تواصل معنا

تفسير ابن كثير @@@@@@@@ ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ...

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [البقرة : 108]
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) [ المائدة : 101 ] أي : وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ; فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة .
ولهذا جاء في الصحيح :
" إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته " .
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ; فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها . ثم أنزل الله حكم الملاعنة .
ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال.
وفي صحيح مسلم :
" ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " .
وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج .
فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟
فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا .
ثم قال ، عليه السلام : " لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم " .
ثم قال : " ذروني ما تركتكم " الحديث .
وهكذا قال أنس بن مالك :
نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال :
إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب .

وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :
ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثنتي عشرة مسألة ، كلها في القرآن :
( يسألونك عن الخمر والميسر ) [ البقرة : 219 ].
و ( يسألونك عن الشهر الحرام ) [ البقرة : 217 ].
و ( ويسألونك عن اليتامى ) [ البقرة : 220 ] يعني : هذا وأشباهه .

وقوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أي : بل تريدون . أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعم المؤمنين والكافرين ، فإنه ، عليه السلام ، رسول الله إلى الجميع ، كما قال تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) [ النساء : 153 ] .

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد [ بن جبير ] عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة أو وهب بن زيد : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك .
فأنزل الله من قولهم : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )
قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل !
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل " .
قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ].
وقال : " الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن " .
وقال : " من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك " .
فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )

وقال مجاهد : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أن يريهم الله جهرة.
قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا .
قال : " نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم " ، فأبوا ورجعوا .
وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم .

والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ، على وجه التعنت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى ، عليه السلام ، تعنتا وتكذيبا وعنادا ، قال الله تعالى :
( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) أي : من يشتر الكفر بالإيمان.
( فقد ضل سواء السبيل ) أي : فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها ، على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى :
( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .

وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : 109]
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم .
ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح .
ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما :
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري ، في قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب ) قال : هو كعب بن الأشرف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه :
أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أنزل الله : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) إلى قوله : ( فاعفوا واصفحوا )

وقال الضحاك ، عن ابن عباس :
أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا ; ولذلك قال الله تعالى :
( كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق )
يقول : من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة ، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم .

وقال الربيع بن أنس : ( من عند أنفسهم ) من قبل أنفسهم .
وقال أبو العالية : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) من بعد ما تبين [ لهم ] أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيا ; إذ كان من غيرهم .
وكذا قال قتادة والربيع والسدي .

وقوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) مثل قوله تعالى :
( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) [ آل عمران : 186 ] .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) نسخ ذلك قوله :
( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله :
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) إلى قوله :
( وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ]
فنسخ هذا عفوه عن المشركين .
وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله : ( حتى يأتي الله بأمره )

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره ، قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله :
( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش .
وهذا إسناده صحيح ، ولم أره في شيء من الكتب الستة
[ ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ] .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@

( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : 110]
وقوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) يحث تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ غافر : 52 ].
ولهذا قال تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ) يعني : أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه ، سواء كان خيرا أو شرا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله .

وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ) وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سرا أو علانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها .
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا .
وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مدخرا لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال :
( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) وليحذروا معصيته .

قال : وأما قوله : ( بصير ) فإنه مبصر صرف إلى " بصير " كما صرف مبدع إلى " بديع " ، ومؤلم إلى " أليم " ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر في هذه الآية ( سميع بصير ) يقول : بكل شيء بصير .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة : 111]
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] .
فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك.
وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة .
ورد عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة ، فقال ( تلك أمانيهم )

وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق .
وكذا قال قتادة والربيع بن أنس .

ثم قال : ( قل ) أي : يا محمد ، ) ( هاتوا برهانكم )

وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم .
وقال قتادة : بينتكم على ذلك .
( إن كنتم صادقين ) كما تدعونه .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : 112]
ثم قال تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ) أي : من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى :
( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) الآية [ آل عمران : 20 ] .

وقال أبو العالية والربيع : ( بلى من أسلم وجهه لله ) يقول : من أخلص لله .

وقال سعيد بن جبير : ( بلى من أسلم ) أخلص ، ( وجهه ) قال : دينه ، ( وهو محسن ) أي : متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإن للعمل المتقبل شرطين ، أحدهما : أن يكون خالصا لله وحده والآخر : أن يكون صوابا موافقا للشريعة .
فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ; ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
رواه مسلم من حديث عائشة ، عنه ، عليه السلام .
فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول [ محمد ] صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم ، قال الله تعالى :
( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ].
وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) [ النور : 39 ] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي .

وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى :
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) [ النساء : 142 ].
وقال تعالى : ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) [ الماعون : 4 ، 7 ].
ولهذا قال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) [ الكهف : 110 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن )

وقوله : ( فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ف ( لا خوف عليهم ) فيما يستقبلونه ، ( ولا هم يحزنون ) على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير : ف ( لا خوف عليهم ) يعني : في الآخرة ( ولا هم يحزنون ) [ يعني : لا يحزنون ] للموت .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [البقرة : 113]
وقوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم .
كما قال محمد بن إسحاق :
حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :
لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل .
وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة .
فأنزل الله في ذلك من قولهما ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب )
قال : إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي : يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .

وقال قتادة : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء )
قال : بلى ، قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا .
( وقالت النصارى ليست اليهود على شيء )
قال : بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا .
وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ، والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية :
( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى . ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ; ولهذا قال تعالى :
( وهم يتلون الكتاب ) أي : وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) يبين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول ، وهذا من باب الإيماء والإشارة .
وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى : ( الذين لا يعلمون )
فقال الربيع بن أنس وقتادة : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟
قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل .
وقال السدي : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) فهم : العرب ، قالوا : ليس محمد على شيء .

واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) أي : أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة .
وهذا كقوله تعالى في سورة الحج : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ) [ الحج : 17 ].
وكما قال تعالى : ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ) [ سبأ : 26 ] .
 
التعديل الأخير:
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : 114]
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين :

أحدهما : ما رواه العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) قال : هم النصارى .
وقال مجاهد : هم النصارى ، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وسعى في خرابها ) هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .

وقال سعيد ، عن قتادة : قال : أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .

وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا .
وروي نحوه عن الحسن البصري .

القول الثاني : ما رواه ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله :
( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها )
قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم.
وقال لهم : ما كان أحد يصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده .
فقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .

وفي قوله : ( وسعى في خرابها ) قال : إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة .

وقال ابن أبي حاتم :
ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
أن قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه )

ثم اختار ابن جرير القول الأول ، واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة .
وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس .

قلت : الذي يظهر والله أعلم القول الثاني ، كما قاله ابن زيد ، وروي عن ابن عباس ; لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس ، كأن دينهم أقوم من دين اليهود ، وكانوا أقرب منهم ، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك ; لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما فعلوا ؟
أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى :
( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال : 34 ].
وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) [ التوبة : 17 ، 18 ].
وقال تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) [ الفتح : 25 ].
فقال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) [ التوبة : 18 ].
فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها ، فأي خراب لها أعظم من ذلك ؟
وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك .

وقوله تعالى : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) هذا خبر معناه الطلب ، أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية .
ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى :
" ألا لا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " .
وهذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) الآية [ التوبة : 28 ].
وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب ، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها .
والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك ، لولا ظلم الكفرة وغيرهم .

وقيل : إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا ، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم .
وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن تجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة .
وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة [ المباركة ] التي بعث [ الله ] فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله وسلامه عليه .
وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ; لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام ، صدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها.
( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .

وأما من فسر بيت المقدس ، فقال كعب الأحبار :
إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه :
( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) الآية ، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا .

وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها .

وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة .

قلت : وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس ، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي إليها اليهود ، عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه ، إلا في أحيان من الدهر امتحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم .

وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا ، بخروج المهدي عند السدي ، وعكرمة ، ووائل بن داود .
وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون .

والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد :
حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث ، عن بسر بن أرطاة ، قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو :
" اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .

وهذا حديث حسن ، وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه وهو بسر بن أرطاة ويقال : ابن أبي أرطاة حديث سواه ، وسوى [ حديث ]
" لا تقطع الأيدي في الغزو " .
 
التعديل الأخير:
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) [البقرة : 116]
اشتملت هذه الآية الكريمة ، والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ، ممن جعل الملائكة بنات الله ، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا .
فقال تعالى : ( سبحانه ) أي : تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا
( بل له ما في السماوات والأرض ) أي : ليس الأمر كما افتروا ، وإنما له ملك السماوات والأرض ، وهو المتصرف فيهم ، وهو خالقهم ورازقهم ، ومقدرهم ومسخرهم ، ومسيرهم ومصرفهم ، كما يشاء ، والجميع عبيد له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له ، فكيف يكون له ولد !
كما قال تعالى : ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) [ الأنعام : 101 ]
وقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) [ مريم : 88 - 95 ]
وقال تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ] .

فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم ، الذي لا نظير له ولا شبيه له ، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة ، فكيف يكون له منها ولد !
ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة :
أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن عبد الله بن أبي حسين ، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد . فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " .
انفرد به البخاري من هذا الوجه .

وقال ابن مردويه :
حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، حدثنا إسحاق بن محمد الفروي ، حدثنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يقول الله عز وجل : كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني . وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا . وأنا الله الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد " .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ; إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " .

وقوله : ( كل له قانتون )
قال ابن أبي حاتم :
أخبرنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط ، عن مطرف ، عن عطية ، عن ابن عباس ، قال : ( قانتين ) مصلين .

وقال عكرمة وأبو مالك : ( كل له قانتون ) مقرون له بالعبودية .
وقال سعيد بن جبير : ( كل له قانتون ) يقول : الإخلاص .
وقال الربيع بن أنس : يقول كل له قائم يوم القيامة .
وقال السدي : ( كل له قانتون ) يقول : له مطيعون يوم القيامة .

وقال خصيف ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) قال : مطيعون ، كن إنسانا فكان ، وقال : كن حمارا فكان .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كل له قانتون ) مطيعون ، يقول : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره .

وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها ، وهو أن القنوت : هو الطاعة والاستكانة إلى الله ، وذلك شرعي وقدري ، كما قال تعالى :
( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15 ] .

وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث :
أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " .
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج بإسناده ، مثله .
ولكن هذا الإسناد ضعيف لا يعتمد عليه .
ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه ، والله أعلم .
وكثيرا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة ، فلا يغتر بها ، فإن السند ضعيف ، والله أعلم .
 
التعديل الأخير:
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [البقرة : 117]
وقوله تعالى : ( بديع السماوات والأرض ) أي : خالقهما على غير مثال سبق.
قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث : بدعة .
كما جاء في الصحيح لمسلم :
" فإن كل محدثة بدعة [ وكل بدعة ضلالة ] " .
والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
وتارة تكون بدعة لغوية ، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم :
نعمت البدعة هذه .

وقال ابن جرير :
وبديع السماوات والأرض : مبدعهما . وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل ، كما صرف المؤلم إلى الأليم ، والمسمع إلى السميع .
ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد .

قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا ; لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره ، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا .
ومن ذلك قول أعشى ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحنفي :

يدعى إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا

أي : يحدث ما شاء .

قال ابن جرير :
فمعنى الكلام : فسبحان الله أنى يكون لله ولد ، وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه .
وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح ، الذي أضافوا إلى الله بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته .
وهذا من ابن جرير ، رحمه الله ، كلام جيد وعبارة صحيحة .

وقوله تعالى : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه ، فإنما يقول له : كن . أي : مرة واحدة ، فيكون ، أي : فيوجد على وفق ما أراد ، كما قال تعالى :
( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) [ يس : 82 ]
وقال تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ]
وقال تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [ القمر : 50 ].

وقال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له كن قولة فيكون

ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة : كن ، فكان كما أمره الله ، قال [ الله ] تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [البقرة : 118]
قال محمد بن إسحاق :
حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه .
فأنزل الله في ذلك من قوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية )

وقال مجاهد [ في قوله ] ) وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) قال : النصارى تقوله .

وهو اختيار ابن جرير ، قال : لأن السياق فيهم . وفي ذلك نظر .

[ وحكى القرطبي ( لولا يكلمنا الله ) أي : لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، قلت : وظاهر السياق أعم ، والله أعلم ] .

وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي في تفسير هذه الآية : هذا قول كفار العرب.
( كذلك قال الذين من قبلهم [ مثل قولهم ] ) قالوا : هم اليهود والنصارى .
ويؤيد هذا القول ، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب ، قوله تعالى :
( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) [ الأنعام : 123 ] .

وقوله تعالى : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [ الإسراء : 90 ، 93 ].
وقوله تعالى : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) [ الفرقان : 21 ].
وقوله : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) [ المدثر : 52 ].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، إنما هو الكفر والمعاندة ، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم ، كما قال تعالى :
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ].
وقال تعالى : ( وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [ البقرة : 55 ] .

وقوله : ( تشابهت قلوبهم ) أي : أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ، كما قال تعالى :
( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) [ الذاريات : 52 ، 53 ] .

وقوله : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) أي : قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى ، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل ، وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى .
وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم :
( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 96 ، 97 ] .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : 119]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" أنزلت علي : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا )
قال : " بشيرا بالجنة ، ونذيرا من النار " .

وقوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم )
قراءة أكثرهم ( ولا تسأل ) بضم التاء على الخبر .
وفي قراءة أبي بن كعب : " وما تسأل "
وفي قراءة ابن مسعود : " ولن تسأل عن أصحاب الجحيم "

نقلهما ابن جرير ، أي : لا نسألك عن كفر من كفر بك.
( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ]
وكقوله تعالى : ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ) الآية [ الغاشية : 21 ، 22 ].
وكقوله تعالى : ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45 ].
وأشباه ذلك من الآيات .

وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بفتح التاء على النهي ، أي : لا تسأل عن حالهم ، كما قال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ، ليت شعري ما فعل أبواي ؟ " .
فنزلت : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) فما ذكرهما حتى توفاه الله ، عز وجل .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، [ وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب ] بمثله .
وقد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي : وهذا كما يقال : لا تسأل عن فلان ; أي : قد بلغ فوق ما تحسب ، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا ، وأجبنا عن قوله : ( إن أبي وأباك في النار ) .
( قلت ) : والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف والله أعلم .

ثم قال [ ابن جرير ] وحدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : " أين أبواي ؟ " .
فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .
وهذا مرسل كالذي قبله .
وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن كعب [ القرظي ] وغيره في ذلك ، لاستحالة الشك من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه . واختار القراءة الأولى .
وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما ، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار [ كما ثبت ذلك في الصحيح ] ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ، ولا يلزم ما ذكر ابن جرير . والله أعلم .

وقال الإمام أحمد :
حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة .
فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، وأنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله .
فيفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في البيوع عن محمد بن سنان ، عن فليح ، به .
وقال : تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال .
وقال سعيد : عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن سلام .
ورواه في التفسير عن عبد الله ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، به . فذكر نحوه ، فعبد الله هذا هو ابن صالح ، كما صرح به في كتاب الأدب .
وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء .
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة ، عن أحمد بن الحسن بن أيوب ، عن محمد بن أحمد بن البراء ، عن المعافى بن سليمان ، عن فليح ، به . وزاد : قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار ، فسألته فما اختلفا في حرف ، إلا أن كعبا قال بلغته :
أعينا عمومى ، وآذانا صمومى ، وقلوبا غلوفا .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة : 120]
قال ابن جرير : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق .

وقوله تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) أي : قل يا محمد : إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى ، يعني : هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل .

قال قتادة في قوله : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) قال : خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، يخاصمون بها أهل الضلالة .
قال قتادة : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله " .

قلت : هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو .

( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى ، بعد ما علموا من القرآن والسنة ، عياذا بالله من ذلك ، فإن الخطاب مع الرسول ، والأمر لأمته .

[ وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله : ( حتى تتبع ملتهم ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى : ( لكم دينكم ولي دين ) [ الكافرون : 6 ].
فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار ، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا ; لأنهم كلهم ملة واحدة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه .
وقال في الرواية الأخرى كقول مالك : إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى ، كما جاء في الحديث ، والله أعلم ] .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@@

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة : 121]
وقوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : هم اليهود والنصارى .
وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير .

وقال : سعيد عن قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، وعبد الله بن عمران الأصبهاني ، قالا حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب ( يتلونه حق تلاوته ) قال :
إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار .

وقال أبو العالية : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله .
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه عن مواضعه .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود نحو ذلك .

وقال الحسن البصري : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، يكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .

وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرأ : ( والقمر إذا تلاها ) [ الشمس : 2 ] ، يقول : اتبعها .
قال : وروي عن عكرمة ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبي رزين ، وإبراهيم النخعي نحو ذلك .

وقال سفيان الثوري : حدثنا زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يتبعونه حق اتباعه .

قال القرطبي : وروى نصر بن عيسى ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : " يتبعونه حق اتباعه " ، ثم قال : في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح .
وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة .
وعن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها.
قال : وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ .

وقوله : ( أولئك يؤمنون به ) خبر عن ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) أي : من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته ، آمن بما أرسلتك به يا محمد ، كما قال تعالى : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) الآية [ المائدة : 66 ] .
وقال : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) [ المائدة : 68 ] ، أي : إذا أقمتموها حق الإقامة ، وآمنتم بها حق الإيمان ، وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته ، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) الآية [ الأعراف : 157 ].
وقال تعالى : ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا .
وقال تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ) [ القصص : 52 ، 54 ] .
وقال تعالى : ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) [ آل عمران : 20 ].
ولهذا قال تعالى : ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) كما قال تعالى : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] .
وفي الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي ، إلا دخل النار " .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة : 122]
( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة : 123]
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة ، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته . يحذرهم من كتمان هذا ، وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم ، من النعم الدنيوية والدينية ، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم . ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه ، والحيدة عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : 124]
يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله ، عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد ، حتى قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ; ولهذا قال : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) أي : واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها ، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين ، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم ، أي : اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي ( فأتمهن ) أي : قام بهن كلهن.
كما قال تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] ، أي : وفى جميع ما شرع له ، فعمل به صلوات الله عليه.
وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ النحل : 120 ، 123 ].
وقال تعالى : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ الأنعام : 161 ].
وقال تعالى : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) [ آل عمران : 67 ، 68 ]

وقوله تعالى : ( بكلمات ) أي : بشرائع وأوامر ونواه ، فإن الكلمات تطلق ، ويراد بها الكلمات القدرية ، كقوله تعالى عن مريم ، عليها السلام ، : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) [ التحريم : 12 ] .
وتطلق ويراد بها الشرعية ، كقوله تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ لا مبدل لكلماته ] ) [ الأنعام : 115 ] أي : كلماته الشرعية .
وهي إما خبر صدق ، وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهيا ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) أي : قام بهن .
قال : ( إني جاعلك للناس إماما ) أي : جزاء على ما فعل ، كما قام بالأوامر وترك الزواجر ، جعله الله للناس قدوة وإماما يقتدى به ، ويحتذى حذوه .

وقد اختلف [ العلماء ] في تفسير الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل ، عليه السلام . فروي عن ابن عباس في ذلك روايات :
فقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ابن عباس : ابتلاه الله بالمناسك .
وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي ، عن التميمي ، عن ابن عباس .

وقال عبد الرزاق أيضا :
أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ;
في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس .
وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وأبي صالح ، وأبي الجلد ، نحو ذلك .

قلت : وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء "
[ قال مصعب ] ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة .

قال وكيع : انتقاص الماء ، يعني : الاستنجاء .

وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
" الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط " .
ولفظه لمسلم .

وقال ابن أبي حاتم :
أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن حنش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )
قال : عشر ، ست في الإنسان ، وأربع في المشاعر .
فأما التي في الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، والختان . وكان ابن هبيرة يقول : هؤلاء الثلاثة واحدة . وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والسواك ، وغسل يوم الجمعة .
والأربعة التي في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة .

وقال داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم ، قال الله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )
قلت له : وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟
قال : الإسلام ثلاثون سهما ، منها عشر آيات في : براءة :
( التائبون العابدون [ الحامدون ] ) [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية.
وعشر آيات في أول سورة ( قد أفلح المؤمنون ) و ( سأل سائل بعذاب واقع ).
وعشر آيات في الأحزاب : ( إن المسلمين والمسلمات ) [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية ، فأتمهن كلهن ، فكتبت له براءة .
قال الله : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] .

هكذا رواه الحاكم ، وأبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم ، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند ، به .
وهذا لفظ ابن أبي حاتم .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم .
ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه .
وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم .
والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله.
وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه.
فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له : ( أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) على ما كان من خلاف الناس وفراقهم .

وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا إسماعيل بن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن يعني البصري :
( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ] )
قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه ، وابتلاه بالختان فرضي عنه ، وابتلاه بابنه فرضي عنه .

وقال ابن جرير :
حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول :
أي والله ، ابتلاه بأمر فصبر عليه : ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما كان من المشركين . ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك . وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ] )

قال : ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، والكوكب والشمس ، والقمر .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا سلم بن قتيبة ، حدثنا أبو هلال ، عن الحسن ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) قال : ابتلاه بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، فوجده صابرا .

وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )
فمنهن : ( إني جاعلك للناس إماما )
ومنهن : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل )
ومنهن : الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، ومحمد بعث في دينهما .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟
قال : تجعلني للناس إماما .
قال : نعم .
قال : ومن ذريتي ؟
( قال لا ينال عهدي الظالمين )
قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟
قال : نعم .
قال : وأمنا .
قال : نعم .
قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟
قال : نعم .
قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟
قال : نعم .
قال ابن أبي نجيح : سمعته من عكرمة ، فعرضته على مجاهد ، فلم ينكره .
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )
قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات [ فأتمهن ] )
قال : الكلمات : ( إني جاعلك للناس إماما )
وقوله : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا )
وقوله ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
وقوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) الآية.
وقوله : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) الآية.
قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم .

قال السدي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ،
( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم [ يتلو عليهم آياتك ] ) .

[ وقال القرطبي : وفي الموطأ وغيره ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم ، عليه السلام ، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قلم أظفاره ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب فلما رأى الشيب ، قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب ، زدني وقارا .
وذكر ابن أبي شيبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم ، عليه السلام ، قال غيره : وأول من برد البريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل .
وروي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم "
قلت : هذا حديث لا يثبت ، والله أعلم .
ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية ] .

قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله :
أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع .
قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له .

قال : غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ، أحدهما ما حدثنا به أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد ، حدثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، قال :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
" ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله ( الذي وفى ) [ النجم : 37 ] ؟
لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية " .

قال : والآخر منهما :
حدثنا به أبو كريب ، أخبرنا الحسن ، عن عطية ، أخبرنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإبراهيم الذي وفى ) أتدرون ما وفى ؟ " .
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : " وفى عمل يومه ، أربع ركعات في النهار " .
ورواه آدم في تفسيره ، عن حماد بن سلمة .
وعبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، به .

ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ، وهو كما قال ; فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجوه عديدة ، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء ، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [ والله أعلم ] .

ثم قال ابن جرير : ولو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا ، فإن قوله : ( إني جاعلك للناس إماما )
وقوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين )
وسائر الآيات التي هي نظير ذلك ، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم .

قلت : والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله ; لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم .

وقوله : ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) لما جعل الله إبراهيم إماما ، سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته ، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قول الله تعالى في سورة العنكبوت : ( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) [ العنكبوت : 27 ]
فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه .

وأما قوله تعالى : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) فقد اختلفوا في ذلك.
فقال خصيف ، عن مجاهد في قوله : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : إنه سيكون في ذريتك ظالمون .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : لا يكون لي إمام ظالم [ يقتدى به ] .
وفي رواية : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به .

وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( ومن ذريتي )
قال : أما من كان منهم صالحا فسأجعله إماما يقتدى به ، وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين .

وقال سعيد بن جبير : ( لا ينال عهدي الظالمين ) المراد به المشرك ، لا يكون إمام ظالم . يقول : لا يكون إمام مشرك .

وقال ابن جريج ، عن عطاء ، قال : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما .
قلت لعطاء : ما عهده ؟
قال : أمره .

وقال ابن أبي حاتم :
أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لإبراهيم : ( إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) فأبى أن يفعل ، ثم قال : ( لا ينال عهدي الظالمين )

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي [ له ] أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته ، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه .

وقال ابن جرير :
حدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانتقضه .
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .

وقال الثوري ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : ليس لظالم عهد .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وعاش .

وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة .

وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده : دينه ، يقول : لا ينال دينه الظالمين ، ألا ترى أنه قال : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) [ الصافات : 113 ] ، يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق .

وكذا روي عن أبي العالية ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان .

وقال جويبر ، عن الضحاك : لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني .

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) قال : " لا طاعة إلا في المعروف " .

وقال السدي : ( لا ينال عهدي الظالمين ) يقول : عهدي نبوتي .

فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، رحمهما الله تعالى .
واختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما . ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه ، كما تقدم عن مجاهد وغيره ، والله أعلم .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@

( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : 125]
قال العوفي ، عن ابن عباس : قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) يقول : لا يقضون منه وطرا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مثابة للناس ) يقول : يثوبون .
رواهما ابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم :
أخبرنا أبي ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : يثوبون إليه ثم يرجعون .
قال : وروي عن أبي العالية ، وسعيد بن جبير في رواية وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وعطية ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، نحو ذلك .
وقال ابن جرير :
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، حدثني الوليد بن مسلم قال : قال أبو عمرو يعني الأوزاعي حدثني عبدة بن أبي لبابة ، في قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .

وحدثني يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) قال : يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .

[ وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى ، أورده القرطبي :

جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ]

وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ( مثابة للناس ) أي : مجمعا .

( وأمنا ) قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمنا للناس .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) يقول : أمنا من العدو ، وأن يحمل فيه السلاح ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم ، وهم آمنون لا يسبون .

وروي عن مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، قالوا : من دخله كان آمنا .

ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية : أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس ، أي : جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ، ولا تقضي منه وطرا ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، عليه السلام ، في قوله : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) إلى أن قال : ( ربنا وتقبل دعاء ) [ إبراهيم : 37 - 40 ]
ويصفه تعالى بأنه جعله أمنا ، من دخله أمن ، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له ، كما وصفها في سورة المائدة بقوله تعالى ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) [ المائدة : 97 ] أي : يرفع عنهم بسبب تعظيمها السوء.
كما قال ابن عباس : لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض ، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن ، كما قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا ) [ الحج : 26 ]
وقال تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 96 ، 97 ] .

وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده .
فقال : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ؟
فقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمر بن شبة النميري ، حدثنا أبو خلف يعني عبد الله بن عيسى حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
قال : مقام إبراهيم : الحرم كله .
وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك .

وقال [ أيضا ] حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فقال : سمعت ابن عباس قال : أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا ، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ، ثم قال : و ( مقام إبراهيم ) يعد كثير ، " مقام إبراهيم " الحج كله .
ثم فسره لي عطاء فقال : التعريف ، وصلاتان بعرفة ، والمشعر ، ومنى ، ورمي الجمار ، والطواف بين الصفا والمروة .
فقلت : أفسره ابن عباس ؟
قال : لا ولكن قال : مقام إبراهيم : الحج كله .
قلت : أسمعت ذلك ؟ لهذا أجمع .
قال : نعم ، سمعته منه .

وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) قال : الحجر مقام إبراهيم نبي الله ، قد جعله الله رحمة ، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة . ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه .

[ وقال السدي : المقام : الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه .
حكاه القرطبي ، وضعفه ورجحه غيره.
وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس ] .

وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن ابن جريج ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال :
لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام أبينا إبراهيم ؟
قال : نعم.
قال : أفلا نتخذه مصلى ؟
فأنزل الله ، عز وجل : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .

وقال عثمان بن أبي شيبة : أخبرنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال :
قال عمر : قلت : يا رسول الله ، هذا مقام خليل ربنا ؟
قال : نعم.
قال : أفلا نتخذه مصلى ؟
فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .

وقال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا غيلان بن عبد الصمد ، حدثنا مسروق بن المرزبان ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال : يا رسول الله ، أليس نقوم مقام خليل ربنا ؟
قال : " بلى " .
قال : أفلا نتخذه مصلى ؟
فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

وقال ابن مردويه :
حدثنا محمد بن أحمد بن محمد القزويني ، حدثنا علي بن الحسين الجنيد ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ، قال له عمر : يا رسول الله ، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ؟
قال : " نعم " .
قال الوليد : قلت لمالك : هكذا حدثك ( واتخذوا )
قال : نعم . هكذا وقع في هذه الرواية . وهو غريب .

وقد روى النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه .

وقال البخاري : باب قوله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) مثابة يثوبون يرجعون .

حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس بن مالك . قال :
قال عمر بن الخطاب وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟
فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟
فأنزل الله آية الحجاب .
وقال : وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ، فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، فقالت : يا عمر ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ؟ ! فأنزل الله : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) الآية [ التحريم : 5 ] .

وقال ابن أبي مريم : أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثني حميد ، قال : سمعت أنسا عن عمر ، رضي الله عنهما .

هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري .
وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة .
وروى عنه الباقون بواسطة ، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث ، وإنما لم يسنده ; لأن يحيى بن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ، كما قال الإمام أحمد فيه : هو سيئ الحفظ ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد :
حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ؟ فنزلت آية الحجاب .
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) [ التحريم : 5 ] فنزلت كذلك .
ثم رواه أحمد ، عن يحيى وابن أبي عدي ، كلاهما عن حميد ، عن أنس ، عن عمر أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث فذكره .

وقد رواه البخاري عن عمرو بن عون والترمذي عن أحمد بن منيع ، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي.
وابن ماجه عن محمد بن الصباح. كلهم عن هشيم بن بشير ، به .
ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد ، عن حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة.
والنسائي عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، كلاهما عن حميد ، وهو ابن تيرويه الطويل ، به .
وقال الترمذي : حسن صحيح .
ورواه الإمام علي بن المديني عن يزيد بن زريع ، عن حميد به .
وقال : هذا من صحيح الحديث ، وهو بصري.
ورواه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه بسند آخر ، ولفظ آخر ، فقال :
حدثنا عقبة بن مكرم ، أخبرنا سعيد بن عامر ، عن جويرية بن أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب ، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم .

وقال أبو حاتم الرازي :
حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
وقلت : يا رسول الله لو حجبت النساء ؟ فنزلت آية الحجاب .
والثالثة : لما مات عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه . قلت : يا رسول الله ، تصلي على هذا الكافر المنافق ! فقال : " إيها عنك يا ابن الخطاب " فنزلت : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) [ التوبة : 84 ] .

وهذا إسناد صحيح أيضا ، ولا تعارض بين هذا ولا هذا ، بل الكل صحيح ، ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه ، والله أعلم .

وقال ابن جريج أخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا ، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )

وقال ابن جرير :
حدثنا يوسف بن سلمان حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .

وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه ، من حديث حاتم بن إسماعيل .

وروى البخاري بسنده ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت ابن عمر يقول : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين .

فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام ، يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل ، عليه السلام ، به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة ، وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها هكذا ، حتى تم جدارات الكعبة ، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت ، من رواية ابن عباس عند البخاري .
وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفا تعرفه العرب في جاهليتها ; ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا .
وقال عبد الله بن وهب :
أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب : أن أنس بن مالك حدثهم ، قال :
رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام ، وإخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم .

وقال ابن جرير :
حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه .
ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى .

قلت : وقد كان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما ، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل ، عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ; ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند فراغ الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه ، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ وهو ] أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ، الذين أمرنا باتباعهم ، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " .
وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ; ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين .

قال عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا :
قالوا : أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقال عبد الرزاق أيضا عن معمر عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : أول من أخر المقام إلى موضعه الآن ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي أخبرنا أبو [ الحسين بن ] الفضل القطان ، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي ، حدثنا أبو ثابت ، حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها :
أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم .

وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال : قال سفيان [ يعني ابن عيينة ] وهو إمام المكيين في زمانه :
كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ، فرده عمر إليه .

وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله .
قال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا ؟ .

فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه ، والله أعلم .

وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه :
حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : قال عمر : يا رسول الله لو صلينا خلف المقام ؟
فأنزل الله : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا .
قال مجاهد : قد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن .

هذا مرسل عن مجاهد ، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه ، مع اعتضاد هذا بما تقدم ، والله أعلم .

قال الحسن البصري : قوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) قال : أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء .

وقال ابن جريج : قلت لعطاء : ما عهده ؟
قال : أمره .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( وعهدنا إلى إبراهيم ) أي : أمرناه .
كذا قال . والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى ، لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا .

وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله : ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين )
قال : من الأوثان .

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : ( طهرا بيتي للطائفين ) إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس .

قال ابن أبي حاتم :
وروي عن عبيد بن عمير ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء وقتادة : ( أن طهرا بيتي ) أي : بلا إله إلا الله ، من الشرك .

وأما قوله تعالى : ( للطائفين ) فالطواف بالبيت معروف .
وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى : ( للطائفين ) يعني : من أتاه من غربة.
( والعاكفين ) المقيمين فيه .
وهكذا روي عن قتادة ، والربيع بن أنس : أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه ، كما قال سعيد بن جبير .

وقال يحيى [ بن ] القطان ، عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله : ( والعاكفين )
قال : من انتابه من الأمصار فأقام عنده
وقال لنا ونحن مجاورون : أنتم من العاكفين .

وقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال :
إذا كان جالسا فهو من العاكفين .

وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت قال :
قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون .
قال : لا تفعل ، فإن ابن عمر سئل عنهم ، فقال : هم العاكفون .

[ ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة ، به ] .

قلت : وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .

وأما قوله تعالى : ( والركع السجود ) فقال وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء ، عن ابن عباس ( والركع السجود ) قال : إذا كان مصليا فهو من الركع السجود .
وكذا قال عطاء وقتادة .

وقال ابن جرير رحمه الله : فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك . ثم أورد سؤالا فقال : فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه ؟
وأجاب بوجهين : أحدهما : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد : ( أن طهرا بيتي ) قال : من الأصنام التي يعبدون ، التي كان المشركون يعظمونها .
قلت : وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم .

الجواب الثاني : أنه أمرهما أن يخلصا [ في ] بنائه لله وحده لا شريك له ، فيبنياه مطهرا من الشرك والريب ، كما قال جل ثناؤه : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ) [ التوبة : 109 ]
قال : فكذلك قوله : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي ) أي : ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ، كما قال السدي : ( أن طهرا بيتي ) ابنيا بيتي للطائفين .

وملخص هذا الجواب : أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده ، والمصلين إليه من الركع السجود ، كما قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) الآيات [ الحج : 26 ] .

[ وقد اختلف الفقهاء : أيما أفضل ، الصلاة عند البيت أو الطواف ؟
فقال مالك : الطواف به لأهل الأمصار أفضل من الصلاة عنده.
وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقا ، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام ] .

والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته ، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه ، كما قال تعالى :
( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] .

ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له ، إما بطواف أو صلاة ، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة : قيامها ، وركوعها ، وسجودها ، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ( سواء العاكف فيه والباد ) وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ، واجتزأ بذكر الركوع والسجود عن القيام ; لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام . وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ; لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وعظمته ، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك ، فكيف يكونون مقتدين بالخليل ، وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟
وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم السلام ، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ( إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 4 ] .

وتقدير الكلام إذا : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) [ أي : تقدمنا لوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ] ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) أي : طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله ، معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود .
وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية ، ومن قوله تعالى :
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ) [ النور : 36 ]
ومن السنة من أحاديث كثيرة ، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك ، من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك .
ولهذا قال عليه السلام :
" إنما بنيت المساجد لما بنيت له " .
وقد جمعت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة .

وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة ، فقيل : الملائكة قبل آدم.
وروي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين.
ذكره القرطبي وحكى لفظه ، وفيه غرابة.
وقيل : آدم عليه السلام.
رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم :
أن آدم بناه من خمسة أجبل : من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي.
وهذا غريب أيضا .
وروي نحوه عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه :
أن أول من بناه شيث ، عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب ، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها ، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة : 126]
وقوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر )

قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها " .
وهكذا رواه النسائي ، عن محمد بن بشار عن بندار به .
وأخرجه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، كلاهما عن أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان الثوري .

وقال ابن جرير أيضا :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحيم الرازي ، قالا جميعا : سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبد الله ورسوله ، وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، عضاهها وصيدها ، لا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير " .
وهذه الطريق غريبة ، ليست في شيء من الكتب الستة ، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال :
كان الناس إذا رأوا أول الثمر ، جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه "
ثم يدعو أصغر وليد له ، فيعطيه ذلك الثمر .
وفي لفظ : " بركة مع بركة " ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان .
لفظ مسلم .

ثم قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها " .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه عن قتيبة ، عن بكر بن مضر ، به . ولفظه كلفظه سواء .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة :
" التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني ".
فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل .
وقال في الحديث : ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال :
" هذا جبل يحبنا ونحبه " .
فلما أشرف على المدينة قال:
" اللهم إني أحرم ما بين جبليها ، مثلما حرم به إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " .
وفي لفظ لهما :
" اللهم بارك لهم في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ، وبارك لهم في مدهم " .
زاد البخاري : يعني : أهل المدينة .

ولهما أيضا عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة ".
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة "
رواه البخاري وهذا لفظه.
ومسلم ولفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها . وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة " .

وعن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما ، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها ، لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف . اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مدنا ، اللهم اجعل مع البركة بركتين " .
الحديث رواه مسلم .

والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة ، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم ، عليه السلام ، لمكة ، لما في ذلك في مطابقة الآية الكريمة .

[ وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ، وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى ] .

وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات والأرض ، كما جاء في الصحيحين ، عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما.
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :
" إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها "
فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم .
فقال : " إلا الإذخر "
وهذا لفظ مسلم .

ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك .

ثم قال البخاري بعد ذلك : قال أبان بن صالح ، عن الحسن بن مسلم ، عن صفية بنت شيبة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .

وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه ، عن محمد بن عبد الله بن نمير ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن بن مسلم بن يناق ، عن صفية بنت شيبة ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح ، فقال :
" يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد "
فقال العباس : إلا الإذخر ; فإنه للبيوت والقبور .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " .

وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة :
ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
" إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم . وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب " .
فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟
قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ، ولا فارا بخربة .
رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظه .

فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم ، عليه السلام ، حرمها ; لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها ، وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم ، عليه السلام ، لها ، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، ومع هذا قال إبراهيم ، عليه السلام : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره .
ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن بدء أمرك .
فقال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم ، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " .
أي : أخبرنا عن بدء ظهور أمرك . كما سيأتي قريبا ، إن شاء الله .

وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة ، كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة ، كما هو مذهب مالك وأتباعه ، فتذكر في موضع آخر بأدلتها ، إن شاء الله ، وبه الثقة .

وقوله : تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) أي : من الخوف ، لا يرعب أهله ، وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا .
كقوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 97 ]
وقوله ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ].
إلى غير ذلك من الآيات . وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيها .
وفي صحيح مسلم عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح " .
وقال في هذه السورة : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) أي : اجعل هذه البقعة بلدا آمنا ، وناسب هذا ; لأنه قبل بناء الكعبة .
وقال تعالى في سورة إبراهيم : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ) [ إبراهيم : 35 ].
وناسب هذا هناك لأنه ، والله أعلم ، كأنه وقع دعاء ثانيا بعد بناء البيت واستقرار أهله به ، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ; ولهذا قال في آخر الدعاء :
( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) [ إبراهيم : 39 ]

وقوله تعالى : ( وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير )
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : ( قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) قال : هو قول الله تعالى . وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير ، رحمه الله تعالى.
قال : وقرأ آخرون : ( قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم ، كما رواه أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .

وقال أبو جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : ( ومن كفر فأمتعه قليلا ) يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ( ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير )

وقال محمد بن إسحاق : لما عزل إبراهيم ، عليه السلام ، الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته ، وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم أنه ظالم ألا يناله عهده ، بخبر الله له بذلك قال الله : ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا .

وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر )
قال ابن عباس : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقا لا أرزقهم ؟ ! أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير .
ثم قرأ ابن عباس : ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) [ الإسراء : 20 ] .
رواه ابن مردويه . وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا .
وهذا كقوله تعالى : ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) [ يونس : 69 ، 70 ].
وقوله تعالى : ( ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ) [ لقمان : 23 ، 24 ].
وقوله : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ) [ الزخرف : 33 ، 35 ]
وقوله ( ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) أي : ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير .
ومعناه : أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، كقوله تعالى : ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) [ الحج : 48 ].
وفي الصحيحين :
" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ; إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم ".
وفي الصحيح أيضا : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .
ثم قرأ قوله تعالى : ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) [ هود : 102 ] .

وقرأ بعضهم "قال ومن كفر فأمتعه قليلا" الآية جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة وتركيب السياق يأبى معناها واللّه أعلم
فإن الضمير في قال راجع إلى اللّه تعالى في قراءة الجمهور والسياق يقتضيه وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم وهذا خلاف نظم الكلام واللّه سبحانه هو العلام.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : 127]
وأما قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )

فالقواعد : جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى :
واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، البيت ، ورفعهما القواعد منه ، وهما يقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) فهما في عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ، عن وهيب بن الورد :
أنه قرأ : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) ثم يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك .
وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين في قوله تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي : يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات ( وقلوبهم وجلة ) [ المؤمنون : 60 ] أي : خائفة ألا يتقبل منهم .
كما جاء به الحديث الصحيح ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه .

وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل .
والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان ، كما سيأتي بيانه .

وقد روى البخاري هاهنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك .
قال البخاري ، رحمه الله :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال :
أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، عليهما السلام اتخذت منطقا ليعفي أثرها على سارة .
ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، عليهما السلام ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم ، عليه السلام ، منطلقا . فتبعته أم إسماعيل فقالت :
يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟
فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها .
فقالت : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم .
قالت : إذا لا يضيعنا . ثم رجعت .
فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، قال :
( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم : 37 ].
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، عليهما السلام ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ماء السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا . فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا .
ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" فلذلك سعى الناس بينهما " .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت أيضا .
فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث .
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ; فإن هاهنا بيتا لله ، عز وجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ، عز وجل ، لا يضيع أهله .
وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء . فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جريا أو جريين ، فإذا هم بالماء . فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا .
قال : وأم إسماعيل عند الماء .
فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟
قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء .
قالوا : نعم .
قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس . فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل ، عليهما السلام ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته . فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة . وشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، كأنه أنس شيئا .
فقال : هل جاءكم من أحد ؟
قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسأل عنك ، فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة .
قال : فهل أوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول غير عتبة بابك .
قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك .
فطلقها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده . فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟
وسألها عن عيشهم وهيئتهم . فقالت : نحن بخير وسعة . وأثنت على الله ، عز وجل .
فقال : ما طعامكم ؟
قالت : اللحم .
قال : فما شرابكم ؟
قالت : الماء .
قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء " .
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم ، لدعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه " .
قال : " فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، قال : هل أتاكم من أحد ؟
قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير .
قال : فأوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك .
ثم لبث عنهم ما شاء الله ، عز وجل ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ، والوالد بالولد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر .
قال : فاصنع ما أمرك ربك ، عز وجل .
قال : وتعينني ؟
قال : وأعينك .
قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) "
قال : " فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .
[ ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ] .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي عبد الله محمد بن حماد الظهراني . وابن جرير ، عن أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرا .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الملك بن جريج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير ، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني . فسألوه عن المقام . فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ، فذكر الحديث بطوله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد . حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شنة فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة ، فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ، ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل ، حتى بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم ، إلى من تتركنا ؟
قال : إلى الله ، عز وجل .
قالت : رضيت بالله .
قال : فرجعت ، فجعلت تشرب من الشنة ، ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا .
قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت هل تحس أحدا ، فلم تحس أحدا . فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة ، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، تعني الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت ، فلم تقرها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا ، حتى أتمت سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا جبريل ، عليه السلام ، قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عقبه على الأرض . قال : فانبثق الماء ، فدهشت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " لو تركته لكان الماء ظاهرا . "
قال : فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها .
قال : فمر ناس من جرهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير ، كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء ، فبعثوا رسولهم فنظر ، فإذا هو بالماء . فأتاهم فأخبرهم . فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح فيهم امرأة .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي .
قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل ؟
قالت امرأته : ذهب يصيد .
قال : قولي له إذا جاء : غير عتبة بيتك .
فلما جاء أخبرته ، قال : أنت ذاك ، فاذهبي إلى أهلك .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي . قال : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟
فقالت امرأته : ذهب يصيد .
فقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟
فقال : ما طعامكم وما شرابكم ؟
قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء .
قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " بركة بدعوة إبراهيم "
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي .
فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له فقال : يا إسماعيل ، إن ربك ، عز وجل ، أمرني أن أبني له بيتا .
فقال : أطع ربك ، عز وجل .
قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟
فقال : إذن أفعل أو كما قال .
قال : فقاما [ قال ] فجعل إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )
قال : حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة .
فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )
هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء .
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن سنان القزاز ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن إبراهيم بن نافع ، به .
وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
كذا قال .
وقد رواه البخاري كما ترى ، من حديث إبراهيم بن نافع ، كأن فيه اقتصارا ، فإنه لم يذكر فيه [ شأن ] الذبح .
وقد جاء في الصحيح ، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ، وقد جاء أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة ، والله أعلم .
والحديث والله أعلم إنما فيه - مرفوع - أماكن صرح بها ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن علي بن أبي طالب ، قال :
لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر .
قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثل الرأس . فكلمه ، قال :
يا إبراهيم ، ابن على ظلي أو قال على قدري ولا تزد ولا تنقص : فلما بنى خرج ، وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟
قال : إلى الله .
قالت : انطلق ، فإنه لا يضيعنا .
قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا ، قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ، فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟
قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم .
قال : فإلى من وكلكما ؟
قالت : وكلنا إلى الله .
قال : وكلكما إلى كاف .
قال : ففحص الغلام الأرض بأصبعه ، فنبعت زمزم . فجعلت تحبس الماء
فقال : دعيه فإنها رواء .
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ، وقد يحتمل إن كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا ، لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معا ، كما قال الله تعالى .

ثم قال ابن جرير :
أخبرنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال :
ألا تخبرني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟
فقال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة ، مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ، ولها رأسان فأتبع أحدهما صاحبه ، حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت على موضع البيت كطي الحجفة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئا .
فقال إبراهيم : أبغني حجرا كما آمرك .
قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا ، فأتاه به ، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه .
فقال : يا أبه ، من أتاك بهذا الحجر ؟
فقال : أتاني به من لن يتكل على بنائك ، جاء به جبريل ، عليه السلام ، من السماء . فأتماه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال :
كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاما ، ومنه دحيت الأرض .
قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية ، ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا ، قال : فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا .
قلت : يا أبا محمد ، فإن الله يقول : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت )
قال : كان ذلك بعد .

وقال السدي : إن الله ، عز وجل ، أمر إبراهيم أن يبني [ البيت ] هو وإسماعيل : ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ؟
فبعث الله ريحا ، يقال لها : ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس .
فذلك حين يقول [ الله ] تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت )
( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) [ الحج : 26 ]
فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن .
قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا .
قال : يا أبت ، إني كسلان لغب .
قال : علي بذلك .
فانطلق فطلب له حجرا ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا ، فانطلق يطلب له حجرا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبه ، من جاءك بهذا ؟
قال : جاء به من هو أنشط منك .
فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [ بهن ] إبراهيم ربه ، فقال :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم . وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها .
وقد ذهب إلى ذلك ذاهبون ، كما قال الإمام عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .
وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار ختن عطاء عن عطاء بن أبي رباح ، قال :
لما أهبط الله آدم من الجنة ، كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها . فخفضه الله إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته . فوجه إلى مكة ، فكان موضع قدمه قرية ، وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن . فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم ، عليه السلام ، فبناه .
وذلك قول الله تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) [ الحج : 26 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات الملائكة !
قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، فابن لي بيتا ثم احفف به ، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء .
فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء . وطور زيتا ، وطور سيناء ، وجبل لبنان ، والجودي .
وكان ربضه من حراء .
فكان هذا بناء آدم ، حتى بناه إبراهيم ، عليه السلام ، بعد .
وهذا صحيح إلى عطاء ، ولكن في بعضه نكارة ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق أيضا :
أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال :
وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند . وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا ; فحزن إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم . فشكا ذلك إلى الله ، عز وجل ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج ومد له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة . فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك . فأتى آدم البيت فطاف به ، ومن بعده من الأنبياء .
وقال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
وضع الله البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني [ عبد الله ] بن أبي نجيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم :
أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحملوا فيما حدثني على البراق ، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم . وخرج معه جبريل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل ؟
فيقول جبريل : امضه . حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضاة سلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم : " العماليق " خارج مكة وما حولها . والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟
قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) إلى قوله : ( لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم : 37 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حسان ، أخبرني حميد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة .
وكذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية ، عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علباء بن أحمر :
أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل .
فقال : ما لكما ولأرضي ؟
فقالا : نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة .
قال : فهاتا بالبينة على ما تدعيان .
فقامت خمسة أكبش ، فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ، أمرا ببناء هذه الكعبة .
فقال : قد رضيت وسلمت . ثم مضى .
وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ، عليه السلام ، بالبيت ، وهذا يدل على تقدم زمانه ، والله أعلم .
وقال البخاري ، رحمه الله : قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) الآية : القواعد : أساسه واحدها قاعدة .
والقواعد من النساء : واحدتها قاعد .
حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله :
أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ "
فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟
قال : " لولا حدثان قومك بالكفر " .
فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم ، عليه السلام .
وقد رواه في الحج عن القعنبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف . ومسلم عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب .
والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، كلهم عن مالك به .
ورواه مسلم أيضا من حديث نافع ، قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال : بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر " .
وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قال لي ابن الزبير : كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا ، فما حدثتك في الكعبة ؟
قال قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" يا عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم فقال ابن الزبير : بكفر لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : بابا يدخل منه الناس ، وبابا يخرجون " .
ففعله ابن الزبير .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ، ولجعلت لها خلفا " .
قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب ، قالا : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بهذا الإسناد . انفرد به مسلم ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، حدثنا سليم بن حيان ، عن سعيد يعني ابن ميناء قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يا عائشة ، لولا قومك حديث عهد بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ; فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة "
انفرد به أيضا .
هناك بقية لتفسير الآية
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
بقية تفسير الآية
ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين وقد نقل معهم في الحجارة ، وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، في السيرة :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ، ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك ، مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده .
ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك .
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة ، لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها .
وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم ، في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم ، فتتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تتشرق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها .
فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية .
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه .
فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .
قال ابن إسحاق : والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .
قال : ثم إن قريشا تجزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ، ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحطيم .
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها : فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول :
اللهم لم ترع ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير .
ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا .
فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم [ بهم ] إلى الأساس ، أساس إبراهيم ، عليه السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا .
قال [ محمد بن إسحاق ] فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ، ممن كان يهدمها ، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا ، وأعدوا للقتال . فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا : لعقة الدم .
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا .
فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال :
يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه . ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر.
قال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم : " هلم إلي ثوبا "
فأتي به ، فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ، ثم قال : " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب " ثم [ قال ] : " ارفعوه جميعا " .
ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه .
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين .
فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :

عجبت لما تصوبت العقاب
إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت يكون لها كشيش
وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدت
تهيبنا البناء وقد تهاب

فلما أن خشينا الزجر جاءت
عقاب تتلئب لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت
لنا البنيان ليس له حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء
لنا منه القواعد والتراب

غداة نرفع التأسيس منه
وليس على مسوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي
فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو
عدي ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزا
وعند الله يلتمس الثواب

قال ابن إسحاق :
وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كسيت بعد البرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
قلت : ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين . وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم ، عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض ، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا هناد بن السري ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال :
لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، وكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحزبهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا علي في الكعبة ، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها ؟
قال ابن عباس : فإني قد فرق لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهى منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم ، عز وجل ; إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري .
فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها .
فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل ، فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض . فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه .
وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة ، رضي الله عنها ، تقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
" لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه .
قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس .
قال : فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر ، حتى أبدى له أساس نظر الناس إليه فبنى عليه البناء .
وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا ، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع ، وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه .
فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره . وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه .
وقد رواه النسائي في سننه ، عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير ، عن عائشة بالمرفوع منه . ولم يذكر القصة ، وقد كانت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ; لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر . ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك ; ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وددنا أنا تركناه وما تولى . كما قال مسلم :
حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج ، سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء ، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال عبد الله بن عبيد :
وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها .
قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها .
قال : سمعتها تقول ماذا ؟
قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " .
فأراها قريبا من سبعة أذرع .
هذا حديث عبد الله بن عبيد [ بن عمير ] .
وزاد عليه الوليد بن عطاء : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ "
قالت : قلت : لا .
قال : " تعززا ألا يدخلها إلا من أرادوا .
فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها ، يدعونه حتى يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط "
قال عبد الملك : فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟
قال : نعم .
قال : فنكت ساعة بعصاه ، ثم قال : وددت أني تركت وما تحمل .
قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم ( ح ) وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد ، مثل حديث ابن بكر .
قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين ، يقول : سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يا عائشة ، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها من الحجر ، فإن قومك قصروا في البناء " .
فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا .
قال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير .
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد ، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير .
فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير .
فلو ترك لكان جيدا .
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله ، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير .
فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها .
فترك ذلك الرشيد .
نقله عياض والنواوي ، ولا تزال والله أعلم هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " .
أخرجاه .
وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
" كأني به أسود أفحج ، يقلعها حجرا حجرا " .
رواه البخاري .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها . ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله " .
الفدع : زيغ بين القدم وعظم الساق .
وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
سورة البقرة. تفسير ابن كثير
تفسير ابن كثير
@@@@@@@

( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : 128]
قوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم )
قال ابن جرير : يعنيان بذلك ، واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحصني القرشي ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عبد الكريم : ( واجعلنا مسلمين لك ) قال : مخلصين لك ، ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال : مخلصة .
وقال أيضا : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا المقدمي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية ( واجعلنا مسلمين ) قال : كانا مسلمين ، ولكنهما سألاه الثبات .
وقال عكرمة : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) قال الله : قد فعلت . ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) قال الله : قد فعلت .

وقال السدي : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) يعنيان العرب .

قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم ; لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ]

قلت : وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ; فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ; ولهذا قال بعده : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) الآية ، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود ، لقوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة .

وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين ، في قوله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) [ الفرقان : 74 ] .
وهذا القدر مرغوب فيه شرعا ، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ; ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم ، عليه السلام :
( إني جاعلك للناس إماما )
قال : ( ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )
وهو قوله : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35 ] .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له "

( وأرنا مناسكنا) قال ابن جريج ، عن عطاء ( وأرنا مناسكنا ) أخرجها لنا ، علمناها .

وقال مجاهد ( وأرنا مناسكنا ) مذابحنا .
وروي عن عطاء أيضا ، وقتادة نحو ذلك .

وقال سعيد بن منصور : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم : " أرنا مناسكنا " فأتاه جبرائيل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله . ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؟ . ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه . فكبر ورماه . ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه . فكبر ورماه . فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام . فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات .
قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها : ثلاث مرار .
قال : نعم .

وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال :
إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى ، فقال : مناخ الناس هذا . فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جمعا .
فقال : هذا المشعر . ثم أتى به عرفة . فقال : هذه عرفة .
فقال له جبريل : أعرفت ؟ .
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى