تواصل معنا

مُذَكِّرَات مَرْغِرِيت أَرْمَان: لَمْ تَكْتُب إِلَى وَلَمْ تَأْتِنِي كَأَنَّمَا ظَنَنْت أَنِّي أُرِيد أَنْ أَسْتَعِيد مَعَك عَهْد اَلْمَاضِي وَأَيْنَ...

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي


مُذَكِّرَات مَرْغِرِيت
أَرْمَان:
لَمْ تَكْتُب إِلَى وَلَمْ تَأْتِنِي كَأَنَّمَا ظَنَنْت أَنِّي أُرِيد أَنْ أَسْتَعِيد مَعَك عَهْد اَلْمَاضِي وَأَيْنَ أَنَا مِنْ ذَلِكَ اَلْعَهْد فَلَوْ رَأَيْتنِي لَرَأَيْت اِمْرَأَة ذَاهِبَة مُدَبِّرَة لَا تُصْلِح لِشَأْن مِنْ شُؤُون اَلْحَيَاة وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ صُورَتهَا اَلْمَاضِيَة إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ اَلزَّهْرَة اَلسَّاقِطَة عَنْ غُصْنهَا بَعْد مَا عَصَفَتْ اَلرِّيح بِأَوْرَاقِهَا وَكُلّ مَا كُنْت أُرِيدهُ مِنْك أَنَّ أَرَاك بِجَانِب فِرَاشِي فِي سَاعَتِي اَلْأَخِيرَة لِأَعْتَذِر لَك عَنْ ذَنْبِي اَلَّذِي أذنبته إِلَيْك ثُمَّ أنظر نَظْرَة وَدَاع أَغْمِضْ عَلَيْهَا جَفْنِي وَاذْهَبْ بِهَا إِلَيَّ قَبْرِي!
مَا أَنَا بِخَائِنَة يَا أَرْمَان وَلَا خَادِعَة فَإِنَّ اَلرِّسَالَة اَلَّتِي رَأَيْتهَا فِي يَدِي يَوْم عُدْت إِلَى مَنْ مُقَابِلَة أَبِيك لَيْسَتْ رِسَالَة المركيز كَمَا ظَنَنْت بَلْ رِسَالَة أَبِيك نَفْسه وَصَلَتْ مِنْهُ قَبْل وُصُولك إِلَى بوجيفال بِسَاعَة وَاحِدَة وَهَذَا نَصّهَا اَلَّذِي لَا يَزَال عَالِقًا بِذِهْنِي حَتَّى اَلسَّاعَة:
سَيِّدَتِي:
أُرِيد أَنْ أُقَابِلك غَدًا فِي مَنْزِلك فِي اَلسَّاعَة اَلْعَاشِرَة صَبَاحًا فِي شَأْن خَاصّ بِي وَبِك وَأُرِيد أَلَّا يَكُون أَرْمَان حَاضِرًا تِلْكَ اَلْمُقَابَلَة وَلَا عَالِمًا بِهَا وَلَا بِأَنِّي أَرْسَلْت هَذِهِ اَلرِّسَالَة إِلَيْك وَلِي مِنْ حُسْن اَلرَّأْي فِيك مَا يُطْمِعنِي فِي أَنْ يَكُون مَا سَأَلَتْك إِيَّاهُ سِرًّا بَيْنِي وَبَيْنك حَتَّى نَلْتَقِي وَالسَّلَام.
فَلَمَّا قَرَأَتْهَا عَلِمَتْ مَاذَا يُرِيد مِنْ تِلْكَ اَلْمُقَابَلَة وَشَعَرَتْ بِمَا وَرَاءَهَا بَلْ عَلِمَتْ بِمَا دَارَ بَيْنك وَبَيْنه مِنْ اَلْحَدِيث وَأَنَّك أمتنعت عَلَيْهِ حَتَّى يَئِسَ مِنْك فَحَاوَلَ أَنْ يُدْخِل عَلَيْك مِنْ بَابِي فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنْ أَرْفُض مُقَابَلَته وَأَنْ أُكَاشِفك بِكُلّ شَيْء ثُمَّ اِسْتَحْيَيْت مِنْ نَفْسِي وَأَكْبَرْت اَلسِّرّ فَلَا يَجْحَدنِي عِنْد ظَنّه وَطَمِعَتْ فِي أَنْ أَنَال مِنْهُ عِنْد اَلْمُقَابَلَة مَا يَطْمَع أَنْ يَنَالهُ مِنِّي فَكَلَّمَتْك أَمْر اَلرِّسَالَة وَكَتَمَتْك مَا فِي نَفْسِي مِنْهَا وَلَمْ أَكُنْ كَاذِبَة فِي شَكَّاتِي وَأَلَمِي حِينَمَا قُلْت لَك فِي تِلْكَ اَللَّيْلَة إِنَّنِي لَا أَسْتَطِيع اَلْبَقَاء بِجَانِبِك وَسَأَلَتْك أَنْ تَقُودنِي إِلَى مَخْدَعِي فَقَدْ قَضَيْت فِي فِرَاشِي بَعْدَمَا فَارَقَتْك لَيْلَة لَمْ أَقْضِ مِثْلهَا فِي جَمِيع مَا مَرَّ بِي مِنْ لَيَالِي اَلْهُمُوم وَالْأَحْزَان حَتَّى اصبح الصباح فَأَلْحَحْت عَلَيْك أَنْ تَذْهَب لِمُقَابِلَة أَبِيك وَأَنَا أَعْلَم أَنَّك ذَهَبْت إِلَيْهِ لَا تَرَاهُ وَلَا تَنْتَفِع بِمُقَابَلَتِهِ إِنْ رَأَيْته وَلَكِنِّي خِفْت أَنْ يَزُورنِي فَيَرَاك عِنْدِي فَأَصْغَر فِي عَيْنَيْهِ وَلَا أَشَدّ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَات قَلِيلَة حَتَّى وَصَلَ إِلَى بوجيفال فِي اَلْمَوْعِد اَلَّذِي ضَرَبَهُ فِي كِتَابه فَاسْتَأْذَنَ عَلَى فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ فَرَايْت فِي عَيْنَيْهِ جَمْرَة مِنْ اَلْغَضَب تَلْتَهِب اِلْتِهَابًا فَلَمْ أَحْفُل بِهَا وَدَعْوَته لِلْجُلُوسِ فَلَمْ يَفْعَل وَلَمْ يُحْيِنِي بِيَدِهِ وَلَا بِوَلَدِي أَيَّتُهَا اَلسَّيِّدَة وَظَلَّ نَاظِرًا إِلَى نَظَرًا جَامِدًا سَاكِنًا لَا وَلَهْجَته اَلْجَافَّة اَلْخَشِنَة وَامْتَعَضَتْ فِي نَفْسِي اِمْتِعَاضًا شَدِيدًا حَتَّى كِدْت أَقُول لَهُ وَلَا أَكْتُمك ذَلِكَ تَذْكُر يَا سَيِّدِي أَنَّك فِي مَنْزِلِي وَأَنَّنِي لَمْ أَدْعُك إِلَى زِيَارَتِي بَلْ أَنْتَ اَلَّذِي دَعَوْت نَفْسك بِنَفْسِك ثُمَّ ذَكَرَتْ مَكَانه مِنْك فَأَمْسَكَتْ عَنْ كُلّ شَيْء حَتَّى عَنَّ اَلْجَوَاب عَلَى سُؤَاله فَمَشَى يَضْرِب اَلْأَرْض بِعَصَاهُ وَبِقَدَمِهِ حَتَّى دَنَا مِنِّي وَأَلْقَى عَلَيَّ تِلْكَ اَلنَّظْرَة اَلَّتِي اِعْتَادَ اَلْأَشْرَاف اَلْمُتَرَفِّعُونَ أَنْ يُلْقُوهَا فِي طَرِيقهمْ عَلَى وُجُوه اَلنِّسَاء اَلْعَاهِرَات وَقَالَ:
لَقَدْ أَنْفَقَ وَلَدَيَّ عَلَيْك جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ اَلْمَال وَكَانَ فِي يَده اَلْكَثِير مِنْهُ ثُمَّ جَمِيع مَا أَرْسَلَتْهُ إِلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ وَقَدْ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَوْق طَاقَتِي فَلَمْ يَبْقَ فِي اِسْتِطَاعَته أَنْ يَمُدّك بِأَكْثَر مِمَّا أَمُدّك وَلَا فِي اِسْتِطَاعَتِي أَنْ استنزل لَهُ مِنْ اَلسَّمَاء ذَهَبًا يُمْطِرهُ عَلَيْك وَلَا فِي اِسْتِطَاعَتِي أَنْ أستنزل لَهُ مِنْ اَلسَّمَاء ذَهَبًا يُمْطِرهُ عَلَيْك فَدَعِيهِ وَشَأْنه فَالْبَلَد مَمْلُوء بِالْأَبْنَاءِ اَلَّذِينَ لَا يَحْتَاج آبَاؤُهُمْ إِلَيْهِمْ فَدَعِيهِ وَشَأْنه وَاَلَّذِينَ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْفُسهمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي فِي حَاجَة إِلَى وَلَدِي لِأَنِّي لَمْ أُرْزَق وَلَدًا سِوَاهُ وَمَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ هَذِهِ اَلثَّرْوَة مِنْ اَلْجِمَال اَلَّتِي تَمْلِكِينَهَا لَا يَضِيق بِهِ مَذْهَب مِنْ مَذَاهِب اَلْعَيْش وَلَا يَتَلَوَّى عَلَيْهِ مَأْرَب مِنْ مَآرِب اَلْحَيَاة.
فَسَرَّتْ كَلِمَاته فِي نَفْسَيْ سُرْيَان اَلْحُمَّى فِي عِظَام اَلْمَحْمُوم وَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ هَذَا اَلْمَائِل أَمَامِيّ لَا يُحَدِّثنِي وَإِنَّمَا يجزعني اَلسُّمّ بِيَدِهِ تجريعا وَشَعَرَتْ بِذِلَّة لَمْ أَشْعُر بِمِثْلِهَا فِي يَوْم مِنْ أَيَّام حَيَاتِي إِلَّا أَنَّنِي تَجَلَّدَتْ وَاسْتَمْسَكَتْ وَرَدَّدَتْ نَفْسِيّ عَلَى بِالْإِغْوَاءِ وَقَلَّتْ لَهُ بِصَوْت هَادِئ سَاكِن لَا يمازجه غَضَب وَلَا نزق:
يَا سَيِّدِي نَعَمْ إِنَّنِي أَحَبّ وَلَدك وَلَكِنِّي لَا اطمع فِيهِ وَلَوْ كَانَ اَلَّذِي يَعْنِينَ مِنْهُ اَلطَّمَع فِي مَاله لفارقته مُنْذُ ثَلَاثَة شُهُور أَيْ مُنْذُ خَلَتْ يَده مِنْ اَلْمَال وَأَصْبَحَ لَا يَجِد اَلسَّبِيل إِلَيْهِ بِحَال مِنْ اَلْأَحْوَال بَلْ لفارقته قَبْل ذَلِكَ لِأَنَّ اَلَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يُسَاوِمُونَنِي فِي نَفْسِي مِنْ أَشْرَاف هَذَا اَلْبَلَد وَنُبَلَائِهِ مُنْذُ اِتَّصَلَتْ بِهِ حتي اَلْيَوْم أَفْضَل مِنْهُ وَأَكْثَر رَغَدًا عَلَى أَنَّ وَلَدك لَمْ يُنْفِق عَلَيَّ مِنْ هَذَا اَلْمَال اَلَّذِي تُذَكِّرهُ إِلَّا اَلنَّزْر اَلْقَلِيل وَرُبَّمَا أَنْفَقَ باقيه عَلَى نَفْسه وَلَوْ اِسْتَطَعْت أَنْ أَرْفُض ذَلِكَ اَلْقَلِيل وَآبَاهُ لَفَعَلَتْ وَلَكِنِّي كُنْت أَضَنّ بِهِ أَنْ يُدَاخِل نَفْسه مَا يُرِيبهَا أَوْ يُؤْلِمهَا فَقَبِلَتْ مِنْهُ هَدَايَاهُ اَلصَّغِيرَة اَلَّتِي كَانَ يُقَدِّمهَا إِلَى مَنْ حِين إِلَى حِين إرعاء عَلَيْهِ وَإِبْقَاء عَلَى عِزَّة نَفْسه وَكَرَامَتهَا وَلَوْ أَنَّ مَا كَانَ بِيَدِهِ مَنْ الِمَال اِنْتَقَلَ إِلَى يَدِي كَمَا تَقُول لَأَصْبَحَتْ غَنِيَّة مَوْفُورَة لَا أَحْمِل هُمَا مِنْ هُمُوم اَلْعَيْش وَلَا أُعَانِي مِنْ بَأْسَاء اَلْحَيَاة وَضَرَّائِهَا مَا أُعَانِيه اَلْيَوْم فَإِنَّنِي لَوْ تَبَيَّنْت أَمْرِي اِمْرَأَة فَقِيرَة معوزة لَا أَمَلّك مِنْ مَتَاع اَلدُّنْيَا إِلَّا حَلَّايَ وَمَرْكَبَتِي وَأَثَاث بَيْتِيّ وَلَيْتَهَا كَانَتْ خَالِصَة لِي فَقَدْ اِمْتَدَّتْ يَد اَلضَّرُورَة إِلَيْهَا مُنْذُ عَهْد قَرِيب فَأَصْبَحَ اَلْكَثِير مِنْهَا سِلْعَة فِي يَد اَلْمُرَابِينَ وَلَا أُعَلِّم مَا يَأْتِي بِهِ اَلْغَد وَإِنْ أَبَيْت إِلَّا أَنْ أَتَعَرَّف ذَلِكَ بِنَفْسِك بِالْإِغْوَاءِ عَلَى مَا كَتَمَتْهُ عَنْ اَلنَّاس جَمِيعًا حَتَّى عَنَّ وَلَدك ثُمَّ قُمْت إِلَى خِزَانَة أَوْرَاقِي فَجِئْته مِنْهَا بِالصُّكُوكِ وَالْوَثَائِق اَلْمُشْتَمِلَة عَلَى بَيْع مَا بِعْت مِنْ جَوَاهِرِيّ وَخُيُولِي وَأَثَاث بَيْتِيّ وَرَهْن مَا رَهَنَتْ مِنْهَا فَظَلَّ يَقْبَلهَا بَيْن يَدَيْهِ سَاعَة وَيَتَأَمَّل فِي تَارِيخهَا طَوِيلًا ثُمَّ طَوَاهَا وَأَعَادَهَا إِلَى مُطْرِقًا صَامِتًا لَا يَقُول شَيْئًا وَمَدّ يَده إِلَى كُرْسِيّ بَيْن يَدَيْهِ فَاجْتَذَبَهُ إِلَيْهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ مُعْتَمِدًا بِرَأْسِهِ عَلَى عَصَاهُ وَقَدْ هَدَّأَتْ فِي نَفْسه تِلْكَ اَلثَّوْرَة اَلَّتِي كَانَتْ تَضْطَرِم وَتَعْتَلِج مُنْذُ دُخُوله وَطَارَتْ عَنْ وَجْهه تِلْكَ اَلْغَيْرَة اَلسَّوْدَاء اَلَّتِي كَانَتْ تُظَلِّلهُ مِنْ قَبْل فَعُدْت إِلَى حَدِيثِي مَعَهُ أَقُول:
 

LioN KinG

ملك الغابة
المدير العام
إنضم
5 مايو 2021
المشاركات
4,887
مستوى التفاعل
5,903
الإقامة
الكويت
مجموع اﻻوسمة
6
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
قصيدة رائعة يعطيك ألف عافية
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي

عَلَى أَنَّنِي يَا سَيِّدِي غَيْر شَاكِيَة وَلَا نَاقِمَة فَقَدْ مَرَّ بِي مِنْ نوب اَلْأَيَّام وأرزائها مَا مَحَا مِنْ نَفْسَيْ كُلّ شَهْوَة مِنْ شَهَوَات اَلْحَيَاة وَأَنْسَانِي جَمِيع مَظَاهِر اَلدُّنْيَا وَمَفَاخِرهَا فَأَصْبَحَتْ لَا أُبَالِي بِمَا تَأْتِي بِهِ اَلْأَيَّام وَسَوَاء لَدَيَّ اَلْفَقْر وَالْغِنَى وَالْحُلِيّ وَالْعِطْر وَسُكْنَى اَلْقَصْر وَسُكْنَى اَلْكُوخ وَرُكُوب اَلْمَرْكَبَة وَرُكُوب اَلنَّعْل وَكُلّ مَا أَرْجُوهُ مِنْ حَيَاتِي وَأَضْرَع إِلَى اَللَّه وَإِلَيْك فِيهِ أَنْ أَرَى أَرْمَان يُقَاسِمنِي هُمْ اَلْحَيَاة وَبُؤْسهَا وَيَعْنِينِي عَلَى شِدَّتهَا فُسْحَة قَضِيَّتهَا فِي شُكْرك وَحَمْدك وَالْإِخْلَاص لَك فِي سَرَى وَعَلَنِيّ وَإِنْ كَانَتْ اَلْأُخْرَى كَانَ آخَر مَا طَلَّقَ بِهِ فِي سَاعَتِي اَلْأَخِيرَة أَنْ أَدْعُو لَك اَللَّه تَعَالَى ضارعة مُبْتَهِلَة أَنْ يُبَارِك لَك فِي نَفْسك وَفِي أَهْلك وَأَنْ يُسْبِل سِتْره الضافي عَلَيْك فِي حَاضِرك وَمُسْتَقْبَلك.
ثُمَّ جَثَوْت بَيْن يَدَيْهِ وَتَعَلَّقْت بِأَهْدَاب ثَوْبه وَقَدْ عَجَزَتْ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَة عَنْ أَنَّ أَمَلك مِنْ دُمُوعِي مَا كُنْت مَالِكَة مِنْ قَبْل فَظَلِلْت أَبْكِي وَأَقُول:
رَحِمَاك يَا مَوْلَايَ إِنَّنِي اِمْرَأَة بَائِسَة مِسْكِينَة قَدْ قَضَتْ عَلَيَّ بَعْض ضَرُورَات اَلْعَيْش فِي فَاتِحَة حَيَاتِي أَنْ أَقِف عَلَى حَافَّة تِلْكَ اَلْهُوَّة اَلَّتِي يَقِف عَلَى رَأْسهَا اَلنِّسَاء اَلْجَائِعَات فَسَقَطَتْ فِيهَا كَارِهَة مُرْغَمَة ثُمَّ أَرَدْت نَفْسِي عَلَى اَلرِّضَا بِتِلْكَ اَلْحَيَاة اَلَّتِي قَدَّرَهَا اَللَّه لِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ فَأَصْبَحَتْ فِي مَنْزِلَة بَيْن اَلْمَنْزِلَتَيْنِ لَا أَنَا شَرِيفَة أَنْعَم بِعَيْش اَلنِّسَاء اَلشَّرِيفَات وَلَا مَيِّتَة اَلْقَلْب أَسْعَد سَعَادَة اَلْفَتَيَات اَلسَّاقِطَات وَقَدْ وَجَدَتْ فِي وَلَدك اَلرَّجُل اَلْوَحِيد اَلَّذِي أَحَبَّنِي لِنَفْسِي وَمَنَحَنِي مِنْ وِدّه وَإِخْلَاصه مَا ضَنَّ بِهِ عَلَى اَلنَّاس جَمِيعًا فَأَنِسَتْ بِهِ أُنْسًا أَنْسَانِي سُقُوطِي وَعَارِي وَحَبَّبَ إِلَيَّ اَلْحَيَاة بَعْد مَا أَبْغَضَتْهَا وَبَرَمَتْ بِهَا وَكِدْت أَقْضِي عَلَى نَفْسِي بِالْخَلَاصِ مِنْهَا فَلَا تَحْرِمنِي جِوَاره وَلَا تُفَرِّق بَيْنِي وَبَيْنه فَإِنَّك إِنْ فَعَلْت أَشْقَيْتنِي وَبَرِحْت بِي وَمَلَأْت حَيَاتِي هَمَدَا وَكَمَّدَا وَأَنْتَ أَجْل مَنْ أَنْ تَرْضَيْ لِنَفْسِك بِأَنَّ تَبَنِّي سَعَادَتك وَهَنَاءَك عَلَى شَقَاء اِمْرَأَة مِسْكِينَة مِثْلِي.
مَاذَا يَكُون مَصِيرِيّ غَدًا إِذَا أَصْبَحَتْ وَحَيْدَة مُنْقَطِعَة فِي هَذَا اَلْعَالَم لَا صَدِيق لِي وَلَا مُعَيَّن أَعُود إِلَى حَيَاتِي اَلَّتِي أُبَغِّضهَا وَأَخْشَاهَا فَأَعُود إِلَى جَرَائِمِي وَآثَامِي أَمْ اُقْتُلْ نَفْسِي بِيَدِي فِرَارًا مِنْ شَقَاء اَلدُّنْيَا وبرئها فَأَخْتِم حَيَاتِي بِأَقْبَح مَا خَتَمَ اِمْرُؤ بِهِ حَيَاته لَا استطيع وَاحِدَة مِنْ هَاتَيْنِ فَأُمَدِّد إِلَيَّ يَدك اَلْبَيْضَاء وَأَنْقَذَنِي مِنْ هَذِهِ اَلْهُوَّة اَلْعَمِيقَة اَلَّتِي لَا يَسْتَطِيع أَحَد أَنْ يُنْقِذنِي مِنْهَا سِوَاك.
أَنَا أَعْلَم فِي حَاجَة إِلَى وَلَدك وَأَنَّك أَوْلَى بِهِ مِنْ كُلّ مَخْلُوق عَلَى وَجْه اَلْأَرْض وَلَكِنِّي أَعْلَم أَنَّك شفوق رَحِيم لَا تَأْبَيْ أَنْ تَتَصَدَّق عَلَى اِمْرَأَة مَرِيضَة بَائِسَة مِثْلِي بِسَاعَات مِنْ اَلسَّعَادَة تَتَعَلَّل بِهَا فِي مَرَضهَا اَلَّذِي تُكَابِدهُ حَتَّى يُوَافِيهَا أَجْلهَا لَا أَسْأَلك يَا سَيِّدِي مَالًا وَلَا نَسَبًا وَلَا عِرْضًا مِنْ أَعْرَاض اَلْحَيَاة بَلْ أَسْأَلك أَنْ تَأْذَن لِأَرْمَان بِالْبَقَاءِ مَعِي فَإِنَّ بَقَائِهِ بَقَاء حَيَاتِي وَسَعَادَتِي فَتُصَدِّق بِهِمَا عَلَيَّ إِنَّك مِنْ اَلْمُحْسِنِينَ.
وَهُنَا شَعَرَتْ كَأَنَّهُ يَتَحَدَّك فِي كرسية فَخَفْق قَلْبِيّ خَفَقَانًا شَدِيدًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه وَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَة أَهْدَأ نَارًا وَأَقْصَر شُعَاعًا مَنْ نَظَّرَتْهُ اَلْأُولَى وَقَالَ:
وَمِنْ أَيْنَ تَعِيشَانِ؟
قُلْت: عِنْدِي بَقِيَّة مِنْ جَوَاهِرِي وَحَلَّايَ سَأَبِيعُهَا وَأَعِيش بِثَمَنِهَا مَعَهُ فِي زَاوِيَة مِنْ زَوَايَا بَارِيس عَيْش اَلْفُقَرَاء اَلْمُقِلِّينَ لَا يَرَانَا أَحَد وَلَا يَشْعُر بِوُجُودِنَا شَاعِر وَحَسْبنَا اَلْحُبّ سَعَادَة نَعْنِي بعا عَنْ كُلّ سَعَادَة فِي هَذَا اَلْعَالَم وَهَنَاءَهُ.
قَالَ: ذَلِكَ هُوَ اَلشَّقَاء بِعَيْنِهِ فَإِنَّ اَلْحُبّ نَبَات ظِلِّي تَقْتُلهُ شَمْس اَلشَّقَاء اَلْحَارَة وَكُلّ سَعَادَة فِي اَلْعَالَم غَيْر مُسْتَمَدَّة مِنْ سَعَادَة اَلْمَال أَوْ لَاجِئَة إِلَى ظِلَاله فَهِيَ كَاذِبَة لَا وُجُود لَهَا إِلَّا فِي سوانح اَلْخَيَال.
أَنْتُمَا اَلْيَوْم سَعِيدَانِ لِأَنَّ فِي يَدكُمَا مَالًا تَعِيشَانِ بِهِ وَلِأَنَّكُمَا تَسْكُنَانِ هَذَا اَلْمَنْزِل اَلْبَدِيع فَوْق هَذِهِ اَلْهَضْبَة اَلْعَالِيَة بِجَانِب هَذِهِ اَلْبُحَيْرَة اَلْجَمِيلَة فَإِذَا خَلَتْ يَدكُمَا مِنْ اَلْمَال وَحَرَّمْتُمَا هَذَا اَلنَّعِيم لِذِي تَنْعَمَانِ بِهِ بِالْإِغْوَاءِ وَلَكُمَا شَأْن نَفْسَيْكُمَا عَنْ شَأْن اَلْحُبّ ولذائذه وَسَرَى إِلَى نَفْسَيْكُمَا اَلضَّجَر وَالْمَلَل وَرُبَّمَا اِمْتَدَّتْ تِلْكَ اَلسَّآمَة بَيْنكُمَا إِلَى أَبْعَد غَايَتهَا.
إِنَّ لِلْحُبِّ فُنُونًا مِنْ اَلْجُنُون وَأَقْبَح فُنُونه أَنْ يَعْتَقِد اَلْمُتَحَابَّانِ أَنَّ حُبّهمَا دَائِم لَا تُغَيِّرهُ حَوَادِث اَلْأَيَّام وَلَا تَنَال مِنْهُ اَلصُّرُوف وَالْغَيْر وَلَوْ عَقْلَا لَعَلَّمَا أَنَّ اَلْحُبّ لَوْن مِنْ أَلْوَان اَلنَّفْس وَعَرْض مِنْ أَعْرَاضهَا اَلطَّائِرَة تَأْتِي بِهِ شَهْوَة وَتَذْهَب بِهِ أُخْرَى وَلَا يَذْهَب بِهِ اَلْمَثَل مِثْل اَلْفَاقَة إِذَا اِشْتَدَّتْ وَاسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتهَا فَإِنَّ اَلنَّفْس تُطَالِب حَيَاتهَا وَبَقَاءَهَا قَبْل أَنْ تَطْلُب لذائذها وَشَهَوَاتهَا.
أَنَا أَعْلَم مِنْ شَأْن وَلَدِي يَا سَيِّدَتِي مَا لَا تُعَلِّمِينَ وَأَعْلَم أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَعِيش هَذِهِ اَلْعِيشَة النكداء اَلَّتِي تَظُنِّينَ وَهُوَ فَتَى فَقِير لَا يَمْلِك مِنْ اَلدُّنْيَا إِلَّا قِطْعَة صَغِيرَة مِنْ اَلْأَرْض وَرِثَهَا عَنْ أُمّه لَا تُغْنِي عَنْهُ وَلَا عَنْك شَيْئًا وَمَا أَنَا بِذِي ثَرْوَة طَائِلَة استطيع أَنْ أَحْفَظ لَهُ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا هَذَا اَلْعَيْش اَلسَّعِيد اَلرَّغْد اَلَّذِي يَعِيشهُ اَلْيَوْم فِي بَارِيس فَلَمْ يَبْقَ بَيْن يَدَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعِيش بِمَالِك وَهُوَ مَا لَا أَرْضَاهُ لَهُ وَلَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَاسْمَحِي لِي يَا سَيِّدَتِي أَنْ أَقُول لَك إِنَّ جَمِيع مَصَائِب اَلدُّنْيَا وأرزائها أَهْوَن عَلَيَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُول اَلنَّاس إِنَّ خَلِيلَة أَرْمَان دوفال قَدْ بَاعَتْ جَوَاهِرهَا وَحَلَّاهَا اَلَّتِي أَهْدَاهَا إِلَيْهَا عُشَّاقهَا اَلْمَاضُونَ لِتُنْفِق ثَمَنهَا عَلَيْهِ سَامِحِينِي يَا بُنِّيَّتِي واغتفري لِي حِدَّتِي وَخُشُونَتِي فَإِنَّ شَدِيدًا جِدًّا عَلَى وَالِد شَيْخ مَثَلِي أَنْ يَرَى وَلَده اَلَّذِي وَضَعَ فِيهِ كُلّ آمَال بَيْته يَهْوَى أَمَام عَيْنَيْهِ فِي هَذِهِ اَلْهُوَّة اَلسَّحِيقَة اَلَّتِي لَا قَرَار لَهَا دُون أَنْ يَطِير قَلْبه خَوْفًا وَهَلَعًا.
أَنَّهُ مُنْذُ عَرَفَك نَسِيَنِي وَنَسِيَ أُخْته فَلَا يُذَكِّرنِي وَلَا يُذَكِّرهَا وَقَدْ مَرِضَتْ مُنْذُ شُهُور مرِضَا مُشَرِّفًا فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِي لِيَعُودَنِي فَلَمْ يَفْعَل وَلَمْ يُرِدْ عَلَى كِتَابِي أَيّ أَنَّنِي كُنْت عَلَى وَشْك أَنْ أَمُوت وَلَا أَرَاهُ وَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ لَذَهَبَتْ إِلَى قَبْرِي بِحَسْرَة لَمْ يَحْمِل مَثَلهَا فِي صَدْره رَاحِل عَنْ اَلدُّنْيَا مِنْ قَبْلِي.
أَنْتِ صَادِقَة يَا سَيِّدَتِي في قَوْلك إِنَّهُ لَمْ يُنْفِق عَلَيْك جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ اَلْمَال لِأَنَّنِي عَلِمْت بِالْأَمْسِ أَنَّهُ قَامَرَ مُنْذُ عَهْد قَرِيب وَخَسِرَ فِي مُقَامَرَته كَثِيرًا كَمَا عَلِمَتْ أَنَّك لَا تُعَلِّمِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَا يُؤَمِّننِي إِنْ أَنَا تَرَكَتْهُ فِي هَذَا اَلْبَلَد أَلَّا يَسْتَمِرّ فِي هَذِهِ اَلْغَوَايَة اَلْجَدِيدَة اَلَّتِي خَطَا اَلْخَطَوَات اَلْأُولَى فِي طَرِيقهَا وَلَا يَخْسَر فِي بَعْض مَوَاقِفه خَسَارَة عُظْمَى لَا أَجُدْ لِي بَدَا مِنْ أَنَّ آخِذ بِيَدِهِ فِيهَا فَأُقَدَّم إِلَيْهِ ذُخْر شَيْخُوخَتِي وَمَهْر اِبْنَتِي فَنَهْلَك نَحْنُ اَلثَّلَاثَة فِي يَوْم وَاحِد.
مِنْ أَيْنَ لَك يَا بُنِّيَّتِي أَنَّهُ إِنْ طَالَ عَهْده بِك لَا يَمْلِك وَلَا تَمْتَدّ عَيْنه إِلَى اِمْرَأَة سِوَاك فَتَكُون فَجِيعَتك فِيهِ غَدًا شَرًّا مِنْ فَجِيعَتك فِيهِ اَلْيَوْم؟
وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّك لَا تَضِيقِينَ ذَرْعًا يَوْمًا مِنْ اَلْأَيَّام بِعِيشَة اَلْوَحْشَة وَالْوَحْدَة فَتَحِنِّينَ إِلَى حَيَاتك اَلْأُولَى حَيَاة اَلْأُنْس وَالِاجْتِمَاع وَالضَّوْضَاء واللجب وَهُوَ فَتِيّ غَيُور مستطار فَرُبَّمَا أَنِفَتْ نَفْسه أَنْ يُزَاحِمهُ فِيك مُزَاحِم وَرُبَّمَا اِمْتَدَّتْ يَده بَشَر إِلَى ذَلِكَ اَلَّذِي يُزَاحِمهُ فَتَنَازَلَا فَأَصَابَتْهُ مِنْ يَد مَنَازِله ضَرْبَة تَقْضِي عَلَى حَيَاته وَتُفْجِعنِي فِيهِ؟
♕ يتبع


 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
كَيْفَ يَكُون مَوْقِفك يَا سَيِّدَتِي غَدًا إِنْ نَفَذَ فِيهِ هَذَا اَلسَّهْم مِنْ اَلْقَضَاء أَمَام هَذَا اَلْأَب الثاكل اَلْمِسْكِين إِذَا جَاءَك يَسْأَلك عَنْ دَم وَلَده؟
وَكَيْفَ تَكُون آلَام نَفْسك ولواعجها أَمَام مَشْهَد بُكَائِهِ وَتُفْجِعهُ؟
ثُمَّ أَرْتَعِش اِرْتِعَاشًا شَدِيدًا وَظَلَّ نَظَره حَائِرًا مُضْطَرِبًا كَأَنَّمَا يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى أَمَام عَيْنَيْهِ ذَلِكَ اَلْمَنْظَر اَلَّذِي يَتَحَدَّث عَنْهُ ثُمَّ سَكَنَ قَلِيلًا وَنَظَر إِلَى نَظْرَة هَادِئَة مَمْلُوءَة عَطْفًا وَحَنَانًا وَأَنْشَأَ يَقُول:

مَرْغِرِيت
أَنْتَ أَعْظَم فِي عَيْنِي مِمَّا كُنْت أَظُنّ وَأَكْرَم نَفْسًا مِنْ أُولَئِكَ اَلنِّسَاء اَللَّوَاتِي يَزْعُمْنَ أَنَّك وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَقَدْ وَجَدْت فِيك مِنْ فَضَائِل اَلنَّفْس وَمَزَايَاهَا مَا لَمْ أَجِدهُ إِلَّا قَلِيلًا فِي أَفْذَاذ اَلرِّجَال وَأَقَلّ مِنْ اَلْقَلِيل فِي فُضْلَيَات اَلنِّسَاء وَلَوْ قِسْم اَلشَّرَف بَيْن اَلنَّاس عَلَى مِقْدَار فَضَائِلهمْ وَصِفَاتهمْ لَكَانَ نَصِيبك مِنْهُ أَوْفَر اَلْأَنْصِبَة وَأَوْفَاهَا.
لَا أَنْسَى لَك يَا مَرْغِرِيت مَا دُمْت حَيًّا كِتْمَانك أَمْر اَلْكُتَّاب اَلَّذِي أَرْسَلَتْهُ إِلَيْك وَاحْتِفَاظك بِسِرِّهِ فِي سَاعَة تَتَفَرَّج فِيهَا اَلصُّدُور عَنْ مَكْنُونَاتهَا وَلَا سُكُوتك وإعضاءك وَأَنْتَ فِي مَنْزِلك وَمَوْضِع أَمْرك وَنَهْيك أَمَام حِدَّتِي وَخُشُونَتِي وَجُنُون غَضَبِي وَلَا بِذَلِكَ مَا بِذَلِكَ مِنْ ذَات نَفْسك وَذَات يَدك لِوَلَدِي مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم وَفَاء لَهُ إِبْقَاء عَلَى عِزَّة نَفْسه وَكَرَامَتهَا.
لَقَدْ كَانَتْ ضَحِيَّتك اَلَّتِي قَدَّمَتْهَا لِوَلَدِك بِالْأَمْسِ عَظِيمَة جِدًّا وَالْيَوْم جِئْتُك أَطْلُب إِلَيْك أَنْ تُقَدِّمِي ضَحِيَّة أَعْظَم مِنْهَا لِابْنَتِي وَلَا مُعْتَمِد لِي أَعْتَمِد عَلَيْهِ فِي تَلْبِيَة رَجَائِي عِنْدك إِلَّا شَرَف نَفْسك وَفَضِيلَتهَا.
لَقَدْ تَرَكَتْ سوسان وَرَائِي تَتَقَلَّب عَلَى فِرَاش اَلْمَرَض وَتُكَابِد مِنْهُ فَوْق مَا يَحْتَمِل جِسْمهَا اَلنَّاس اَلْعَضّ لِأَنَّ خَطِيبهَا اَلَّذِي تُحِبّهُ حُبًّا جَمًّا قَدْ هَجَرَهَا مُنْذُ شَهْرَيْنِ فَلَا يَزُورهَا وَلَا تَرَاهُ وَقَدْ كُنْت أَجْهَل قَبْل اَلْيَوْم سَبَب مَرَضهَا إِلَّا اَلظَّنّ وَالتَّقْدِير حَتَّى سَهِرَتْ بِجَانِب أَجْهَل قَبْل اَلْيَوْم سَبَب مَرَضهَا إِلَّا اَلظَّنّ وَالتَّقْدِير حَتَّى سَهِرَتْ بِجَانِب فِرَاشهَا لَيْلَة كَانَتْ اَلْحُمَّى فِيهَا قَدْ نَالَتْ مِنْهَا مَنَالًا عَظِيمًا وَوَصَلَتْ بِهَا إِلَى دَرَجَة اَلْخَيْل وَالْهَذَيَان فَسَمِعْتهَا تَهْتِف بِاسْم خَطِيبهَا مَرَّات كَثِيرَة وَتَبْكِي كُلَّمَا جَرَى ذِكْره عَلَى لِسَانهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَة مستفيقة فَعَلِمَتْ مَوْضِع دَائِهَا وَذَهَبَتْ فِي اَلْيَوْم اَلثَّانِي إِلَى وَالِد ذَلِكَ اَلْخَطِيب أَسْأَلهُ عَمَّا وَلَدَهُ مِنْ أَمْر اِبْنَتِي وَقِطَعه عَنْ زِيَارَتهَا فَذِكْر لِي سَبَبًا غَرِيبًا لَك فِيهِ يَا سَيِّدَتَيْ بَعْض اَلشَّأْن فَانٍ أَذِنَتْ لِي حَدَّثَتْك حَدِيثه.
فَخَفْق قَلْبِيّ خَفَقَانًا شَدِيدًا وَأَحْسَسْت بِالشَّرِّ يَدْنُو مِنِّي رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَّا أَنَّنِي تَمَاسَكْت وَقُلْت لَهُ:
نَعَمْ آذَن لَك يَا سَيِّدِي.
قَالَ: لَقَدْ أَجَابَنِي اَلرَّجُل عَلَى سُؤَالَيْ بُقُوله إِنَّ أُسْرَتَيْ أُسْرَة شَرِيفَة لَا تُصَاهِر إِلَّا أُسْرَة شَرِيفَة مِثْلهَا مِنْ جَمِيع وُجُوههَا وَقَدْ عَرَفَتْ أُسْلُوب اَلْمَعِيشَة اَلسَّافِلَة اَلَّتِي يَعِيشهَا وَلَدك فِي بَارِيس إِنَّهُ يُعَاشِر مُنْذُ عَهْد طَوِيل اِمْرَأَة مُومِسًا مَعْرُوفَة هُنَاكَ مُعَاشَرَة تُهْتَك وَتُبْذَل يَشْهَدهَا اَلنَّاس جَمِيعًا وَلَا أَسْمَح لِنَفْسِي إِنَّ يَكُون مِثْل وَلَدك فِي تَبْذُلهُ وَاسْتِهْتَاره وَصِغَر نَفْسه وفسولتها صِهْرًا لِوَلَدِي وَلَا عَارًا عَلَى اِبْنَتِي فَاسْتَقْبَلَتْ خُشُونَته وَجَفَاءَهُ بِصَبْر وَاحْتِمَال لِأَنَّ اَلْخَوْف عَلَى اِبْنَتِي شَغَلَنِي عَنْ اَلْغَضَب لِنَفْسِي وَقُلْت:
لَهُ أواثق أَنْتَ مِمَّا تَقُول؟!
فَأَدْلَى لِي بِمَا أَقْنَعَنِي فَلَمْ أَرَ بُدًّا مِنْ أَنَّ أَسْلَم لَهُ بِصَوَاب مَا فُعِلَ وَسَأَلَتْهُ أَنْ لَا يَبُتّ فِي أَمْر اَلْخُطْبَة شَيْئًا حَتَّى أُسَافِر إِلَى بَارِيس وَأَعُود مِنْهَا.
ذَلِكَ مَا حَمَلَنِي عَلَى اَلْمَجِيء إِلَى بَارِيس وَهَذِهِ هِيَ قِصَّتِي اَلَّتِي جِئْت أَعْرَضهَا عَلَيْك وَأَنْتَظِر حُكْمك فِيهَا وَقَدْ كَتَمَتْهَا عَنْ اَلنَّاس جَمِيعًا حَتَّى عَنَّ وَلَدِي أَرْمَان فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ؟

وَهُنَا أَطْرُق بِرَأْسِهِ طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَهَا فَإِذَا عَبْرَة تَتَرَقْرَق فِي عَيْنَيْهِ وَإِذَا هُوَ يُحَاوِل اَلْكَلَام فَلَا يَسْتَطِيعهُ فَرَحْمَته مِمَّا بِهِ وَأَعْظَمَتْ مُصَابه حَتَّى نَسِيَتْ مُصَابِي بِجَانِبِهِ وَسَادَ اَلسُّكُون بَيْننَا سَاعَة لَا يقول لِي شَيْئًا وَلَا أَدْرِي مَاذَا أَقُول لَهُ حَتَّى هَدَأَ ثَائِره قَلِيلًا فَمَدَّ يَده إِلَى يَدِي فَأَخَذَهَا بَيْن ذِرَاعَيْهِ وَعَاد إِلَى حَدِيثه يَقُول:
مَرْغِرِيت إِنَّ حَيَاة اِبْنَتِي بَيْن يَدَيْك فَامْنَحِينِي إِيَّاهَا تَتَّخِذِي عِنْدِي يَدًا لَا أَنْسَاهَا لَك حَتَّى اَلْمَوْت.
إِنَّنِي لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَرَاهَا تَمُوت بَيْن يَدِي وَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ لَمَّتْ عَلَى أَثَرهَا حُزْنًا وَكَمَدًا وَضِمْنًا فِي يَوْم وَاحِد قَبْر وَاحِد لَقَدْ رَأَيْت مَصْرَع أُمّهَا مُنْذُ خَمْس سِنِينَ وَلَا يَزَال أَثَره بَاقِيًا فِي نَفْسِي حَتَّى اَلْيَوْم وَلَا أَسْتَطِيع أَنْ أَرَى هَذَا اَلْمَشْهَد مَرَّة أُخْرَى فِي اِبْنَتهَا وَصُورَتهَا اَلْبَاقِيَة عِنْد مَنْ بَعْدهَا.
إِنَّنِي أُحِبّهَا حُبًّا جَمًّا وَلَا أَسْتَطِيع أَنْ أَرَاهَا فِي سَاعَة مِنْ سَاعَاتهَا حَزِينَة أَوْ مُكْتَئِبَة فَكَيْفَ أَنْ أَرَاهَا تُعَالِج سَكَرَات اَلْمَوْت؟!
إِنَّك لَا تُعَرِّفِينَهَا يَا مَرْغِرِيت وَأَعْتَقِد أَنَّك لَوْ رَأَيْتهَا لأحببتها كَمَا أَحَبَّهَا وَلِرَحْمَتِهَا كَمَا أَرْحَمهَا وَلِفِدْيَتِهَا بِمَا تَسْتَطِيعِينَ رَأْفَة

♕ يتبع
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي

إِنَّهَا جَمِيلَة جِدًّا وَبَيْضَاء مِثْل اَلْكَوْكَب وَطَاهِرَة طَهَارَة اَلْمَلِك وغريرة غرارة اَلطِّفْل فَاسْمَحِي لِهَذِهِ اَلْحَيَاة اَلْغَضَّة اَلزَّاهِرَة بِالْبَقَاءِ وَالسَّعَادَة فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقّ اَلشَّقَاء.
إِنَّهَا اَلْيَوْم تَعِيش بِالْأَمَلِ اَلَّذِي أَوْدَعَتْهُ قَلْبهَا يَوْم سَفَرِي فَإِنْ عُدْت إِلَيْهَا بِالْخَيْبَةِ عُدْت إِلَيْهَا بِالْيَأْسِ اَلْقَاتِل وَالْقَضَاء اَلنَّازِل.
إِنَّك تُحِبِّينَ أَرْمَان يَا مَرْغِرِيت وَقَدْ أَصْبَحَتْ أَعْتَقِد أَنَّك مُخْلِصَة فِي حُبّه إِخْلَاصًا عَظِيمًا فَاصْنَعِي مَا يَصْنَع اَلْمُحِبُّونَ اَلْمُخْلِصُونَ وَضَحِّي حُبّك مِنْ أَجْله وَمِنْ أَجْل مُسْتَقْبَله فَإِلَّا تَفْعَلِي ذَلِكَ مِنْ أَجْله فَافْعَلِيهِ مِنْ أَجْلِي.
لَقَدْ قُلْت لِي إِنَّهُ اَلرَّجُل اَلْوَحِيد اَلَّذِي أَحَبَّك لِنَفْسِك أَكْثَر مِمَّا أَحَبَّك لِنَفْسِهِ فَبَادِلِيهِ هَذَا اَلْحُبّ بَلْ كَوْنِي خَيْرًا مِنْهُ فِيهِ وَلْيَكُنْ عَزَاؤُك عَمَلَا تَلَاقِيهِ بَعْد فِرَاقه مِنْ حُزْن وَأَلَم أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ سَعِيدًا مَنْ بَعْدك وَأَنَّك قَدْ أَنْقَذْت مِنْ يَد اَلْمَوْت فَتَاة مِسْكِينَة وَمِنْ يَد اَلشَّقَاء شَيْخَا حزينا، وَهُنَا أَخْتَنِق صَوْته بِالْبُكَاءِ فَهَبَطَ عَلَى كُرْسِيّه بَيْن يَدِي وَقَالَ بِنَغْمَة اَلْمُشْرِف اَلْمُحْتَضِر:
اِرْحَمِينِي يَا مَرْغِرِيت واشفقي عَلَى ضِعْفِي وَشَيْخُوخَتِي وَتَصَدَّقِي عَلَيَّ بِمُسْتَقْبَل وَلَدِي وَحَيَاة اِبْنَتِي.
ثُمَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُول بَعْد ذَلِكَ شَيْئًا فَأَلْقَى رَأْسه عَلَى كُرْسِيّه اَلَّذِي كَانَ جَالِسَا عَلَيْهِ وَانْفَجَرَ بَاكِيًا.
آه لَوْ رَأَيْتنِي يَا أَرْمَان فِي مَوْقِفِي هَذَا وَرَأَيْت لَوْعَتِي ودُمُوعِي اَلْمُنْهَمِرَة فِي خَدِّي انهمار الديمة الوطفاء رَحْمَة بِأَبِيك وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ.
لَقَدْ كَانَ يَتَكَلَّم فَتَسِيل مَدَامِعِي مَعَ حُرُوفه وَكَلِمَاته كَأَنَّمَا هُوَ يَنْشُد مريثة مُحْزِنَة أَنَا اَلْمُبْكِيَة عَلَيْهَا فِيهَا؟
إِنَّ اَلْعَظِيم عَظِيم فِي كُلّ شَيْء حَتَّى فِي أَحْزَانه وَآلَامه فَلَقَدْ كَانَ يُخَيَّل إِلَى وَأَبُوك يُبْكِي بَيْن يَدِي وَيَنْتَحِب أَنَّ كُلّ دَمْعَة مِنْ دُمُوعه تستنزل غَضَب اَللَّه عَلَى اَلْأَرْض وَكُلّ زَفْرَة مِنْ زَفَرَاته تَلْتَهِب بِهَا آفَاق اَلسَّمَاء.
لَقَدْ أَكْبَرَتْ فِي نَفْسِي جَدًّا أَنْ يَجْثُو مِثْل هَذَا اَلشَّيْخ اَلشَّرِيف اَلطَّاهِر بَيْن يَدَيْ فَتَاة سَاقِطَة مَثِّلِي بِالْإِغْوَاءِ مِنْ ذَلِكَ حَيَاء تَمَنَّيْت مَعَهُ أَنْ لَوْ اِنْشَقَّتْ اَلْأَرْض تَحْت قَدَمِي فَسَخَتْ فِيهَا أَبَد اَلدَّهْر.
وَبَيْنَمَا هُوَ مُطْرِق صَامِت أَخَذَتْ أُفَكِّر فِيهِ وَفِي مُصَابه وَفِي قِصَّته اَلَّتِي قَصَّهَا عَلَيَّ وَفِي اَلشَّأْن اَلَّذِي لِي فِيهَا فَعَلِمَتْ أَنِّي قَدْ أَصْبَحَتْ شُؤْمًا عَلَى هَذِهِ اَلْأُسْرَة اَلسَّعِيدَة جَمِيعهَا أَبِيهَا وَابْنهَا وَابْنَتهَا فَثَقُلَتْ نَفْسِيّ عَلَيَّ وَسَمِج مَنْظَرهَا فِي عَيْنِي حَتَّى خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَة بَيْن يَدِي لَرُمِيَتْ بِهَا مِنْ حَالِق إِلَى حَيْثُ لَا يَجْمَعنِي وَإِيَّاهَا مَكَان بَعْد اَلْيَوْم ثُمَّ قُلْت فِي نَفْسِي إِنَّ حَيَاتِي اَلْمَاضِيَة اَلَّتِي قَضَيْتهَا فِي اَلشُّرُور وَالْآثَام قَدْ قَطَعَتْ عَلَى طَرِيق اَلشَّرَف فَلَا حَقّ لِي فِي أَنَّ أَطْمَع فِي حَيَاة اَلشُّرَفَاء وَلَا أَنْ أُنَازِعهُمْ سَعَادَتهمْ وَهَنَاءَهُمْ وَإِنَّ اَلْإِثْم اَلَّذِي اِقْتَرَفَتْهُ فِي مَاضِي أيامي بِالْإِغْوَاءِ وَحْدِي فَلَا بُدّ لِي أَنْ أَسْتَقِلّ بِعِبْئِهِ دُون أَنْ أُلْقِيه عَلَى عَاتِق أَحَد غَيْرِي فَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيَّ أَنْ أَمُوت مَوْت اَلنِّسَاء اَلسَّاقِطَات فَذَلِكَ لِأَنَّنِي اِمْرَأَة سَاقِطَة أَوْ أُلَاقِي فِي مُسْتَقْبَل حَيَاتِي شَقَاء وَآلَامًا فَذَلِكَ لِأَنَّ اَلْمُسْتَقْبَل نَتِيجَة اَلْمَاضِي وَثَمَرَته اَلطَّبِيعِيَّة.
هُنَا ذَكَّرَتْك يَا أَرْمَان وَذَكَّرَتْ فِرَاقك وَكَيْفَ أَسْتَطِيعهُ وَذَكَّرْت أَنَا اَلَّتِي سَأَتَوَلَّى قَتْل نَفْسِيّ بِيَدِي لِأَنَّ اَلطَّرِيق اَلَّتِي لَا طَرِيق غَيْرهَا إِلَى بُلُوغ رِضَا أَبِيك وَمُوَافَاة رَغْبَته أَنْ أُقَاطِعك وأغاضبك وَاظْهَرْ أَمَامك بِمَظْهَر اَلْخَائِنَة اَلْغَادِرَة وَرُبَّمَا اِضْطَرَرْت إِلَى اَلِاتِّصَال بِغَيْرِك عَلَى مَرْأَى مِنْك وَمَسْمَع حَتَّى تَنْصَرِف عَنِّي اِنْصِرَاف يَائِس مَغْلُوب عَلَى أَمْره مِنْ حَيْثُ لَا يَكُون لِأَبِيك مُدْخَل فِي ذَلِكَ فَأَكُون قَدْ جَمَعَتْ عَلَى نَفْسِي بَيْن فِرَاقك وَغَضَبك فِي آن وَاحِد وَذُكِّرَتْ أَنْ لَا بُدّ لِي متي فَارَقَتْك أَنْ أَعُود إِلَى حَيَاتِي اَلْأُولَى اَلَّتِي أُبْغِضهَا وَأَمْقُتهَا لِأَنَّ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْسَى ذَنْبِي اَلَّذِي أذنبته إِلَيْهِ حَتَّى اَلْيَوْم وَلِأَنِّي فِي حَاجَة إِلَى بسطة مِنْ اَلْعَيْش أَسْتَعِين بِهَا عَلَى مُعَالَجَة مَرَضِي وَوَفَاء دِينِيّ فَدَارَتْ هَذِهِ اَلْخَوَاطِر فِي رَأْسَيْ سَاعَة وَطَالَتْ دَوْرَتهَا حَتَّى كَادَتْ تَغْلِبنِي عَلَى أَمْرِي ثُمَّ وَقَعَ نَظَرِي عَلَى وَجْه أَبِيك المخضل بِدُمُوعِهِ فَتَجَلَّدَتْ وَجَمَعَتْ أَمْرِي وَمَضَيْت قُدُمًا لَا أَلْوِي عَلَى شَيْء مِمَّا وَرَائِي.
لَقَدْ كَانَ شَدِيدًا عَلَيَّ جِدًّا أَنْ أُفَارِقك يَا أَرْمَان وَلَكِنَّ كان أَشُدّ عَلَى مِنْهُ أَنْ أَرَى أَبَاك يَبْكِي بَيْن يَدِي وَأَنْ أَكُون سَبَبًا فِي مَوْت أُخْتك أَوْ شَقَائِهَا.
إِنَّنِي أُحِبّ يَا أَرْمان وَأَعْرِف آلَام اَلْحُبّ وَلَوْعَته فِي اَلنُّفُوس وَلَقَدْ كَانَ يُخَيَّل إِلَيَّ وَأَبُوك يُحَدِّثنِي عَنْ أُخْتك وَشَقَائِهَا أَنَّنِي أَرَاهَا مِنْ خِلَال دُمُوعِي طَرِيحَة فِرَاشهَا وَهِيَ تَمُدّ يَدهَا إِلَى ضارعة مُتَوَسِّلَة وَتَقُول بِالْإِغْوَاءِ يَا سَيِّدَتِي وَارْحَمِي ضِعْفِي وَشَبَابِي فَأَجِدّ لِكَلِمَاتِهَا مِنْ اَلْأَثَر فِي نَفْسِي مَا لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَشْعُر بِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ شَأْن مِثْل شَأْنِي.
إِنَّنِي حَرَمْت فِي مَبْدَإِ حَيَاتِي سَعَادَة اَلزَّوْجِيَّة وَهَنَاءَهَا وَلَقِيَتْ بِسَبَب ذَلِكَ مِنْ اَلشَّقَاء مَا لَا أَزَال أُبْكِيه حَتَّى اَلْيَوْم فَلَا يُهَيِّج حُزْنِي وَلَا يَسْتَثِير كَامِن لَوْعَتِي مِثْل أَنْ أَرَى بَيْن اَلنَّاس فَتَاة مَحْرُومَة اَلسَّعَادَة مِثْلِي.
إِنَّنِي أُحِبّ وَهِيَ تُحِبّ وَلَا بُدّ لِوَاحِدَة مِنَّا أَنْ تَمُوت فِدَاء عَنْ اَلْأُخْرَى فَلْأَمُتْ أَنَا فِدَاء عَنْهَا لِأَنَّهَا أُخْتك وَلِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِف فِي حَيَاتهَا ذَنْبًا تَسْتَحِقّ بِسَبَبِهِ اَلشَّقَاء.
وَكُنْت كُلَّمَا ذَكَرْت أَنَّهَا سَتُصْبِحُ سَعِيدَة هَانِئَة مِنْ بَعْدِي وَتَرَاءَى لِي شَبَحهَا وَهِيَ لَابِسَة ثَوْب عُرْسهَا اَلْأَبْيَض اَلْجَمِيل وَسَائِرَة إِلَى اَلْكَنِيسَة بِجَانِب خَطِيبهَا طَارَ قَلْبِي فَرَحًا وَسُرُورًا وَهَانَ عَلَيَّ كُلّ شَيْء فِي سَبِيل غِبْطَتهَا وَهَنَائِهَا.
نَعَمْ إِنَّ اَلضَّرْبَة اَلَّتِي سَأَسْتَقْبِلُهَا شَدِيدَة جِدًّا وَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا قَلْبِي وَلَكِنِّي سَأَحْتَمِلُهَا بِصَبْر وَسُكُون لِأَنَّ أَبَاك سَيُصْبِحُ رَاضِيًا عَنِّي وَلِأَنَّك سَتَعْلَمُ فِي مُسْتَقْبَل اَلْأَيَّام سِرّ تَضْحِيَتِي فَتُحِبّنِي فَوْق مَا أَحْبَبْتنِي وَلِأَنَّ أُخْتك سَتُصْبِحُ سَعِيدَة مُغْتَبِطَة بِعَيْشِهَا وَحُبّهَا وَسَيَكُونُ أَسِمي بَيْن اَلْأَسْمَاء اَلَّتِي تَدْعُو لَهَا اَللَّه فِي صَلَوَاتهَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَان.
جَاءَتْ اَلسَّاعَة اَلَّتِي أَقُول فِيهَا لِأَبِيك كَلِمَتِي اَلْأَخِيرَة لَقَدْ كَانَتْ شَدِيدَة هَائِلَة أَسْأَل اَللَّه أَنْ يُغفِّر لِي بِمَا لَقِيَتْ فِيهَا مِنْ اَلْآلَام مَاضِي ذُنُوبِي وَآتِيهَا كَمَا أَسْأَلهُ أَلَّا يُذِيق مَرَارَتهَا قَلْب اِمْرَأَة عَلَى وَجْه اَلْأَرْض مِنْ بَعْدِي.



♕ يتبع
 
Comment

امل مفقود

نجوم المنتدي
إنضم
5 مايو 2021
المشاركات
12,572
مستوى التفاعل
4,284
مجموع اﻻوسمة
2
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
ابدعت بالاختيار
تسلم الايادي ويعطيك العافية
كل الشكر لك
وبنتظارجديدك
تقديري
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
ابدعت بالاختيار
تسلم الايادي ويعطيك العافية
كل الشكر لك
وبنتظارجديدك
تقديري
و يعطيك يا رب
سرني تواجدك
🌹🌹🌹🌹
ودي و احترامي
حفظك الله ♥
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي

قُمْت مِنْ مَكَانِي كَأَنَّنِي أَنْتَزِع نَفْسِي مِنْ اَلْأَرْض اِنْتِزَاعًا وَمَشَيْت إِلَى أَبِيك كَمَا يَمْشِي الحائن إِلَى مَصْرَعه حَتَّى جَثَوْت بَيْن يَدَيْهِ وَأَخَذْت بِيَدِهِ فاستفاق مَنْ غَشِيَتْهُ وَنَظَرَ إِلَيَّ ذاهلا مَشْدُوهًا فَقُلْت لَهُ:
أَعْتَقِد يَا سَيِّدِي أَنَّنِي أَحَبّ وَلَدك؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَلَتْ: حُبًّا هُوَ مُنْتَهَى مَا تَسْتَطِيع اِمْرَأَة أَنْ تَحْتَمِل.
قَالَ: نِعَم
قَلَّتْ: وَأَنَّ هَذَا اَلْحُبّ هُوَ كُلّ آمَالِي وَسَعَادَتِي وَمَا أَمَّلَك فِي اَلْحَيَاة.
قَالَ: نَعَمْ يَا بُنِّيَّتِي.
قُلْت: قَدْ ضَحِيَّته مِنْ أَجْل اِبْنَتك فَعَدَّ إِلَيْهَا وَبَشَّرَهَا بِسَعَادَة اَلْمُسْتَقْبَل وَهَنَائِهِ.
وَقُلْ لَهَا إِنَّ اِمْرَأَة لَا تَعْرِفك وَلَمْ تَتْرُك فِي يَوْم مِنْ أَيَّام حَيَاتهَا وَلَكِنَّهَا تُحِبّك وَتُشْفِق عَلَيْك تَمُوت اَلْآن مِنْ أَجْلك فَاسْأَلِي اَللَّه لَهَا اَلرَّحْمَة وَالْغُفْرَان.
فَتَهَلَّلَ وَجْهه بِشْرًا وَسُرُورًا وَلَمْ يَدْعُ كَلِمَة مِنْ كَلِمَات اَلشُّكْر وَالثَّنَاء إِلَّا أُفْضِي بِهَا إِلَيَّ فَأَنْسَانِي سُرُوره وَاغْتِبَاطه أُلِمّ اَلضَّرْبَة اَلَّتِي أَصَابَتْ كَبِدِي وَاسْتَحَالَ حُزْنِي بِالْإِغْوَاءِ إِلَى رَاحَة وَسُكُون فَحَمِدَتْ اَللَّه عَلَى أَنَّ لَمْ يَرَ فِي وَجْهِي فِي تِلْكَ اَلسَّاعَة مَا يُنَغِّص عَلَيْهِ سُرُوره وَاغْتِبَاطه.
وَهُنَا شَعَرَتْ بِحَرَكَة عِنْد بَاب اَلْغُرْفَة فَالْتَفَتَ فَإِذَا برودنس تُشِير إِلَى بِيَدِهَا فَذَهَبَتْ إِلَيْهَا فَأَعْطَتْنِي كِتَابًا جَاءَ بِهِ اَلْبَرِيد فَقَرَأَتْ عُنْوَانه فَإِذَا هُوَ بِخَطّ المركيز جَانّ فِيلِيب فَعَلِمَتْ مَا يَتَضَمَّنهُ قَبْل أَنْ أَرَاهُ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ اَللَّه قَدْ أَوْحَى إِلَى بِمَا أَفْعَل فَذَهَبَتْ مُسْرِعَة إِلَى غُرْفَة مَكْتَبِي كَأَنَّنِي أَخَاف أَنْ يَعْرِض لِي فِي طَرِيقِي مَا يُزَعْزِع عَزِيمَتِي وَهُنَاكَ قَرَأَتْ اَلْكِتَاب وَكَتَبَتْ لِصَاحِبِهِ فِي بِطَاقَة صَغِيرَة هَذِهِ اَلْكَلِمَة ـ سَأَتَعَشَّى عِنْدك اَللَّيْلَة ـ ثُمَّ أَعْطَيْتهَا برودنس لِتَلَقِّيهَا فِي صُنْدُوق اَلْبَرِيد وَعُدْت إِلَى أَبِيك فَوَجَدَتْه حَيْثُ تَرَكَتْهُ فَقُلْت لَهُ:
إِنَّ أَرْمَان لَا يَعْلَم شَيْئًا مِنْ أَمْر زِيَارَتك هَذِهِ فَاكْتُمْهَا عَنْهُ حِين نَلْقَاهُ وَسَأَكْتُبُ إِلَيْهِ كُتَّاب مُقَاطِعَة لَا يَشُكّ فِي أَنِّي صَاحِبَة اَلرَّأْي فِيهِ وَأَنْ لَا يَد لَك فِيمَا كَانَ وَسَيَعْلَمُ اَلْيَوْم أَوْ غَدًا أَنَّنِي قَدْ علقت بِرَجُل غَيْره فَيَرَى أَنَّنِي قَدْ خُنْته وَغَدَرْت بِعَهْدِهِ فَلَا يَجِد لَهُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُسَافِر مَعَك قَاطِعًا رَجَاءَهُ مِنِّي وَرُبَّمَا تَأَلَّمَ لِهَذِهِ اَلصَّدْمَة بِضْعَة أَيَّام أَوْ بِضْعَة أَسَابِيع فَلَا تَحْفُل بِذَلِكَ بِالْإِغْوَاءِ حُبِّي فِي قَلْبه كَمَا يَبْلَى كُلّ حُبّ فِي كُلّ قَلْب غَيْر أَنَّ لِي عِنْدك طَلَبَة وَاحِدَة لَا أُرِيد مِنْك سِوَاهَا فَهَلْ تَسْمَح لِي بِهَا قَالَ:
نَعَمْ أَسُمِحَ لَك بِكُلّ شَيْء.
قُلْت: إِنِّي مَرِيضَة مُشَرِّفَة وَإِنَّ اَلْعِلَّة اَلَّتِي أُكَابِدهَا كَثِيرًا مَا يَتَحَدَّث اَلنَّاس عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَتْرُك صَاحِبهَا طَالَتْ أَمْ قَصَرَتْ حتى تَذْهَب بِهِ إِلَى قَبْره فَكُلّ مَا أَسْأَلك إِيَّاهُ أَنْ تَأْذَن لِأَرْمان فِي اَلْيَوْم اَلَّذِي تَعْلَم فِيهِ أَنَّنِي قَدْ أَصْبَحَتْ عَلَى حَافَّة قَبْرِي أَنْ يَأْتِينِي لِأَرَاهُ وَأُوَدِّعهُ اَلْوَدَاع اَلْأَخِير وَأَعْتَذِر له عَنْ ذَنْبِي اَلَّذِي أذنبته إِلَيْهِ حَتَّى لَا أَخْسَر حُبّه وَاحْتِرَامه حَيَّة وَمَيِّتَة فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَة دَامِعَة وَقَالَ:
وارحمتاه لَك يَا بُنِّيَّتِي أَنَّنِي أَعِدك بِمَا أَرَدْت وَأَسْأَل اَللَّه لَك اَلشِّفَاء وَالْعَزَاء.
ثُمَّ حَاوَلَ أَنْ يَعْرِض عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ اَلْمَعُونَة فَأَبَيْت ذَلِكَ إِبَاء شَدِيدًا وَقُلْت لَهُ:
إِنَّنِي لِمَ ابع نَفْسِيّ يَا سَيِّدِي بِيعَا بَلْ وَهَبَتْهَا هِبَة فَأَخَذَ رَأْسِي بَيْن يَدَيْهِ وَقُبْلَني فِي جَبِينِي قُبْلَة كَانَتْ خَيْر جَزَاء لِي عَلَى تَضْحِيَتِي اَلَّتِي ضَحَّيْت بِهَا وَوَدَّعَنِي وَمَضَى.
فَمَا أَبْعَد إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى قُمْت إِلَى خِزَانَتِي فَجَمَعَتْ ثِيَابِي وَمَا بَقِيَ لِي مِنْ حَلَّايَ وَوَضَعَتْهَا فِي حَقِيبَتِي وَسَافَرَتْ مَعَ برودنس إِلَى بَارِيس وَذَهَبَتْ إِلَى مَنْزِلِي هُنَاكَ فَكَتَبَتْ إِلَيْك فِيهِ ذَلِكَ اَلْكُتَّاب اَلَّذِي تَعْلَمهُ وَاَللَّه يَعْلَم كَمْ سَكَبَتْ مِنْ اَلدُّمُوع وَكَمْ وَقَفَ قَلْبِي بَيْن كُلّ كَلِمَة وَمَا يَلِيهَا أَثْنَاء كِتَابَته حَتَّى أَتَمَّتْهُ فَأَعْطَيْته حَارِس الْمَنْزِل وَأَوْصَيْته أَنْ يُسَلِّمهُ إِلَيْك عِنْد مَجِيئك ثُمَّ ذَهَبَتْ لِلْوَفَاءِ بَعْهد المركيز.
أَمَّا حَيَاتِي مَعَ ذَلِكَ اَلرَّجُل فَلَا استطيع أَنْ أَقُصّ عَلَيْك مِنْهَا شَيْئًا عَلَيْك مِنْهَا سِوَى أَنْ أَقُول لَك:
إِنَّهُ لَمْ يَرَ فِي اَلْمَرْأَة اَلَّتِي كَانَ يَتَخَيَّلهَا وَيُمَنِّي نَفْسه بِهَا وَلَمْ أَرَ فِيهِ اَلرَّجُل اَلَّذِي يُؤْنِسنِي وَيُخَلِّط نَفْسه بِنَفْسِي فَافْتَرَقْنَا فَأَصْبَحَتْ لَا أَعْرِف لِي فِي اَلْعَالَم صَدِيقًا صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا.
هَذِهِ قِصَّتِي يَا أَرْمَان كَمَا هِيَ وَهَذَا ذَنْبِي اَلَّذِي أذنبته إِلَيْك فَهَلْ تَرَى بَعْد ذَلِكَ أَنِّي خَائِنَة أَوْ خَادِعَة؟
قَلِّبِي يُحَدِّثنِي أَنَّنِي سَأَمُوتُ قَبْل أَنْ أَرَاك وَأُمْلِي يُخَيَّل إِلَى أَنَّ مَا فِي نَفْسك مِنْ اَلْمُوجِدَة عَلَيَّ يَسْتَمِرّ إِلَى مَا بَعْد اَلْمَوْت وَأَنَّك سَتَعُودُ إِلَى بَارِيس فِي اَلسَّاعَة اَلَّتِي يَنْعَانِي لَك فِيهَا اَلنَّاعِي لِتَزُورَ قَبْر تِلْكَ المزاة اَلْمِسْكِينَة اَلَّتِي تَوَلَّتْ سَعَادَة قَلْبك وهناءه حِقْبَة مِنْ أَيَّام حَيَاتك ثُمَّ خرجت مِنْ اَلدُّنْيَا فَارِغَة اَلْيَد مِنْ كُلّ شَيْء حَتَّى مِنْ حُبّك وَعَطْفك وَرُبَّمَا بَلَغَ بِك اَلِاهْتِمَام بِشَأْنِهَا أَنْ تُحَاوِل مَعْرِفَة مَا تَمَّ لَهَا مِنْ بَعْدك إِلَى أَنَّ ذَهَب بِهَا اَلْمَوْت إِلَى قَبْرهَا.
فهأنذا أَكْتُب هَذِهِ اَلْمُذَكِّرَات وَاتْرُكْهَا لَك عِنْد برودنس لَعَلَّك تَقْرَأهَا فِي مُسْتَقْبَل اَلْأَيَّام فَتَنْظُر إِلَيْهَا كَمَا تَنْظُر إِلَى كِتَاب اِعْتِرَاف مُقَدَّس قَدْ أَلْبَسهُ اَلْمَوْت ثَوْب اَلطَّهَارَة وَالْبَرَاءَة فَتُصَدِّق مَا فِيهَا وَتَعْفُو عَنِّي فَيُنِير ثَوْب اَلطَّهَارَة وَالْبَرَاءَة ظُلُمَات قَبْرِي وَيُونُس وَحْشَة نَفْسِيّ.

# يتبع
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
أَيْنَ أَنْتَ يَا أَرْمَان؟
أَنْتَ بَعِيد عَنِّي جَدًّا بَعِيد بِجِسْمِك وَبِقَلْبِك لِأَنَّك لَمْ تُهْمِل كِتَابِي اَلَّذِي كَتَبْته لَك وَدَعَوْتُك فِيهِ لِزِيَارَاتِي وَسَمَاع اِعْتِرَافِي اَلْأَخِير إِلَّا لِأَنَّ مَا كَانَ فِي نَفْسك مِنْ العتب وَالْمُوجِدَة عَلَيَّ قَدْ اِسْتَحَالَ إِلَى نِسْيَان وَإِغْفَال فَأَصْبَحَتْ لَا تُذَكِّرنِي كَمَا يَذْكُر اَلْمُحِبّ حَبِيبه وَلَا تَعْطِف عَلَيَّ كَمَا يَعْطِف اَلصَّدِيق عَلَى صَدِيقه فَلْيَكُنْ مَا أَرَادَ اَللَّه وَلْتَدُمْ لَك تِلْكَ اَلسَّعَادَة اَلَّتِي يُنْعَم بِهَا بَيْن أَهْلك وَقَوْمك فَإِنِّي غَيْر واجدة عَلَيْك وَلَا نَاقِمَة مِنْك شَيْئًا وَلَا حَامِلَة لَك فِي نَفْسِي إِلَّا اَلْحُبّ وَالْإِخْلَاص وَالرِّضَا بِكُلّ مَا تَأْتِي وَمَا تَدَع لِي عِدَّة أَيَّام لَمْ أُرِ فِيهَا أَحَدًا مِنْ اَلنَّاس لِأَنَّ اَلطَّبِيب مَنَعَنِي مِنْ اَلْخُرُوج وَلِأَنَّ أَصْدِقَائِي اَلَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَنِي فِيمَا مَضَى قَدْ أَصْبَحُوا يَقْنَعُونَ مِنْ زِيَارَتِي بِإِرْسَال بِطَاقَاتِهِمْ إِلَيَّ مَعَ خَادِمَتِي ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ مُسْرِعِينَ كَأَنَّمَا يَفِرُّونَ مَنْ أَمْر يُخْفِيهِمْ وَلَقَدْ كَانُوا قَبْل اَلْيَوْم إِذَا أَرْسَلُوهَا لَبِثُوا يَنْتَظِرُونَ اَلسَّاعَات اَلطِّوَال حَتَّى آذَن لَهُمْ بِالْمُقَابَلَةِ فَإِذَا ظَفِرُوا بِهَا طَارُوا بِهَا فَرَحَا وَسُرُورًا وَإِنْ حَرَّمُوهَا عَادُوا آسِفِينَ مَحْزُونِينَ.
وَلَا أَدْرِي لِمَ لَا يَقْطَعُونَ بِطَاقَاتِهِمْ كَمَا قَطَعُوا زِيَارَاتهمْ فَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ سَيَرَوْنَنِي بَيْنهمْ فِي مُسْتَقْبَل اَلْأَيَّام صَحِيحَة اَلْجِسْم طَيِّبَة اَلنَّفْس أَصْلُح لِلْمُعَاشَرَةِ والمخادنة كَمَا كَانُوا يَعْهَدُونِي مِنْ قَبْل فَهُمْ فِي ظَنّهمْ مُخْطِئُونَ.
لَقَدْ أَحْسَنُوا فِيمَا عَلِمُوا فَإِنَّنِي أَصْبَحَتْ لَا آنَس بِأَحَد فِي اَلْعَالَم سِوَى نَفْسِي وَلَا آنَس بِنَفْسِي إِلَّا لِأَنِّي أَسْتَطِيع مَتَى خَلَوْت بِهَا أَنْ أُسَائِلهَا عَنْك فَتُذَكِّرنِي بِك وَبِتِلْكَ اَلْأَيَّام اَلسَّعِيدَة اَلَّتِي قَضَيْتهَا مَعَك فِي بوجيفال وَذِكْرَى تِلْكَ اَلْأَيَّام هِيَ اَلْعَزَاء اَلْبَاقِي لِي عَنْ جَمِيع مَا خَسِرَتْ يَدِي.
مَا كُنْت أَظُنّ يَا أَرْمَان أَنَّ جِسْم اَلْإِنْسَان يَحْتَمِل كُلّ هَذِهِ اَلْآلَام اَلَّتِي أُكَابِدهَا فَلَقَدْ تَمُرّ بِي سَاعَات أَعْتَقِد فِيهَا أَنَّ اَلْأَلَم اَلَّذِي أُكَابِدهُ إِنَّمَا هُوَ أَلَم اَلنَّزْع وَأَنَّنِي فِي اَلسَّاعَة اَلْأَخِيرَة مِنْ سَاعَات حَيَاتِي فَإِذَا استفقت قُلْت فِي نَفْسِي هَذَا أُلِمّ اَلْمَرَض وَقَدْ عَجَزَتْ عَنْهُ فَمَنْ لِي بِاحْتِمَال أَلَم اَلْمَوْت؟
عَلَى أَنَّ نَفْسِي تُحَدِّثنِي أَحْيَانًا أَنَّهُ إِنْ قَدَّرَ لِي أَنَّ أَرَاك بِجَانِبِي فِي يَوْم مِنْ أَيَّام بَرِئَتْ مِنْ مَرَضِي وَتَرَاجَعَتْ نَفْسِي وَعُدْت إِلَى رَاحَتِي وَسُكُونَيْ فَهَلْ يَقْدِر لِي اَللَّه ذَلِكَ؟
لَا أَعْلَم فَالْمُسْتَقْبَل بِيَد اَللَّه فَلْيُقَدِّرْ اَللَّه مَا يَشَاء وَلِيَفْعَل مَا يُرِيد.
لَمْ أُفَارِق سَرِيرِي مُنْذُ أَيَّام إِلَّا صَبَاح هَذَا اَلْيَوْم فَجَلَسَتْ قَلِيلًا بِجَانِب نَافِذَتِي وَأَشْرَقَتْ مِنْهَا عَلَى اَلْحَيَاة اَلْعَامَّة فَوَقْع نَظَرِيّ عَلَى كَثِير مِمَّنْ كُنْت أَعْرِفهُمْ مِنْ قَبْل سائرين فِي طَرِيقهمْ لَاهِينَ مُغْتَبِطِينَ وَلَمْ أَرَ مَنْ وَقَعَ نَظَره إِلَى نَوَافِذ غُرْفَتِي مَرَّة وَاحِدَة كَأَنَّمَا يَمُرُّونَ بِبَيْت يُعَرِّفْنَهُ وَلَا عَهْد لَهُمْ بِهِ مِنْ قَبْل.
مَا اشد وَحْشَتِي وَمَا أُضَيِّق صَدْرِي وَمَا اثقل هَذَا اَلْجِدَار اَلَّذِي يَدُور حَوْلِي لَا أُطِيق اَلنَّظَر إِلَى سَرِيرِي لِأَنَّ نَفْسِي تُحَدِّثنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ عَمَّا قَلِيل سِلْم قَبْرِي وَلَا اَلْوُقُوف أَمَام مِرْآتِي لِأَنَّهَا تُحَدِّثنِي نَفْسَيْ أَسْوَأ اَلْأَحَادِيث وأشأمها وَلَا اَلْإِشْرَاف مِنْ نَافِذَتِي لِأَنَّهَا تُذَكِّرنِي بِحَيَاتِي اَلْمَاضِيَة اَلسَّعِيدَة اَلَّتِي حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنهَا فَأَيْنَ أَذْهَب وَكَيْفَ أَعِيش؟
لَا آكُل إِلَّا طَعَامًا وَاحِدًا وَلَا أَرَى إِلَّا مَنْظَرًا مُتَكَرِّرًا وَلَا أَسْمَع إِلَّا صَوْت طَبِيبِي وَخَادِمَتِي حِينَمَا يَسْأَلهَا عَنِّي صَبَاح كُلّ يَوْم وَمَسَاءَهُ فَتُجِيبهُ بِجَوَاب وَاحِد حَتَّى مَلِلْت وَسَئِمْت وَأَصْبَحَتْ أَشْعَر أَنَّ نَفَسِي سَجِينه فِي صَدْرِي سَجْن جِسْمِي فِي غُرْفَتِي وَرُبَّمَا مَرَّتْ بِي سَاعَات يَقِف فِيهَا ذِهْنِي عَنْ اَلتَّفْكِير وَخَاطِرِي عَنْ اَلْحَرَكَة وَيَنْقَطِع مَا بَيْنِي وَبَيْن يَوْمِي وَأَمْسِي وَغَدِي.
وَكُلّ شَيْء فِي اَلْحَيَاة حَتَّى نَفْسِي.
اَلسُّعَال يَهْدِم أَرْكَان صَدْرِي هَدْمًا وَالنَّوْم لَا يُلِمّ بِعَيْنِي إِلَّا قَلِيلًا وَالطَّبِيب يُعَذِّبنِي بمشارطه وَضِمَادَاته عَذَابًا أَلِيمًا وَكُلّ يَوْم أَشْعُر أَنَّ نَفَسِي يَزْدَاد ضَيِّقًا وَبَصَرِيّ يَزْدَاد ظُلْمَة وَأَنَّ اَلْحَيَاة تَبْعُد عَنْ نَاظِرَيْ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَكَاد أَحْسَبهَا شَبَحًا مِنْ اَلْأَشْبَاح اَلنَّائِيَة فَمَتَى يَنْقَضِي عَذَابِي؟
سَمِعَتْ صَبَاح اَلْيَوْم كَثِيرًا فِي فَنَاء اَلْمَنْزِل فَسَأَلَتْ برودنس:
مَا اَلْخَبَر فَذَهَبَتْ وَعَادَتْ إِلَى تَبْكِي وَتَقُول إِنَّهُمْ يَحْجِزُونَ أَثَاث اَلْمَنْزِل يَا سَيِّدَتِي فَقُلْت دعيهم يَفْعَلُونَ مَا يشاؤون وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَات قَلِيلَة حَتَّى دَخَلُوا غُرْفَتَيْ مُنْدَفِعِينَ متصايحين وَلَمْ يَمُرّ بِخَاطِر وَاحِد مِنْهُمْ أَنْ يَرْفَع قُبَّعَته عَنْ رَأْسه اِحْتِرَامًا لِصَاحِبَة اَلْمَنْزِل أَوْ يَخْفِض صَوْته إِشْفَاقًا عَلَى اَلْمَرِيضَة اَلْمُعَذَّبَة فَمَشَوْا يُسَجِّلُونَ كُلّ مَا وَقَعَ نَظَرهمْ عَلَيْهِ وَخَفَتَ أَنْ يُسَجِّلُوا دَفْتَر مُذَكِّرَاتِي فَأَشَرْت إِلَى برودنس أَنَّ تَخَفِّيه عَنْهُمْ فَفَعَلَتْ فَحَمِدَتْ اَللَّه عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى سَرِيرِي فَطَلَب أَحَد اَلدَّائِنِينَ حَجَزَهُ وَقَالَ إِنَّهُ ثَمِين سَيَكُونُ لَهُ يَوْم اَلْبَيْع شَأْن عَظِيم فَأَفْهَمَهُ اَلْحَاجِز أَنَّ اَلْقَانُون يَسْتَثْنِي اَلْأُسْرَة وَفَرَشَهَا وَأُلْقِي فِي أُذُنه كَلِمَة أَحْسَب أَنِّي سَمِعْته يَقُول فِيهَا إِنَّك تَسْتَطِيع أَنْ تَفْعَل ذَلِكَ بَعْد مَوْتهَا ثُمَّ اِنْصَرَفُوا بَعْد مَا تَرَكُوا عَلَى بَاب بَيْتِيّ حَارِسًا لَا يُفَارِقهُ لَيْله وَنَهَاره كَتَبَتْ إِلَى اَلدُّوق موهان وَهِيَ أَوَّل مَرَّة كَتَبَتْ إِلَيْهِ فِيهَا أَسْتَغْفِر ذَنْبِي اَلَّذِي أذنبته إِلَيْهِ واشكو لَهُ مَا نَالَتْهُ يَد اَلْأَيَّام مِنِّي وَأَسْتَحْلِفهُ بِذِكْرَى اِبْنَته اَلْكَرِيمَة عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِي لِزِيَارَتِي فَفَعَلَ فَبَكَى عِنْدَمَا رَآنِي وَلَا أَدْرِي هَلْ بَكَانِي أَوْ ذَكَّرَ عِنْد رُؤْيَة مصرعي مَصْرَع اِبْنَته اَلْأَخِير فَبَكَاهَا ثُمَّ قُضِيَ بِجَانِب فِرَاشَيْ سَاعَة مُطْرِقًا صَامِتًا لَا يُحَدِّثنِي إِلَّا قَلِيلًا وَلَا يُذَكِّر اَلْمَاضِي بِكَلِمَة وَاحِدَة ثُمَّ ذَهَبَ وَتَرَكَ فِي يَد برودنس ضَمَّة أَوْرَاق اِسْتَبْقَتْ بَعْضهَا لِلنَّفَقَةِ وَاسْتَعَانَتْ بِالْإِغْوَاءِ عَلَى تَأْجِيل بَيْع اَلْأَثَاث بِضْعَة أَشْهُر.
لَا أَسْتَطِيع أَنْ أَكْتُب إِلَيْك أَكْثَر مِمَّا كَتَبَتْ فَإِنَّ اَلطَّبِيب مَا زَالَ يَلِحّ عَلَى جِسْمِي بِالْقَصْدِ حَتَّى أوها وَاسْتَنْزَفَ فَأَصْبَحَتْ لَا أَتَحَرَّك حَرَكَة إِلَّا شَعَرَتْ بِأَلَم عَظِيم.
إِنَّ هَذَا اَلْيَوْم أَسْعَد أَيَّامِي وأهنؤها فَقَدْ وَصَلَ إِلَيَّ مِنْ أَبِيك كِتَاب هَذَا نَصَّهُ.

# يتبع
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
14,809
مستوى التفاعل
9,368
مجموع اﻻوسمة
9
مذكرات مرغريت للمنفلوطي
سَيِّدَتِي:
إِنِّي أَتَوَجَّع لَك تَوَجُّعًا شَدِيدًا فَقَدْ عَلِمَتْ بِالْأَمْسِ مِنْ بَعْض اَلْوَافِدِينَ إِلَى نيس أَنَّك مَرِيضَة مَرَضًا شَدِيدًا مُنْذُ شَهْرَيْنِ وَأَنَّك لَا تُخْرِجِينَ مَنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا قَلِيلًا فَأَسْأَل اَللَّه لَك اَلشِّفَاء وَالْعَزَاء وَأَضْرَع إِلَيْهِ أَنْ يَجْزِيك خَيْرًا بِمَا قَاسَيْت مِنْ اَلْآلَام وَالْأَوْجَاع فِي سَبِيلِي وَابْنَتِي وَأُبَشِّرك أَنَّ اَللَّه قَدْ تَقَبَّلَ قُرْبَانك اَلَّذِي قَدَّمَتْهُ إِلَيْهِ فَإِنَّ سُوزَان قَدْ تَزَوَّجَتْ مِنْ خَطِيبهَا مُنْذُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَأَصْبَحَتْ هَانِئَة بِحُبِّهَا وَعَيْشهَا كَمَا أَرَدْت لَهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْلَم مِنْ أَمْر تِلْكَ اَلْقِصَّة اَلَّتِي تَعْلَمهَا شَيْئًا فَقَدْ قُلْت لَهَا إِنَّ بَعْض اَلنَّاس وَلِمَ اِسْمه لَهَا قَدْ ضَحَّى بِنَفْسِهِ وَبِسَعَادَتِهِ فِي سَبِيل سَعَادَتك وَهَنَائِك فَلَا تَتْرُكِي اَلدُّعَاء لَهُ فِي جَمِيع صَلَوَاتك بِجَزِيل اَلْأَجْر وَحَسَن اَلْمَثُوبَة فَهِيَ لَا تَزَال تَدْعُو لَك صَبَاحهَا وَمَسَاءَهَا أَنْ يُحْسِن اَللَّه إِلَيْك كما أَحْسَنْت إِلَيْهَا.
أَمَّا اَلْكِتَاب اَلَّذِي أَرْسَلْته إِلَى أَرْمَان فِي أَوَائِل اَلشَّهْر اَلْمَاضِي فَلَمْ يَصِل إِلَيْهِ اَلْيَوْم لِأَنَّهُ مُنْذُ فَارَقَك وَسَافَرَ إِلَى نيس لِمَ يَسْتَطِيع اَلْبَقَاء فِيهَا إِلَّا بِضْعَة أَيَّام ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى اَلشَّرْق حَزِينًا مَهْمُومًا مِنْ أَجْلك وَكُنْت لَا أَعْرِف اَلْجِهَة اَلَّتِي توجه إليها.

💐💐💐
بَقِيَّة اَلْمُذَكِّرَات

لَمْ تَسْتَطِعْ مَرْغِرِيت يَا سَيِّدِي أَنْ تَكْتُب لَك أَكْثَر مِمَّا كَتَبَتْ لِأَنَّ اَلطَّبِيب مَنْعهَا اَلْحَرَكَة وَلَوْ إِرَادَتهَا لَعَجَزَتْ عَنْهَا.
أَتُذَكِّرُ يَا سَيِّدَيْ ذَلِكَ اَلْجِسْم اَلْغَضّ اَلنَّاعِم اَلَّذِي كَانَ يَمُوج بِالنُّورِ مَوْجًا وَيُشْرِق وَرَاء بَشَرَته إِشْرَاق اَلْخَمْر فِي كَأْسهَا لَقَدْ صَبَّحَ اَلْيَوْم عَظْمًا مُجَلَّدًا وَهَيْكَلًا قَائِمًا لَا يُسَاوِي ثَمَن نَظَر إِلَيْهِ!.
وارحمتاه لَك لَقَدْ مَاتَ كُلّ شَيْء فِيهَا إِلَّا قَلْبهَا وَشُعُورهَا وَلَيْتَهُمَا مَاتَا مَعًا فَإِنَّهَا لَا عَذَّبَهَا شَيْء مِثْل خَوَاطِرهَا وَأَفْكَارهَا.
وَلَا يَدْخُل مِنْ بَاب غُرْفَتهَا دَاخِل حَتَّى تَرْفَع نَظَرهَا إِلَيْهِ تَظُنّ أَنَّك قَدْ جِئْتهَا فَإِذَا دَنَا وَرَأَتْهُ أَطْبَقَتْ جَفْنَيْهَا عَلَى دَمْعَة تَنْحَدِر مِنْ بَيْنهمَا بِالرَّغْمِ مِنْهَا.
إِنَّهَا لَا تَتَكَلَّم كَثِيرًا فَإِذَا تَكَلَّمَتْ كَانَ أَوَّل حَدِيثهَا أَلَمْ يَأْتِ أَرْمَان فَإِذَا أَجَبْتهَا أَنْ لَا سَأَلَتْ عَنْ أَمْر آخَر تَتَلَهَّى بِهِ أَوْ عَادَتْ إِلَى صمَّتهَا مَرَّة أُخْرَى.
لَقَدْ رَابَهَا اَلْيَوْم أَنَّ طَبِيبهَا لَمْ يَأْتِهَا فَلَمَّا أَرَدْت أَنْ أَعْتَذِر لَهُ عَنْهُ لَمْ تَصْدُقنِي وَقَالَتْ:
اَلْآن عَرَفَتْ كَلِمَته اَلَّتِي أَلْقَاهَا إِلَيْك بالْأَمْسِ فَسَكَتَ وَلَمْ أَعْرِف مَاذَا أَقُول.

١٤ فَبْرَايِر:

أَصْبَحَ اَلْيَوْم صَوْتهَا ضَعِيفًا جِدًّا لَا أَكَاد أَسْمَعهُ وَأَظْلِم بَصَرهَا فَهِيَ تَنْظُر إِلَيَّ وَلَا تَرَانِي وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيَّ فِي اَلصَّبَاح مِرَارًا أَنَّ أَفْتَح لَهَا نَوَافِذ اَلْغُرْفَة لِتَسْتَنْشِق اَلْهَوَاء وَتُرَوِّح عَنْ نَفْسهَا وَنَوَافِذ اَلْغُرْفَة مَفْتُوحَة يَجْرِي مِنْهَا اَلْهَوَاء مُتَدَفِّقًا وَلَكِنَّهُ لَا يَصِل إِلَى صَدْرهَا.
آه لَوْ أَسْتَطِيع يَا سَيِّدِي أَنْ أَبِيع حَيَاتِي لِأَشْتَرِيَ لَهَا بِضْعَة أَنْفَاس تَتَرَدَّد فِي صَدْرهَا أَوْ بَعْض سنات مِنْ اَلنَّوْم تَأْوِي إِلَى جَفْنهَا فَإِنَّ تَنَفُّسهَا يُؤْلِمنِي وَيُعَذِّبنِي عَذَابًا شَدِيدًا وَقَدْ مَرَّتْ بِهَا ثَلَاث لَيَالٍ لَمْ تَنَمْ فِيهَا لَحْظَة وَاحِدَة.

# يتبع
 
Comment
أعلى