضبط الحق بالوثيقة المستقلة فيه احتراز من ذلك، كما فيه احتراز أيضاً من الوقوع في الخلافات المستغلة، وبضبط الديون وسائر الحقوق العقود يعلم كل من الطرفين المتعاقدين ما له وما عليه في الحاضر والمستقبل، كما يعلم ورثتهما ومن له علاقة بهما ذلك.


وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ احتراز من تهمة الدائن في مباشرته الكتابة بينه وبين المدين وخشية من أن يلحن في الكتابة أو يكتب شرطاً أو أجلاً لم يوافق عليه أحدهما ولا يرضاه، فجعل الله بينهما واسطة للتوثيق، وهو كاتب أجنبي ليس له علاقة بما يكتب بينهما بالعدل، يعني عادل في كتابته يساوي بين الطرفين، لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحق والنفوذ ما ليس له، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئاً، ولكن يلتزم الإبانة التامة، فتخصيص الكاتب بالعدل يكتب بين المتعاقدين لهذه الأسباب ولسبب آخر هو أن الأمر بالكتابة وضبط الحقوق أمر عام لجميع المسلمين، وفيهم الجاهل بأساليب الكتابة، وفيهم الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، فكان من الضروري إقامة كاتب بالعدل، واشتراط العدل فيه يستلزم علمه بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق وهي صحيحة لا تكون مخلة بالعقد، لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يكتب أجلاً باطلاً في الشرع ونحو ذلك، بل قد يكتب ما يحصل فيه الالتباس، فيقع الخلاف والخصومة، فلا بد أن يكون عند الكاتب شيء من الفقه أو البصيرة، ولو بمجالسة العلماء أو أهل الخبرة في المعاملات، لأن الله سبحانه أقامه طرفاً ثالثاً مستقلاً بين المتعاقدين للاحتياط في ضبط الحق، فلابد أن يكون على الأقل أرفع مستوى من أحدهما، فإن كانا أعلم منه ولم يجدا غيره جاء دور الإملاء عليه، كما جاء في التأكيد الخامس.


وقد جاء في التأكيد الرابع قوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾. وهذا التأكيد فيه ملحظان:

أحدهما: أن تعليم الله له ليس خاصاً بصنعه رسم الكتابة، بل يعم ما وفقه الله لمعرفته من فقه الأحكام، فالكاتب ينبغي عليه أن يكون عالماً بالإملاء الحرفي، وعنده إلمام بفقه المعاملات والمصطلحات العرفية.


وقد قدم الله صفة العدالة على صفة العلم، لأن من كان عدلاً سهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق، لأن العدالة تؤدي إلى ذلك وتهدي صاحبها إلى ما ينتفع به وينفع غيره بخلاف العلم بدون عدالة، فإن مجرد العلم لا يهدي إليها وأكثر الفساد يجري من العالم الفاقد العدالة، لا يجري من عدل جاهل أبداً، ولا يعجب القارئ أو السامع لربطنا العلم بالكتابة، فإن الذي يتصدر لكتابة عقود الناس ووثائقهم ويعتمد عليه الناس في ذلك هو بمنزلة فيصل بين الناس كحاكم حر متبرع بقلمه وفكره، فلا بد أن يكون له علم بمعنى ما يكتب وما يملى عليه حتى لا ينقلب خيره إلى شر.


ثانيهما: ذلك التذكير اللطيف من الله بنعمته عليه حيث قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾ ففي هذا دليل على أنه يجب عليه القيام بشكر هذه النعمة بإجابة الدعوة إلى الكتابة دون رفض ولا تلكؤ، ولذلك لم يكتف الله بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل صرح بالأمر بها تصريحاً واضحاً بقوله: ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾.


ويأتي من الله سبحانه التأكيد الخامس بقوله: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ يعني يلقي عليه ويصرح له بما يريد أن يكتب عليه ليكون إقراره حجة عليه تثبته الكتابة حسب إملائه على الكاتب. والإملاء والإملال بمعنى واحد، والأصل فيه اللام.


ثم يأتي التأكيد السادس مربوطاً بالوجدان الديني، وهو قوله سبحانه: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾. يعني يجب عليه أن يلتزم تقوى الله وخشيته ومراقبته فيما يمليه، فلا ينقص منه شيئاً، ولا يملي ما فيه تلبس أو تدليس، فالله سبحانه يذكره بالتقوى حتى لا يبخس من الحق شيئاً، وإن قل ليلتزم تقوى الله الذي رباه بنعمته وسخر له قلب الدائن، فبذل له ماله الغالي عليه، فإن هذا في لطف الله وتعطيفه.


ففي هذا الأمر بالتقوى تذكير بجلال الذات الإلهية، وهو من قبيل الترهيب، كما أن فيه ترغيباً بجمال نعم الربوية على شكر الله شكراً عملياً بالاستقامة على ما يحبه الله ويرضاه من التزام الصدق وحسن المعاملة، كما أن فيه الأمر بشكر الدائن باذل المال، وذلك بالاعتراف بحقه كاملاً بإملاء جميع الواجب ليكتبه الكاتب، لأنه لا يشكر الله من لم يشكر الناس، كما ورد في الحديث، وبخس شيء من الحق مخالف للشكر، فإن تذكير الله لمن عليه الحق بتقواه، لأن الإنسان من طبيعته الطمع والشح، فربما يستخفه الطمع ويغلب عليه الشح فينقص شيئاً من الحق الذي عليه، ولكن إذا غلبت عليه تقوى الله اعتدلت طبيعته وحسن توازنه.


ثم يؤكد الله التأكيد السابع لضبط الحقوق بقوله: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾.


وقد أظهر الله الذي عليه الحق في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان، كما قال أهل المعاني. والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف لصغره أو ضعف رأيه وعقله، وقيل هو العاجز الأحمق، وعند الشافعي أنه المبذر لماله، المفسد لدينه.


وقد ذكر الله سبحانه في هذه الجملة من الآية ثلاثة أصناف لا يصلح إملاؤهم ولا تصح الكتابة عليهم إلا بواسطة أوليائهم، وأولهم السفيه الذي لا يحسن التصرف بالمال لضعف عقله أو تبذيره، والثاني الضعيف لصغره أو هرمه، والثالث الجاهل الذي لا يستطيع الإملاء، ويلحق به الأخرس والألكن، فهؤلاء الأصناف لابد لهم ممن يتولى أمورهم إما بتعيين حاكم أو رجال محتسبين.


وقد اكتفى الله في أمر الولي بوصفه بالعدالة فقط ولم يأمره وينهاه بمثل ما أمر من عليه الحق أو نهاه في التأكيد السادس، لأن من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه، والله أعلم.


أما التأكيد الثامن فهو قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ يعني استحصلوا على شهادة رجلين من رجالكم المسلمين، سواء ممن حضر العقد أو سمع الإقرار، فقوله سبحانه: ﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ حصر للمسلمين في قبول الشهادة دون غيرهم من الكفار على اختلاف مللهم. ويدل سياق الآية على أن وصف الكمال معتبر في الشهود لقوله تعالى: ﴿ ذَوَيْ عَدْلٍ ﴾ [الطلاق: 2] كما هو معتبر في الكاتب والولي.


وقد فصل العلماء معنى العدالة بما هو معروف لائق جامع للدين والفضيلة والعفة والمروءة والنزاهة من كل ما يعاب أو يشان.


وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾. يعني فإن لم يحصل رجلين استشهد رجل وامرأتان ممن يرضى دينهم وأمانتهم ويطمئن إلى عدالتهم، وإنما وصف الله الرجل بعدل امرأتين لضعف أدمغة النساء عن الرجال كما قرره الطب وعلم النفس في العصر الحديث، ولضعف شهادة النساء أيضاً وقلة ثقة الناس بها، ولذلك وكل الله الأمر فيه إلى رضا المستشهدين، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾.


ثم أبان علة دقيقة لجعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله سبحانه: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ أي حذراً من أن تخطئ في أداء الشهادة أو تنسى لعدم ضبطها وقلة عنايتها وانشفاف قلبها بما خلقت له وانشغالها بتدبير المنزل وتربية الأولاد الذين يذهلونها.


فلهذه الأسباب كانت كل واحدة منهما عرضة للخطأ والنسيان، فاحتيج إلى إشهاد الثنتين في مقابلة الرجل، حتى إذا ضلت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى. ولهذا أعاد الله لفظ ﴿ إِحْدَاهُمَا ﴾ مظهراً واختلفوا في قوله: ﴿ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ هل الضلال بمعنى النسيان أو الإضاعة، فالأكثرون حملوه على النسيان، وبعضهم حمله على الإضاعة وتفسير الضلال بالنسيان مشهور عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما من أئمة التفسير، وقرره ابن الأثير لغة، وقد قال الحسين المغربي: معناه أن تضل إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين، فتذكرها بها المرأة الأخرى. وتبعه (الطبري) على شذوذه استناداً على معنى الضلال، وما دام متقرراً في اللغة أنه النسيان وسياق الآية يقتضي أنه هو المقصود فلا عبرة بكلامهما.


وذكر الألوسي جواباً شعرياً على سؤال في وجه العدول عن قوله تعالى (فتذكرها) إلى قوله: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾، وعن ما قاله ابن المغربي والطبري جوابه تفنيد قولهما وبيان سر تكرار (إحداهما) أنه لو اقتصر على ضمير واحد لها لاقتضى تعيين واحدة بالحكم، وهناك السؤال والجواب فنبثه لحلاوته ونفاسته، وهو من الخفاجي إلى الغزنوي:

ما سر تكرار إحدى دون تذكرها

في آية لذوي الإشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على

تكرار إحداهما لو أنه ذكره

وحمل الإحدى على نفس الشهادة في

أولاهما ليس مرضياً لدى المهرة



فأجاب الغزنوي رحمه الله:

يا من تفرد في كشف العلوم

لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره

تضل إحداهما فالقول محتمل

كليهما فهي للإظهار مفتقره

ولو أتي بضمير كان مقتضياً

تعيين إحداهما للحكم معتبره

ومن رددتم عليه الحل فهو كما

أشرتموا ليس مرضياً لمن سبره




رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/73514/#ixzz7DtCdaU9L

.
.
.



تحياتي " Alexandera "
 

LioN KinG

ملك الغابة
المدير العام
إنضم
5 مايو 2021
المشاركات
4,560
مستوى التفاعل
5,448
الإقامة
الكويت
مجموع اﻻوسمة
3
تدبر آية الدين ج ( 1 ) .. فعالية ملوك المواضيع " الفريق الأحمر "



تفسير سورة البقرة( آية الدين 282 )


قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [282].


معنى تداينتم: داين بعضكم بعضاً، والمراد بالدين هو المال الذي يكون في الذمة من قرض أو سلم أو ثمن مبيع مؤجل، سواء من عروض المال أو العقارات والمجوهرات وغير ذلك. وهذا إرشاد عظيم كريم من الله لعباده بحفظ أموالهم وضبطها بالكتابة أو الاستيثاق بالرهن، وهو من معجزات القرآن ومعجزات من أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم حيث ظهرت فائدة هذا الإرشاد بهذه الآية في أحدث عصر يزعم أهله التقدم والوعي العقلي والتفوق في الفنون الاقتصادية، ومع ذلك لم يأتوا بجديد، ولم يستطيعوا أن يشرعوا لكتابة العقود المالية أكثر مما جاء به القرآن في هذه الآية، بل بعضهم سلك تعقيداً باعتبار الكتابة في التجارة الحاضرة التي هي كالمعاطاة بين المتبايعين، حتى اضطره الواقع إلى إلغائها، فأخذ يتبجح بأنه اهتدى إلى فتح جديد في عالم الاقتصاد، ولم يعلم أن القرآن سبقه إلى ذلك بأربعة عشر قرناً حيث قال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾.


وقد جاء الله بآية حفظ الدين بعد الأمر بالصدقات والنهي الشديد عن الربا لعدة أمور:

أحدها: أن الكلام في الأموال بدأه الله بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله، وذلك محض الرحمة للفقير، ومنتهى الجود في البذل للعقيدة، ثم ثنى الله ذلك بالنهي الشديد عن الربا الذي هو محض القساوة بظلم المحتاج، ثم ثلث بذكر ضبط الدين والتجارة بالكتابة أو الرهن، وهذا محض العدالة في ميدان الاقتصاد، فقد أمر الله عباده ببذل المال حيث ينبغي بذله في سبيله الصحيح، وأمر بإطراحه حيث ينبغي طرحه، وذلك إذا كان من طريق الربا، وأمر بتأخيره حيث ينبغي التأخير بإمهال المعسر وعدم إرهاقه إلى إيساره، ثم أمر بحفظه حيث ينبغي الحفظ، وذلك بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من جميع العقود والمعاوضات والاستيثاق بالرهن إذا لم يحصل الإشهاد والكتابة لأن من يضيع ماله بالإهمال يكون مذموماً عند الناس وغير مأجور عند الله، كما قال الحسن رضي الله عنه في المغبون بالبيع.


ثانيها: أن الله لما أنزل سلطة صاحب الربا بتحريمه وإبطال أرباحه ولم يبق له سوى رأس ماله، وقد أمره الله بإمهال المعسر، وقد يضيع حقه بالنسيان أو الإنكار، فكان من الضروري ضبطه بالكتابة والشهود، أرشد الله عباده إلى ذلك.


ثالثها: أن في آية الدين احترازاً أو استدراكاً مما ينشأ من الفهم الفاسد أن المال مذموم أو أنه ليس شيئاً وذلك للمبالغة بالأمر في إنفاقه وتحريم الربا الذي ينميه، فيتوهم متوهم أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الكتب المحرفة عند بعض الطوائف، فكأن الله يقول: إنا لا نأمركم بإهمال المال والزهد فيه وإضاعته ولا نأمركم بترك استثماره واستغلاله وإنما نأمركم بمواصلة التكسب وطلب المال من طرقه المشروعة وأن تنشطوا في اكتسابه، وتقوموا بحفظه، ليتسنى لكم إنفاقه في الطرق المشروعة والمندوب إليها.


ويؤيد هذا المعنى قوله في الآية الخامسة من سورة النساء: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 5].


يعني تقوم بها منافعكم ومصالحكم، وما ورد في الحديث النبوي: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))[1].


رواه الإمام أحمد والطبراني في معجميه الأوسط والكبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بسند قوي.


فاكتساب المال من الوجوه الحلال شعبة من شعب الإيمان، كما قدمنا ذلك، ولكن بشرط أن يجعل وسيلة، فأما الذي يعكس الأمر ويجعله غاية فهو مذموم الذي دعا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدعوات المتقبلات حيث قال: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم...))[2]. إلى آخر الحديث المشهور والذي أسلفنا ذكره وشرحه.


فطلب المال مشروع وممدوح خلافاً لما يتوهمه بعض المتوهمين جهلاً منه أو محاولة للطعن في الإسلام، ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصودة لما جاءت آية الدين مرادفة لآيات الربا ومشتملة على المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه بأسلوب مسهب مخالف لأسلوب القرآن في الإيجاز.


وقوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾. فيه توكيد ثان لحفظ الدين وسائر الحقوق والعهود بطريق أولى، لأن مرور الزمن مدعاة للنسيان، وموت الشهود أو أحد الطرفين ذوي العلاقة بدون توثيق للحق مدعاة للإنكار وأكل أموال الناس بالباطل، فضبط الحق بالوثيقة المستقلة فيه احتراز من ذلك، كما فيه احتراز أيضاً من الوقوع في الخلافات المستغلة، وبضبط الديون وسائر الحقوق العقود يعلم كل من الطرفين المتعاقدين ما له وما عليه في الحاضر والمستقبل، كما يعلم ورثتهما ومن له علاقة بهما ذلك.


وفي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ احتراز من تهمة الدائن في مباشرته الكتابة بينه وبين المدين وخشية من أن يلحن في الكتابة أو يكتب شرطاً أو أجلاً لم يوافق عليه أحدهما ولا يرضاه، فجعل الله بينهما واسطة للتوثيق، وهو كاتب أجنبي ليس له علاقة بما يكتب بينهما بالعدل، يعني عادل في كتابته يساوي بين الطرفين، لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحق والنفوذ ما ليس له، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئاً، ولكن يلتزم الإبانة التامة، فتخصيص الكاتب بالعدل يكتب بين المتعاقدين لهذه الأسباب ولسبب آخر هو أن الأمر بالكتابة وضبط الحقوق أمر عام لجميع المسلمين، وفيهم الجاهل بأساليب الكتابة، وفيهم الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، فكان من الضروري إقامة كاتب بالعدل، واشتراط العدل فيه يستلزم علمه بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق وهي صحيحة لا تكون مخلة بالعقد، لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يكتب أجلاً باطلاً في الشرع ونحو ذلك، بل قد يكتب ما يحصل فيه الالتباس، فيقع الخلاف والخصومة، فلا بد أن يكون عند الكاتب شيء من الفقه أو البصيرة، ولو بمجالسة العلماء أو أهل الخبرة في المعاملات، لأن الله سبحانه أقامه طرفاً ثالثاً مستقلاً بين المتعاقدين للاحتياط في ضبط الحق، فلابد أن يكون على الأقل أرفع مستوى من أحدهما، فإن كانا أعلم منه ولم يجدا غيره جاء دور الإملاء عليه، كما جاء في التأكيد الخامس.


وقد جاء في التأكيد الرابع قوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾. وهذا التأكيد فيه ملحظان:

أحدهما: أن تعليم الله له ليس خاصاً بصنعه رسم الكتابة، بل يعم ما وفقه الله لمعرفته من فقه الأحكام، فالكاتب ينبغي عليه أن يكون عالماً بالإملاء الحرفي، وعنده إلمام بفقه المعاملات والمصطلحات العرفية.


وقد قدم الله صفة العدالة على صفة العلم، لأن من كان عدلاً سهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق، لأن العدالة تؤدي إلى ذلك وتهدي صاحبها إلى ما ينتفع به وينفع غيره بخلاف العلم بدون عدالة، فإن مجرد العلم لا يهدي إليها وأكثر الفساد يجري من العالم الفاقد العدالة، لا يجري من عدل جاهل أبداً، ولا يعجب القارئ أو السامع لربطنا العلم بالكتابة، فإن الذي يتصدر لكتابة عقود الناس ووثائقهم ويعتمد عليه الناس في ذلك هو بمنزلة فيصل بين الناس كحاكم حر متبرع بقلمه وفكره، فلا بد أن يكون له علم بمعنى ما يكتب وما يملى عليه حتى لا ينقلب خيره إلى شر.


ثانيهما: ذلك التذكير اللطيف من الله بنعمته عليه حيث قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾ ففي هذا دليل على أنه يجب عليه القيام بشكر هذه النعمة بإجابة الدعوة إلى الكتابة دون رفض ولا تلكؤ، ولذلك لم يكتف الله بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل صرح بالأمر بها تصريحاً واضحاً بقوله: ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾.


ويأتي من الله سبحانه التأكيد الخامس بقوله: ﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ يعني يلقي عليه ويصرح له بما يريد أن يكتب عليه ليكون إقراره حجة عليه تثبته الكتابة حسب إملائه على الكاتب. والإملاء والإملال بمعنى واحد، والأصل فيه اللام.


ثم يأتي التأكيد السادس مربوطاً بالوجدان الديني، وهو قوله سبحانه: ﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾. يعني يجب عليه أن يلتزم تقوى الله وخشيته ومراقبته فيما يمليه، فلا ينقص منه شيئاً، ولا يملي ما فيه تلبس أو تدليس، فالله سبحانه يذكره بالتقوى حتى لا يبخس من الحق شيئاً، وإن قل ليلتزم تقوى الله الذي رباه بنعمته وسخر له قلب الدائن، فبذل له ماله الغالي عليه، فإن هذا في لطف الله وتعطيفه.


ففي هذا الأمر بالتقوى تذكير بجلال الذات الإلهية، وهو من قبيل الترهيب، كما أن فيه ترغيباً بجمال نعم الربوية على شكر الله شكراً عملياً بالاستقامة على ما يحبه الله ويرضاه من التزام الصدق وحسن المعاملة، كما أن فيه الأمر بشكر الدائن باذل المال، وذلك بالاعتراف بحقه كاملاً بإملاء جميع الواجب ليكتبه الكاتب، لأنه لا يشكر الله من لم يشكر الناس، كما ورد في الحديث، وبخس شيء من الحق مخالف للشكر، فإن تذكير الله لمن عليه الحق بتقواه، لأن الإنسان من طبيعته الطمع والشح، فربما يستخفه الطمع ويغلب عليه الشح فينقص شيئاً من الحق الذي عليه، ولكن إذا غلبت عليه تقوى الله اعتدلت طبيعته وحسن توازنه.


ثم يؤكد الله التأكيد السابع لضبط الحقوق بقوله: ﴿ فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾.


وقد أظهر الله الذي عليه الحق في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان، كما قال أهل المعاني. والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف لصغره أو ضعف رأيه وعقله، وقيل هو العاجز الأحمق، وعند الشافعي أنه المبذر لماله، المفسد لدينه.


وقد ذكر الله سبحانه في هذه الجملة من الآية ثلاثة أصناف لا يصلح إملاؤهم ولا تصح الكتابة عليهم إلا بواسطة أوليائهم، وأولهم السفيه الذي لا يحسن التصرف بالمال لضعف عقله أو تبذيره، والثاني الضعيف لصغره أو هرمه، والثالث الجاهل الذي لا يستطيع الإملاء، ويلحق به الأخرس والألكن، فهؤلاء الأصناف لابد لهم ممن يتولى أمورهم إما بتعيين حاكم أو رجال محتسبين.


وقد اكتفى الله في أمر الولي بوصفه بالعدالة فقط ولم يأمره وينهاه بمثل ما أمر من عليه الحق أو نهاه في التأكيد السادس، لأن من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه، والله أعلم.


أما التأكيد الثامن فهو قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ يعني استحصلوا على شهادة رجلين من رجالكم المسلمين، سواء ممن حضر العقد أو سمع الإقرار، فقوله سبحانه: ﴿ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ حصر للمسلمين في قبول الشهادة دون غيرهم من الكفار على اختلاف مللهم. ويدل سياق الآية على أن وصف الكمال معتبر في الشهود لقوله تعالى: ﴿ ذَوَيْ عَدْلٍ ﴾ [الطلاق: 2] كما هو معتبر في الكاتب والولي.


وقد فصل العلماء معنى العدالة بما هو معروف لائق جامع للدين والفضيلة والعفة والمروءة والنزاهة من كل ما يعاب أو يشان.


وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾. يعني فإن لم يحصل رجلين استشهد رجل وامرأتان ممن يرضى دينهم وأمانتهم ويطمئن إلى عدالتهم، وإنما وصف الله الرجل بعدل امرأتين لضعف أدمغة النساء عن الرجال كما قرره الطب وعلم النفس في العصر الحديث، ولضعف شهادة النساء أيضاً وقلة ثقة الناس بها، ولذلك وكل الله الأمر فيه إلى رضا المستشهدين، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾.


ثم أبان علة دقيقة لجعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله سبحانه: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ أي حذراً من أن تخطئ في أداء الشهادة أو تنسى لعدم ضبطها وقلة عنايتها وانشفاف قلبها بما خلقت له وانشغالها بتدبير المنزل وتربية الأولاد الذين يذهلونها.


فلهذه الأسباب كانت كل واحدة منهما عرضة للخطأ والنسيان، فاحتيج إلى إشهاد الثنتين في مقابلة الرجل، حتى إذا ضلت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى. ولهذا أعاد الله لفظ ﴿ إِحْدَاهُمَا ﴾ مظهراً واختلفوا في قوله: ﴿ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ هل الضلال بمعنى النسيان أو الإضاعة، فالأكثرون حملوه على النسيان، وبعضهم حمله على الإضاعة وتفسير الضلال بالنسيان مشهور عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما من أئمة التفسير، وقرره ابن الأثير لغة، وقد قال الحسين المغربي: معناه أن تضل إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين، فتذكرها بها المرأة الأخرى. وتبعه (الطبري) على شذوذه استناداً على معنى الضلال، وما دام متقرراً في اللغة أنه النسيان وسياق الآية يقتضي أنه هو المقصود فلا عبرة بكلامهما.


وذكر الألوسي جواباً شعرياً على سؤال في وجه العدول عن قوله تعالى (فتذكرها) إلى قوله: ﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾، وعن ما قاله ابن المغربي والطبري جوابه تفنيد قولهما وبيان سر تكرار (إحداهما) أنه لو اقتصر على ضمير واحد لها لاقتضى تعيين واحدة بالحكم، وهناك السؤال والجواب فنبثه لحلاوته ونفاسته، وهو من الخفاجي إلى الغزنوي:

ما سر تكرار إحدى دون تذكرها

في آية لذوي الإشهاد في البقرة

وظاهر الحال إيجاز الضمير على

تكرار إحداهما لو أنه ذكره

وحمل الإحدى على نفس الشهادة في

أولاهما ليس مرضياً لدى المهرة



فأجاب الغزنوي رحمه الله:

يا من تفرد في كشف العلوم

لقد وافى سؤالك والأسرار مستتره

تضل إحداهما فالقول محتمل

كليهما فهي للإظهار مفتقره

ولو أتي بضمير كان مقتضياً

تعيين إحداهما للحكم معتبره

ومن رددتم عليه الحل فهو كما

أشرتموا ليس مرضياً لمن سبره




رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/73514/#ixzz7DtCdaU9L

.
.
.



تحياتي " Alexandera "
مشكور حضرتك علي المجهود الرائع في تفسير الايات
 
Comment

Alexandera

الــــــدرة " فقيدة الغابة "
نجوم المنتدي
إنضم
12 مايو 2021
المشاركات
9,526
مستوى التفاعل
13,430
العمر
21
الإقامة
𝓟𝓐𝓛𝓔𝓢𝓣𝓘𝓝𝓘𝓐𝓝
مجموع اﻻوسمة
8
تدبر آية الدين ج ( 1 ) .. فعالية ملوك المواضيع " الفريق الأحمر "
Comment
أعلى