تواصل معنا

الحب تحت المطر ل/ نجيب محفوظ (١) تيارٌ من الخلق لا ينقطع، يتلاطم في جميع الاتجاهات، تندُّ عنه أصواتٌ من شتى الطبقات، ويُشكِّل في جملته خليطًا من ألوان...

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

الحب تحت المطر ل/ نجيب محفوظ

(١)

تيارٌ من الخلق لا ينقطع، يتلاطم في جميع الاتجاهات، تندُّ عنه أصواتٌ من شتى الطبقات، ويُشكِّل في جملته خليطًا من ألوان الطيف. سارا جنبًا إلى جنب صامتَين؛ هي في فستانٍ بنيٍّ قصير، وشعرها الأسود يتهدَّل حول الرأس وفوق الجبين. وهو بقميصه الأزرق وبنطلونه الرمادي وشعره المرسَل إلى اليمين. في عينَيها نظرةٌ عسليةٌ مستطلعة، وفي عينَيه جحوظٌ خفيف، ولكنه يوائم تمامًا أنفه الحادَّ المستقيم. وبقدر ما استسلمت للمشي كان هو يتحيَّن الفرص.
قال: الزحام لا يُطاق.
فتمتمت باسمةً: ولكنه مسلٍّ للغاية.
واعتبر ردَّها مناورةً لطيفة ليس إلا، بل استجابةً لرغبته القلبية. وأشار بذراعه المفتولة إلى كافتيريا هارون، فمالت معه إليها بلا تردد. ومضيا إلى الحديقة الخلفية، فاختار مجلسًا شبه خالٍ تحت تكعيبة اللبلاب، وتفحَّصا المكان، وتبادلا نظرات. استشعر دون شكاية حرارة الجو المشبعة بالرطوبة، وطلب قدحَين من شراب الليمون. وكان يتوثب للكلام فيما يهمه، ولكنه قال لنفسه فليأتِ الكلام في وقته وبطريقةٍ عفوية، فهذا أفضل. قال: مضى عهد الجامعة كحلم.
فقالت تكمل جملته: بمتاعبه ومسرَّاته.
– وما هي إلا أشهر، حتى يتسلم كلٌّ منا وظيفته.
فأحنت رأسها بالإيجاب، ثم تساءلت: ولكن إلى أين تمضي الدنيا؟
هذ السؤال الذي يرتطم به في كل مكانٍ وزمان. إلى أين؟ حرب أم سلام؟ وطوفان الشائعات؟
– لتمضِ إلى حيث تشاء.
وشربا الليمون، حتى دمعت عيناهما، ثم سألها: وما أخبار أخيك إبراهيم؟
– بخير، رسائله قليلة، ولكنه يجيء من الجبهة مرةً كل شهر.
وكأنما أرادت أن تعتذر عنه فقالت: مرزوق .. لو لم تكن وحيد أبويك لاستُدعِيت مثله إلى الجندية!
فلم يعلق بحرف، واستسلما معًا للصمت. وعاوده التوثب للكلام في موضوعه، فقال ضاحكًا: لا يجوز أن نضفي البراءة على اجتماعنا أكثر من ذلك.
فلعبت في عينَيها نظرةٌ مرحة وقالت: إذن فاجتماعنا بريء!
فقال بجدية: أعني الموضوع الذي حدثتْكِ عنه أختي سنية.
فقالت بحذر: لا تنقصك الصديقات فيما أعلم؟
فقال بجديةٍ أكثر: نحن نتحرك بدافع اللهو كثيرًا، ثم يجيء وقت فلا يقنعنا إلا الحب الحقيقي.
– الحقيقي؟
– هذا ما أعنيه تمامًا يا عليات.
فترددت قليلًا، ثم تساءلت: ألا يُعدُّ الزواج في حالتكَ سابقًا لأوانه؟
فقال بازدراء: ذلك من كلام السلف، ولكن لا أهمية للوقت ما دمنا نسيطر على مصيرنا.
فسألته باهتمام: وهل أنت واثقٌ من مشاعرك؟
فرمقها بحنانٍ وهو يقول: من عيوبي الجوهرية أنني لا أحسن التعبير عن مشاعري، كم مرة التقينا؟ ومع ذلك فلم أُنوِّه بجمالك أو ثقافتك مرةً واحدة.
ولما لم تنبس سألها بحرارة: لمَ لا تتكلمين؟
فقالت وهي تتنهد: لا أدري، كأنني خائفة!
فقال برقَّة: الحق أني أحبك كأعزِّ شيءٍ في الدنيا.
فغمغمت باسمة: هذا أفضل.
فضحك بسرورٍ وقال: عندي ما هو أجمل!
واعترفت قائلة: والحق أني لم أكن سلبية في المعركة، وأنت تعلم ذلك.
فاستخفَّه الطرب وقال: اعتبريني مجنونًا بكِ!
فخفضت بصرها وهمست: وأنا سعيدة كما يجدر بإنسانٍ يبادلك مشاعرك!
فاجتاحه السرور والإلهام وقال: ما كان أحب إليَّ أن أتلقَّى هذه السعادة في مكانٍ لا يشاركنا فيه أحد.
وضحكا معًا. وصمتا وهما يتبادلان النظرات. واقترح عليها الذهاب إلى حديقةٍ ما. وقاما وهي تقول: لا تنسَ أنه توجد في الطريق متاعب.
فهزَّ منكبَيه قائلًا: أعتقد أنها متاعب لا تُذكَر بالقياس إلى متاعب العالم.
 
التعديل الأخير:

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٢)

انتصف الليل، فخلا مقهى الانشراح بشارع الشيخ قمر من زبائنه. لم يبقَ من عماله إلا عم عبده بدران النادل، وعشماوي ماسح الأحذية. ومضى عشماوي بهيكله الضخم الخاوي إلى الخارج، فجلس القرفصاء جنب مدخل المقهى ينظر إلى لا شيء بعينَيه العمشاوين. أما عم عبده فاقتعد كرسيًّا وسط المدخل، وأشعل سيجارة. وبعد ربع ساعة مرقت سيارة مرسيدس بيضاء أمام المقهى، ثم وقفت على مبعدةٍ يسيرة لصق الطوار، فرفع عشماوي رأسه نحوها وهو يقول: الأستاذ حسني حجازي.

وقام عم عبده بدران ليستقبل القادم، الذي أقبل بجسمه الطويل النحيل، ورأسه الضخم رافلًا في بدلةٍ بيضاءَ آيةٍ في الأناقة. حيَّا الرجلَين باسمَيهما، واتخذ مجلسه، على حين مضى عم عبده ليجيئه بالنارجيلة، وزحف عشماوي ناحيته ليمسح حذاءه. ولأن حسني حجازي هو زبون ما بعد منتصف الليل الوحيد — كلما سمح له الوقت — فقد نشأت بينه وبين الرجلَين علاقةٌ حميمة، وحوارٌ متبادل. والحق أنه يأنس إلى وقار عم عبده — في الستين من عمره — ويعجب ببذلة عمله العتيقة، وصلعته المستديرة الضاربة للاحمرار، ونظرة عينَيه الثقيلة الطيبة. وأيضًا فهو يعجب كثيرًا بعشماوي الذي لا يُعرَف له سن، وإن قدره بما بين السبعين والثمانين، ويثيره منظر هيكله الضخم الخاوي كحفرةٍ متبقية من زمن الفتونة، ويحيي بكل إجلال صموده في معترك الحياة، رغم هوان الصحة والسمع والنظر وزوال المجد. وكان عم عبده يُعنى بنارجيلة الأستاذ عنايةً خاصة. لا من أجل البقشيش فحسب، ولكن لعلمه بأنها السر وراء زيارات الأستاذ للانشراح، بالإضافة إلى حنينه إلى مسقط رأسه بشارع الشيخ قمر. والأستاذ حسني في الخمسين، ولكنه يفيض بحيويةٍ عجيبة، ولم تشب له شعرةٌ واحدة، ويبدو أنه يسعد حقيقة بوجوده في المقهى المتواضع بين صاحبَيه، وفي مناجاته الطويلة مع النارجيلة. وكالعادة بدأ الحديث بتبادل النيران في الجبهة، وتساؤلاتٍ عن الغد القريب والبعيد، وكلماتٍ رقيقة بقصد الاطمئنان على إبراهيم ابن عم عبده، وغيره من المجندين من أهل درب الحلة موطن عشماوي. وكان يعتبر عشماوي نموذجًا لجماهيرَ غفيرةٍ لا يُتاح له الاتصال بها، هي المتحمسة حقًّا للقتال بلا قيدٍ ولا شرط، وبلا خوف، وبلا اكتراث للعواقب. وقال لنفسه علامَ يخافون وهم لا يملكون إلا الكرامة والأسطورة؟ وقال لنفسه أيضًا إن المعذبين حقًّا هم الوطنيون الصادقون. ولما فرغ عشماوي من مسح الحذاء اقترب عم عبده بدران من مجلس الأستاذ ومال نحوه قليلًا وهو يقول: عليات ابنتي طلب يدها شاب من زملائها.

فانبعث في صدر الأستاذ اهتمامٌ حقيقي، وقال: مبارك يا عم عبده.

فقال برضًى وفي غير ما حماس: الستر مطلوب، ولكن العريس — مثلها — لم يتوظف بعدُ!

– هكذا تجري الأمور في هذه الأيام.

– ولكني رجلٌ مثقل بالأعباء، والابن الوحيد الذي أتم دراسته مجند في الجبهة كما تعلم.

فقال حسني حجازي بثقة: ابنتك متعلمة وهي تدرك ذلك كله، وماذا يقال عن العريس؟

فقال الرجل بامتعاض: على الحديدة. حال أبيه كحالي، وهو كاتب في محلٍّ تجاري!

– جُنِّد؟

– مُعفًى؛ لأنه وحيد أبويه.

ثم مستدركًا: بقية ذريته بنات، وإحداهن زميلة وصديقةٌ حميمة لعليات.

وهنئ الأستاذ مليًّا بتدخين النارجيلة، ومضى يقول لنفسه إن النادل الطيب يعيش أيضًا في أسطورة، وإن الحقيقة خليقة بأن تصعقه، وإن أخلاقنا غير حقيقية، وهي تقوم على الريح. وقال لعم عبده: توجد فتياتٌ ذكيات، يفضلن الاقتران بالكهول الأغنياء، طلبًا للاستقرار في الحياة.

فهزَّ الرجل رأسه في حيرةٍ وقال: لا أدري.

– على أي حال، فإن كريمتك ليست واحدة منهن.

– ربنا معها.

فقال الأستاذ حسني، وهو يداري بسمةً ساخرة: آمين.

فقال عم عبده بدران بحماسٍ طارئ: عليات فتاةٌ عالية الهمة، سعت إلى الرزق، حتى وهي طالبة، واكتسبت نقودًا لا بأس بها من الترجمة، فاستطاعت أن تظهر في الجامعة بالمظهر اللائق، الذي لم يكن في مقدوري توفيره لها.

– فتاة عالية الهمة حقًّا!

– ولكن هل ادَّخرت من النقود ما يكفي لتجهيز ولو حجرةً واحدة؟

– هذه هي المسألة!

– أما هي فلا يهمها ذلك على الإطلاق.

فضحك حسني حجازي، وقال: جيل يستحق التحية والإكبار.

وسرحت خواطره إلى شقته الأنيقة بشارع شريف، فقال لنفسه بأن الصراع الحقيقي في هذه الحياة هو ما يقوم بين الحقائق والأساطير. وقال له عم عبده: سعادتك لم تفكر في الزواج أبدًا؟

– أبدًا.

ثم أشار إليه بسبابته محذرًا، وقال: ولم أندم على ذلك قط.

وتذكَّر كيف سأله صحفي في ريبورتاج عابر بالاستديو — ضمن مجموعة من العاملين في فيلم — سأله عن فلسفته في الحياة، وكيف بُهت ولم يُحِر جوابًا.

ولكن أهو حقًّا بلا فلسفة؟!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٣)

ثمينةٌ جدًّا الساعات القلائل التي يقضيها إبراهيم عبده في القاهرة. تأبطت شقيقته عليات ذراعه، وهو في بذلته العسكرية ومضيا يشقَّان الطريق وسط خضمٍّ هائل من البشر تحت فيضٍ متدفقٍ من الأضواء. وكان يشبهها لدرجةٍ محسوسة، بعينَيه العسليتَين خاصة، ورغم ما بأنفه من فطسٍ خفيف، وما في شفتَيه من دسامة، وما في بنيانه من متانة. وكان يلتهم كل شيء بحواسه، ويتلقَّى سيلًا متواصلًا من المشاعر، ويدخل أحيانًا في وجودٍ غريبٍ عابرٍ بين الواقع والحلم، أو يتردد مع خواطره بين الواقع والحلم. وسألته أخته: كيف تجد الليلة صدمة الانتقال من باطن الأرض المزلزلة بالانفجارات إلى دنيا القاهرة الثملة بالصخب؟

وكانت تستعيد كلماته القديمة بالحرف، ولكنه أجاب بلا اكتراث: أصبحت عادة.

– وامتعاضك العتيد؟

فأجاب بنفس اللهجة: أصبح عادة أيضًا.

ثم وهو يبتسم: الموت نفسه أصبح عادةً يومية.

فسألته برقَّة، وهي تتفادى من شابٍّ ينطلق كالصاروخ: كيف تريد لنا أن نعيش؟

– لا أريد تغيير نظام الكون، أريد فقط أن أشعر بأنني أُستقبَل بين أصدقائي استقبال العائد من جبهةٍ مشتعلة في سبيل الدفاع عن الوطن.

فلاذت بالصمت، فمضى وهو يقول: لا أعني تكريمًا أو هتافًا. أطمع فقط في شيءٍ من الاهتمام والجدية.

– ولكن لا حديث للناس إلا الحرب!

– … دون المستوى المطلوب.

فقال بعد تردد: لهم بعض العذر!

– اللعنة .. مهما كان، مهما يكن، فالموت شيءٌ حقيقي!

فضغطت على ذراعه، وقالت: لا تسمح لشيءٍ بأن يفسد عليك ساعةً طيبة .. نتناول بعض الشطائر، ثم نذهب إلى السينما.

فلم يعارض، ولكنه قال: غريب أنني لم أعرف خطيبك مرزوق من قبلُ!

– ألا يعجبك؟

– شكله لطيف، ولكن أخته ألطف!

فنظرت إليه باهتمام وهما يقفان في ظل عند مشرب قهوة على الناصية، وتساءلت: سنية؟

– أجل، أظنها صديقتكِ؟

– جدًّا، سبقتْني بعام، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي. الظاهر أنها أعجبتك؟

فقال بيقين: جدًّا!

فضحكت عليات وتساءلت: حب من أول نظرة؟

فقال ضاحكًا: أعتقد أني نلت منها مائة نظرة!

– كل ذلك من وراء ظهورنا؟

– المهم …

ولما سكت تساءلت: المهم؟

– أهي لائقة كزوجة؟

– ما شروط اللياقة في نظركَ؟

– نحن كما تعلمين أسرةٌ محافظة!

– أعترف بأنكَ متشبع جدًّا بأبي.

– تهمني الأخلاق.

فلفتته إلى إعلانٍ سينمائيٍّ فاضح، يوشك أن يكون مضاجعة، وقالت محذرة: اخفض صوتك!

– أنتِ نفسكِ محافظة في الناحية الأخلاقية على الأقل.

– أشكر لكَ حسن ظنك!

– والآن خبريني؟

فقالت بضيق: ما أعرفه عنها يشهد بأنها ممتازة.

– لا أحب أن أقلق.

فضحكت، ولكنها قالت بعطف: لا يجوز أن يقلق جندي لأسبابٍ تجيئه من المدينة!

وانطفأت الأنوار بغتة، كأنما ماتت بسكتةٍ؛ فغرق الطريق في ظلامٍ دامس. وهللت هتافاتٌ شابة مهرجة في عبثٍ ومجون، وصرصرت آلات التنبيه بالسيارات. توترت أعصاب إبراهيم، واجتاح رأسه أصداءُ أوامرَ خاطفةٍ بالاستعداد والقبوع في المواقع، ولكن جاءه صوت عليات ناعمًا، وهي تقول: تنطفئ الأنوار كثيرًا لأسبابٍ مجهولة.

فاستردَّ راحته، وقبض على يدها، فتراجع بها، حتى لامس ظهراهما جدار المشرب، وسألها: أيطول ذلك؟

– من دقيقة لساعة. وأنتَ وحظك!

وسرعان ما ألِفت عيناه الظلام، فرجع يسألها: بمَ تنصحينني؟

– ننتظر حتى يعود النور.

– أعني سنية!

فضحكت قائلة: سنية .. تزوجها إن كنتَ تحبها.

– الحب ليس المشكلة!

فسألته ساخرة: بمَ نحكم عليك لو أخذنا بماضيك؟

– ليس الرجل كالمرأة!

فضربت الأرض بقدمها غيظًا، ولكنها لم تنبس، فعاد يقول: لا تريدين أن تعطيني رأيًا قاطعًا!

فقالت بحدة: قلتُ إنها ممتازة، فتزوجها إن كنتَ تحبها.

– سأقابلها صباح الغد.

فضحكت عليات وتساءلت: لماذا يطفئون الأنوار إذا كانت أمهر المؤامرات تدبر في رابعة النهار؟
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٤)

لم يكن الجو شديد الحرارة، ولكن أشعة الشمس تدفقت حاميةً لاسعة، وترامت تحت دفقاتها حديقة الأسماك عاريةً أو شبه عارية. وكانا أول قادمَين. تمشيا بلا هدف، وإبراهيم يقول لنفسه: مثل آدم وحواء، مثل آدم وحواء قبل الخطيئة، وابتسم لخواطره وهو لا يدري، فضبطت سنية ابتسامته، وسألته بحياء: ترى ماذا يضحكك؟

فارتبك ثانيًا، ولكنه قال: لأني سعيد!

وبسط راحتَيه لأشعة الشمس، وقال: يوجد مجلس تحت الجبلاية.

وذهبا صوب الجبلاية تفعم أنفَيهما رائحةٌ نباتية تزفرها الأعشاب المخضلَّة برشاش الماء. وكانت متوسطة القامة، أو دون ذلك بقليل، فلم تجاوز قمة رأسها الكستنائي منكبه، ولكنها كانت متناسقة التكوين، وذات عينَين خضراوَين صافيتَين. وجلسا متجاورَين فوق أريكة من جذع النخيل. قال: حضوركِ منَّةٌ عظيمة.

فقالت ببساطة: لسنا غرباء، فنحن أسرةٌ واحدة.

وأضفى القبو على الجو قتامة، وجرت في ثناياه نسمةٌ رطيبة كحال الأماكن التي لا تزورها الشمس. وكانت أعينهما تكلمت كثيرًا أمس؛ فلم يشعرا في جلستهما بغربةٍ مطلقة. ولاحظ أنها تنظر إلى بذلته العسكرية بحب استطلاع، فسألها: ليس لكِ أهلٌ مجندون؟

فهزَّت رأسها بالنفي، فقال: إنها لا تمنع من التفكير في المستقبل، كأننا نعيش أبدًا!

فقالت بعذوبةٍ وحرارة: الأعمار بيد الله وحده.

فابتسم في تسليمٍ وارتياح. وقال لنفسه: لا يمكن اقتحام الموضوع بلا تمهيد، ولا يجوز — في ذات الوقت — أن يطول التمهيد ما دامت فرصة اللقاء لن تتجدد قبل شهرٍ كاملٍ إن وُجدت أصلًا! ولعلها حامت حول الأفكار نفسها، ولكنها وجدت مخرجًا، فقالت: الحياة هناك شاقة بلا شك؟

وامتنَّ لسماع ملاحظتها التي لا يسمعها عادة بعيدًا عن نطاق أسرته، فقال: فوق ما تتصورين!

– وكيف تتحملونها؟

فقال بصدق: أصبحت أُومن بأن الإنسان يستطيع أن يعيش في الجحيم نفسها، وأن يألفها في النهاية.

ثم نظر إليها باهتمامٍ وقال: ولا يمنعه ذلك من التطلع إلى النعيم والسعادة.

فابتسمت، وتورَّد وجهها القمحي، وتبدَّت سعيدة، فقال لنفسه: إنها ليست طفلةً ولا ممثلة، ولكنها قوية الشخصية والأخلاق. وسألته: ترى هل تقوم الحرب من جديد؟

فقال وكأنه لم يسمع سؤالها: علمت أنكِ غير مخطوبة!

– إذن، فأنت تجري عني تحريات!

– لنا صديقٌ مشترك؛ عليات.

– ولمَ تشغل بالكَ بما لا يهمك؟

– وهنأتني على إعجابي بكِ.

– حقًّا؟

فقال بلهجةٍ ذات مغزًى: وتمنَّت لي السعادة والتوفيق!

ومرَّت فترة صمت مفعمة بالرضا. واعتقد أنه اجتاز خطًّا هامًّا، وأنه اجتازه بنجاح، وأنه لم يُضع دقيقةً من وقته الغالي سدًى. وقررت هي التهرب من نظراته، فسألته: لم تجبني على سؤالي؛ هل تقوم الحرب من جديد؟

فقال وهو نشوان بعواطفه: تحدثتُ عن أشياءَ يقينيةٍ مثل إعجابي بك.

– ولكنكَ لا تعرف عني شيئًا.

– القلب يعرف أكثر مما يتصور العقل.

فغمغمت، ولكنه لم يسمع، فسألها: ماذا تقولين؟ أنتِ لم تتكلمي بعدُ!

فقالت ببساطةٍ وصراحةٍ وبنبرةٍ غير ملعثمة: أنا سعيدة!

فتجلَّت في عينَيه نظرةٌ ممتنة، وتناول يدها بين يديه بحرارةٍ وقال: في المرة القادمة سنخطو خطوةً حاسمة، وحتى يجيء ذلك الوقت، سأحيا حياةً غنية وجديدة رغم كل شيء.

– حفظكَ الله من كل شيء!

فقال بسرور: كسبتُ قلبًا جديدًا سيشعر بنا على نحوٍ ما.

وتفكرتْ فيما يعنيه، وفطن هو إلى ما تُفكِّر فيه، فقال: يخيل إليَّ أن أحدًا لا يشعر بنا سوى أهلنا!

فارتبكت، ثم قالت كالمعتذرة: إنها تجربةٌ جديدة علينا، هذا هو الواقع، ولكن ماذا عما يجب أن يكون؟ ومن رأي الأستاذ حسني أنها سياسةٌ مرسومة.

– من الأستاذ حسني؟

– موظفٌ كبير في قسمنا بالمصلحة.

– وماذا يعني؟

– يعني أنهم لا يريدون تعبئة الشعب للحرب إلا قبيل دخول المعركة.

– الحق أني لا أفهم!

– ولا أنا، ولا يدعي أحد بأنه يفهم، هل ستقوم الحرب من جديد؟!

– في الجبهة نؤمن بذلك.

– هنا لا نكاد نصدق!

– كيف ترون الأمر؟

– ممكن أن تسمع كافة المتناقضات.

فضحك إبراهيم وقال: إنكم تودون أن تجدوا النصر يومًا ضمن أخبار الصحف!

وضحكت. وبالضحك أفلتا من حصار القلق، فعادا إلى موعدهما تحت الجبلاية. وتبادلا نظرة اعتذار طويلةً وحنونة.
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٥)

قام حسني حجازي من مجلسه فوق الكنبة الاستوديو. انطلقت قامته الطويلة وسط حجرة الجلوس كالمارد. في شقته يجد راحةً شاملة، وإحساسًا بالسيطرة على كل شيء. الدواوين والمقاعد تصلح للاضطجاع كما تصلح للجلوس. وأجهزة التسلية قائمة بالأركان وسط تهاويل الديكور. والتحف مصفوفة فوق الأرفف عارضة ألوانًا من فنون اليابان وخان الخليلي. من أعماقه يشعر بأنها توثق علاقته بالدنيا، وتدفع عنه غوائل الفناء. مضى إلى البار، فملأ كأسَين من الكوكتيل الذي يعده بيده بخبرةٍ وأناةٍ، ثم رجع إلى وسط الحجرة، فوضع كأسًا فوق ذراع فوتيل على بعد قيراط من يد سنية. ولبث واقفًا ثم حرك كأسه قائلًا: في صحتك!

وأفرغ كأسه، ثم قال: لم يعد غريبًا على هذه الحجرة أن تشهد وداع الأحبة!

فقالت سنية: أنت رجلٌ كريم، في الحياة والحب!

فقال متظاهرًا بالاهتمام: من حسن الحظ أني حصلت أخيرًا على فيلمٍ ممتاز لا تقلُّ مدة عرضه عن ربع ساعة!

فابتسمت سنية، ولكن بلا حماس. وتذكرت كيف صرخت عند رؤية المشهد الأول من أول فيلم. كان ذلك منذ سنوات، وكانت طالبة بالجامعة أو تلميذة بالثانوية. وكانت المفاجأة بالغة الإثارة والرعب. وقال بأسف: عليات انتهت، خسارةٌ فادحة!

– إنها مخطوبة، وتستعد للحياة الزوجية، ماذا تتوقع؟

فقال في دعابة: لا بأس من إباحة اللهو حتى الزفاف!

فرمقته بعينَيها الخضراوَين، وقالت بلهجةٍ ذات معنًى: فكرة الزواج تخلق المرأة من جديد!

– كم من متزوجات …

فقاطعته: هذا موضوعٌ آخر.

ثم وهي تضحك: ألا تريد للحب أن يُحترَم يومًا أو بعض يوم؟!

– حاولتُ إقناعها.

– أهي مهمة حقًّا عندك؟

– العِشرة عندي غالية دائمًا.

فضحكت ساخرةً هذه المرة وقالت: يخيل إليَّ كثيرًا أن جميع النساء اللاتي يمررن من شارع شريف أنهن ذاهبات إلى شقتك أو راجعاتٍ منها.

فقهقه حسني حجازي وقال: جاحدة من تحدثها نفسها بالسخرية من هذه الشقة.

– أنت ترى أنني جئت بكل احترامٍ لأودِّعها.

فهتف باسمًا: حتى أنتِ يا سنية!

فقالت بسرور: جاء دوري يا قيصر.

– حدثني عنه أبوه، إنه جندي، أليس كذلك؟

– بلى.

– أقرأ في وجهكِ الرضا.

– شابٌّ لطيف وجذاب.

– وهكذا قررتِ هجر العش كصديقتكِ عليات!

– إني أحب من يرغب في الزواج مني!

وقال لنفسه: إن المرأة مثال الحكمة، وإنها المخلوق الوحيد الذي يستحق أن يعبد، ولكنه قال لها مداعبًا: إذن فهي المصلحة!

فقالت بعجلةٍ واهتمام: لقد أحببته، صدقني!

– أنتِ مصدَّقة، ولكني سآسف كثيرًا لغيابك.

– لن تذوق في هذه الشقة الوحدة أبدًا.

– ولكنها مكان عبور ليس إلا!

– إنه شعار يصلح لأي مكان.

فتراجع إلى الكنبة الاستوديو ثم جلس. أغمض عينَيه قليلًا، ثم قال: زرت الجبهة أخيرًا ضمن وفد المصورين السينمائيين، والتقطتُ صورًا لبورسعيد شبه الخالية. هل سبق لكِ أن شاهدت مدينةً خالية؟

– كلا.

– كالحلم المرعب!

– زرتُ بورسعيد يومًا واحدًا قبل الحرب.

– أما أنا فعشت فيها ثلاثة أسابيع، ونحن نصور فيلم «فتاة فلسطين» منذ أعوام، وهي تعيش وتنام كالمدن، ولكنها تصحو في أي ساعةٍ من الليل لدى وصول أي سفينة، وسرعان ما تخلق فيها الحياة بقوة وسرعة، فتدبَّ الحركة، وتشعُّ الأنوار، وترتفع الحرارة، وفي الأماسي تترامى من جنبات الميناء أغانٍ شعبية غاية في الفتنة!

– ووجدتَها شبه خالية؟

– ولم تُمسَّ بسوء، بخلاف المدن الأخرى.

وصمتت قليلًا، ثم ساءلت نفسها: تُرى هل تقوم الحرب من جديد؟

فهزَّ رأسه قائلًا: لن يتهيأ لنا ذلك في القريب، ولن يشجعنا أحد عليه، ولكن الصمود يوفر لنا أطيب شروط عقب هزيمة يونيو.

– الجنود يريدون الحرب.

– هذا طبيعي، وكذلك الجماهير، أما نحن فلا ندري ماذا نريد.

وتأوه قائلًا: آه يا وطني العزيز!

فقالت بمرارة: أما نحن فكفرنا بكل شيء!

– أنتم أبناء الثورة، وعليكم أن تحلوا مشاكلكم معها.

ثم سألها مغيرًا نبرته: كأسٌ أخرى؟

فهزَّت رأسها نفيًا، فقال: قلت إني حصلت على فيلمٍ ممتاز!

فتساءلت ضاحكة: أتذكر فيلم القسيس وبائعة الخبز؟

– هذا عن المرأتَين ورجل، ثم ينقضُّ عليهم رجلٌ غريبٌ جديد!

فسألته: لم لا تتزوج قبل أن يفوتك القطار؟

– ولكنه فاتني يا عزيزتي.

– توجد زوجةٌ مناسبة دائمًا.

– تكلمي بخير وإلا فاسكتي!

فسألته بجرأة: هل تحترم حياتك؟

– لم أفكر في تقييمها بعدُ!

فقالت بامتعاض: ما يؤلمني أحيانًا أنني سلمت ابتغاء شراء أشياء، وإن تكن ضرورية.

فقال لها بعطف: المجتمع يقوم على الأخذ والعطاء فلا تتألمي!

فضربت الأرض بقدمها الصغيرة وتساءلت: متى نرى الفيلم الجديد؟!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٦)

وخيم الهدوء الشامل على مقهى الانشراح، فلم يندَّ عنه إلا قرقرة النارجيلة المتقطعة. وكان عشماوي يتناول عشاءه — رغيفًا وطعمية — عند الباب، أما عبده بدران فجلس على مبعدةٍ يسيرة من حسني حجازي متحفزًا للحديث أو لتقديم أي خدمة. وتساءل حسني حجازي في نفسه: كيف يواجه رجل مثل عبده بدران أعباء الحياة الفاحشة الغلاء بأسرته الكبيرة؟ كيف تتوازن ميزانيته المحدودة، ولو اقتصر الطعام على الخبز، والكساء على مخلفات سوق الكانتو، والمسكن على بدروم؟ وأولاده مع ذلك تلاميذ في المدارس، واثنان منهم — إبراهيم وعليات — أتمَّا تعليمهما الجامعي، فأي معجزة تمارس في غفلةٍ من المؤمنين! وقال إن ما ينفقه في ليلةٍ يكفي لإعالة أسرة بضعة شهور، ومع ذلك فهو لا يخلو من تذمر، وإذا مرَّ شهران دون عمل في فيلمٍ طويل أو قصير تولَّاه القلق، فماذا يكمن وراء نظرة عم بدران الثقيلة الهادئة؟! وأقنعته عليات بأنها تحافظ على المظهر اللائق بفتاةٍ جامعية بفضل النقود التي تربحها من الترجمة، فصدَّق الرجل الطيب، ولم يخطر بباله أن نقوده هو ضمن النقود التي تسهم في تربية كريمته! آه .. يوم عرف عليات عرف أنها كريمة عم بدران، وداخله قلق، وشيء من مناقشة الضمير، ولكنه قتل وساوسه بعقله البارد. وقال إنه لا يؤمن بذلك كله. ولم يتزعزع احترامه لعليات. وقال: عليهم اللعنة، فهم يقبلون الضيم والظلم والاستعباد، وينقلبون أسودًا فاتكة في وجه الحب واللهو.

وهمَّ أن يسأل عم عبده كيف يواجه الحياة، ولكنه سرعان ما أقلع عن فكرته، خشية أن يفسد عليه هدوء جلسة نصف الليل، أو أن يشجعه سؤاله على استجداء مساعدة، أو طلب سلفة. ولما طال صمت الأستاذ قال عم عبده بدران: تمت خطبة إبراهيم وسنية أخت مرزوق.

علم بذلك في حينه، فأتحف العروس بهبةٍ ماليةٍ كما أتحف عليات من قبلُ، ولكنه قال: ليحفظ اللهُ العريسَ ويُسعد العروسَ.

– ناس طيبون وعلى قدِّ حالهم مثلنا، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي!

فجاء صوت عشماوي من عند الباب قائلًا: لا تعجبني المرأة الموظفة!

فقال له عم عبده بدران: جميع بنات درب الحلة تلميذات والكبار منهن موظفات.

فقال العجوز بسخرية: ولو!

– لو كانت لك بنتٌ لتغيَّر رأيك.

فقال بفخار: أنجبتُ أربعةً كلهم ذكور!

ولكن حسني حجازي يسمع لأول مرة عن أبناء عشماوي، فسأله: ماذا يعملون يا عشماوي؟

– اثنان بين الخمسين والستين في المذبح.

ثم بفتور: الثالث قُتل تحت الترام، والرابع في السجن!

وصمتوا دقيقةً إعرابًا عن التأثر والتأمل، ثم سأل الأستاذ حسني عم عبده: وهل يتزوج إبراهيم في أول فرصة أو يؤجل ذلك لوقت السلم؟

– هذا شأنه، أنا أتمنى أن يتزوج اليوم قبل الغد، ولكن متى تنتهي الحرب؟

– من يدري يا عم عبده!

– حقًّا من يدري، إنهم يعانون معاناة الأبطال.

– هذا حق.

– ومع ذلك فلا يهتم بهم أحد!

– كلا، ليس هذا صحيحًا، المسألة أن الناس لم يتخلصوا بعدُ من مرارة الهزيمة.

وجذب حديثُ الحرب عشماوي من الخارج إلى الداخل، فجاء بهيكله الضخم، وهو يقول: ولكن الله سينصرنا في النهاية!

فقال حسني حجازي: قل إن شاء الله.

فقال عشماوي: كل شيء بمشيئته، لا بد أن نهزمهم وإلا فقل على الدنيا السلام.

فسأله حسني: وإذا انتهى الموقف بحلٍّ سلمي؟

فهتف العجوز الأعمش: أعوذ بالله!

وأراد أن يدلل على قدرة الله، فقال: ربك كبير، أتصدق أنني ضاجعت الولية ليلة أمس مرتين؟

فذُهل الأستاذ حسني وهتف: مرتين؟!

– وحق كتاب الله!

– عوفيت .. عوفيت يا عشماوي!

– فلا تيئسوا من رحمة الله!

وضحك حسني عاليًا، ونظر صوب عبده بدران، فأحنى رأسه مصدقًا! وعاد عشماوي يقول: لم حصل ما حصل؟ لأننا خسرنا الدين والأخلاق!

وقال حسني لنفسه: ولكن ما الأخلاق؟ أزمتكم الحقيقية أنكم في حاجةٍ إلى أخلاقٍ جديدة!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٧)

اكتظَّت ناصية الأمريكين فلا موضع لقدم. تلاصق الشبان تحت الأضواء، وانحصر المارة بين الأجسام الحارَّة الفتية. وقلَّ الكلام أو انعدم، وحملقت الأعين وتحركت بعض السيقان بالرقص الخفيف. وثار سالكٌ بحريمه في عباب الزحام غضبًا لكرامته الشخصية فيما بدا، وصاح: اخجلوا من أنفسكم، واذهبوا إلى الجبهة إن كنتم رجالًا!
ولم يخجل أحد فيما بدا أيضًا. وتساءل صوت: لم يريد أن يرسلنا إلى الجبهة قبل الأوان؟
وقال صوتٌ آخر ساخرًا: لعله يظن أنهم يرسلون النساء والكهول!
وشبعت شلة من وقفتها، فانسحبت من معسكرها، ومضت إلى «جنيفا»، فتجمعوا حول بضع زجاجات من البيرة، وجعلوا يشربون ويتكلمون كما يحلو لهم، وغالبًا بلا ضابط ولا نظام، غير أن مرزوق أنور تولى مهمة ملء الأقداح وتوزيعها.
– مشكلة الجنس في …
قاطعه: في الجبهة مشكلة أهم.
– إنما أتكلم عن المشكلات الداخلية.
– دعه يتكلم، المقاطعة ممنوعة.
– حدثني أحد الكبار، فقال إنه كان يوجد على أيامهم بغاءٌ رسمي.
– زماننا أفضل، فالجنس فيه كالهواء والماء!
– الماء لا يصل إلى الأدوار العليا.
– ولكنه يصل إلى الأدوار السفلى!
– ليس كالهواء والماء، فالبنات تعلَّمن الاستغلال.
– إنها ضرورات العصر.
– البراءة تنهزم أمام السيارة مثلًا.
– توجد دائمًا فرصٌ طيبة.
– كما توجد الباصات.
– وحفلات الساعة الثالثة في السينما.
– لا أهمية لذلك، المهم هل الله موجود؟
– ولمَ تريد أن تعرف؟
– كان شغلنا الشاغل الوحدة العربية والوحدة الأفريقية.
– وما دخل ذلك في وجود الله؟
– أصبح شغلنا الشاغل متى وكيف نزيل آثار العدوان.
– معي دقيقةٌ واحدة، أهو موجود؟
– كانت أيامًا مجيدة.
– كانت حلمًا.
– بل كانت وهمًا.
– ويضيقون بوقوفنا دقائق في الناصية!
– الكلاب!
– إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا؟
– من يُقتَل كل يوم غيرنا؟
– ومن قُتل عام ١٩٥٦؟ من قُتل في اليمن؟ من قُتل عام ١٩٦٧؟
– يظن العجوز أن المحافظة على بنت نصف عارية هي كل شيء!
– علينا أن نبدأ من الصفر!
– أن تُزاح عن صدورنا الكوابيس.
– لا أحد يريد أن يجيبني، أهو موجود؟
– طيب يا أخي، إذا حكمنا بالفوضى الضاربة في كل مكان، فلا يجوز أن يوجد!
– أليس من الجائز أنه يملك ولا يحكم؟
– يكفي أن يكون المصريون من عباده لكي يملك ويحكم!
– أأنت شارع في الزواج حقًّا؟
– نعم. خذ قدحك.
– لماذا؟
– لأني أحب.
– وما العلاقة بين هذا وذاك؟
– يجب أن نفعل شيئًا على أي حال.
– بماذا نفسر تفشي الزواج المبكر بين الشبان؟
– بالفقر!
– بالموت!
– بنظام الحكم!
– سنضطر إلى الوقوف غدًا من شدة الزحام.
– أليس من الأفضل أن نهاجر بدلًا من أن نتزوج؟
– الزواج هجرةٌ داخلية.
– الحق أنه يلزمنا شيء من انتهازية الأجيال السابقة.
– لا غنى عنها في الزحام.
– إذن فلماذا يخشى العالمُ الحربَ؟
– ليست الحرب بأفظع ما يتهدد العالم.
– أيوجد ما هو أفظع؟
– الفرد غير آمن تمامًا بين أهله، والأسرة تخشى الجيران، والوطن مهدَّد من أوطانٍ شتى، والعالم يحيط به عالمٌ خفي من الكائنات الضارة، والأرض قد يخربها خلل بالمجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية قد تنفجر وتختفي في ثوانٍ.
– أنت مجنون!
– ولكن علينا أن نضحك، وألَّا نسمح لشيءٍ بأن يفسد علينا حياتنا الغالية.
– آمين.
– آمين.
– آمين.
 
1 Comment
هدوء
هدوء commented
رائع ماتفضلت به غالينا
شكرا لنقلك المميز والمختار بعناية
دمت بود
 

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٨)

ارتسمت في وجه عشماوي صورةٌ غير عادية. انغرست في أساريره غضبةٌ كالحةٌ فولاذية، انداحت فوق جفاف الشيخوخة، وبروز الفكَّين، وتهدُّل اللحيَين. وعندما استُقبل الأستاذ حسني حجازي لم ينجلِ شعاعٌ واحد للبشاشة في وجهه، حتى توجَّس الأستاذ خيفةً مجهولة، فقال — وهو يتخذ مجلسه — لعم عبده بدران: خير إن شاء الله؟!

وسمعه عشماوي، فأقبل نحوه، حتى وقف أمامه، وتدفَّق قائلًا: إني ألعن كل شيء، وألعن فوق كل شيء نفسي، إني ثائرٌ على ضعفي وعجزي واندحاري في صندوق القمامة بلا حول، ومَن أنا؟! أنا عشماوي الخشن، صاحب القبضة الحديدية والنبُّوت المخضَّب بالدماء، أنا من يرتجف عند ذكر اسمه الرجال، وتتوارى النساء، ويستعيذ بالله منه رجال الشرطة، أنا المجرم الجبار الفتاك الطاغية السفاك النمرود الشيطان!

واختنق بأنفاسه، فقال حسني حجازي بلين ودعابة: وكيف تشكو الضعف وأنت ذلك كله؟!

– إني أحكي عن الماضي، عن الماضي أحكي لا الحاضر، افهمني يا أستاذ، كنت رجل درب الحلة وحاميها، وكان الويل نصيب مَن يتعرض لأحدٍ من أهلها بسوء، بفضلي نعموا بالسلام والأمان، بفضلي بغوا على الخلق، وهم في أمنٍ من العواقب، كان اسمي قانونًا وسيفًا ونعمةً وغنًى وفقرًا، ماذا جرى يوم اعتدى نذل من القبيسي على رجلٍ من حارتنا؟ هجمتُ على الحي كالقضاء والقدر، لم أفرق بين متهم وبريء، تهاوت الضربات على رءوس المارة، حطمتُ الدكاكين، احترقتْ عربات اليد، انهمرت الأحجار على النوافذ والأبواب، واسأل عني أيام سعد، ولا تسأل عن عدد ضحاياي، وقد عُرفتُ بشارب الدماء منذ ذبحتُ إنجليزيًّا، وشربتُ دمه المسفوح، هذا هو عشماوي الخشن!

فقال حسني حجازي وهو يلعنه في سره: تاريخك معروف يا عشماوي، ولكن لمَ أنت غاضب؟!

ولكن العجوز لم يُجب. ورجع إلى مجلسه عند الباب، وغرق مرةً أخرى في الحزن والصمت. ونظر حسني حجازي إلى عم عبده بدران في فضول، فقال عم عبده بدران بإشفاقٍ بلغ حد الخوف: أصيب شابان من أهل درب الحلة.

فقال حسني باستنكار: ظننت أن أيام الفتونة والمعارك، قد انتهت إلى غير رجعة.

فقال عبده بدران بوجهٍ شاحب: أصيبا في الجبهة!

فوجم حسني حجازي، ثم تفكر في كلمةٍ مناسبةٍ يقولها، ولكن عشماوي سبقه صائحًا: قصدتني جدة أحدهما مستغيثة بي كالأيام الخالية، ظنت الولية أن عشماوي ما زال كعهده القديم يُستغاث به فيُغيث!

فقال حسني حجازي: إنهما بطلان يا عشماوي!

فقال الرجل بحنق: أنت لم ترهما ولم ترَ العنبر.

– زرتَهما في المستشفى؟

– زرتُهما، رأيت وسمعت وشعرت بعجزي، فلعنت كل شيء كما لعنتُ نفسي.

فقال حسني بروحٍ عالية، وهو يقصد أولًا عم عبده بدران: هما بطلان، وهكذا الحرب في كل زمانٍ ومكان.

فصاح عشماوي: إني ألعن العجز!

– سليمة سليمة بإذن الله.

وقال عم عبده بدران ليُبدِّد مخاوفه الشخصية بدعابة: وأنت يا عشماوي ألا تطالب دائمًا بالحرب والنصر؟

فتحوَّل غضبه إلى حزنٍ وهو يردد: الحرب والنصر، ولكني عجوز لا خير فيه!

– حسبك أنك شربتَ من دم الإنجليز في شبابك!

ثم نظر عبده بدران إلى الأستاذ حسني، وقال: في الثورة الأولى كنت دون السن اللازم للجهاد، واليوم أنا فوق السن المناسب للحرب، فلم أفعل شيئًا يُذكر للوطن.

– ولكن ابنك في الجبهة، خبِّرني هل يؤلمك تصورك أنك لم تفعل شيئًا؟

– أحيانًا، ولكن أعباء الحياة تغرقني حتى القمة.

وتذكَّر حسني أنه ذو موقفٍ مماثل، وأنه كان يحاسب نفسه في أزماتٍ تلمُّ به، وأنه كان يطفئ سعارها ببرودة العقل الخالدة، وأنه أوشك أن يقنع نفسه بأنه يفتح شقته للأفراح البريئة والخير! وسأله عبده بدران: على أي وجه سينتهي الموقف يا أستاذ؟

فضحك حسني عاليًا، وقال: السؤال الخالد! ماذا يمكن أن يقال؟ فلننتظر.

– ولكن الموت لا ينتظر.

– إنه سباق ونحن لا نموت وحدنا!

وعند ذلك تساءل عشماوي: وهل أولاد الأغنياء يُقتلون أيضًا؟

فلم يتمالك حسني نفسه من الضحك، وقال: ولكن التجنيد لا يفرق بين غني وفقير يا عشماوي!

فهز رأسه في ارتيابٍ وعاد يسأل: وهل يرسلونهم حقًّا إلى الجبهة؟ قلبي يحدثني بغير ذلك!

– لا تصدق قلبك يا عشماوي.

وعكف على النارجيلة. وقال لنفسه: إن جلسة الليلة خسرت هدوءها العتيد، وإن الحزن فيها امتزج بالضحك، وإن الهزيمة مُرة وعواقبها تنتقل من مركزٍ إلى مركز في المخ، ولكنها لن تُمحى، وإن جبلًا شامخًا انهار، وتبدد حلمٌ عجيب، وإن خير ما يريح به نفسه أن يترك الأمانة لحامليها. وساءل نفسه وهو ينفث الدخان من فيه وأنفه أين يجد مكانًا لا يتردد فيه ذكر الحرب؟!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(٩)

جمعت الشرفة المطلة على النيل الصديقات الثلاث: عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران. وكان الخريف يبث في الجو برودةً لطيفة، ويزين سماء الأصيل بسحبٍ ناصعة البياض. وقد لبت عليات وسنية دعوةً عاجلة إلى مسكن منى بالمنيل، فتوقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة. وهن صديقات حميمات منذ الدراسة الثانوية، وتمتاز منى بجمالٍ رائق يتمثل في بشرتها الضاربة للبياض وعينيها السوداوين الجذابتين، وقامتها الرشيقة المائلة للطول، كما تمتاز بأسرتها المتوسطة ذات الدخل الموفور — الأب مدير إدارةٍ قانونية، والأم ناظرة مدرسة متقاعدة باختيارها — فضلًا عن أنها موظفة بالسياحة منذ عام. وكان لها شقيقان أحدهما مهندس في بعثة بالاتحاد السوفيتي، والآخر طبيب بالمنوفية، ويتوقع اختياره في بعثةٍ قريبة، ولذلك كانت طموحة تداعبها الأحلام ولا تستقر. وكان مسكن منى يذكر عليات وسنية بمسكن الأستاذ حسني حجازي، رغم الفارق المحسوس بينهما، ولكن الحسد لم يتسلل إلى نفسيهما بفضل العلاقة الحميمة الحارة. وقد توقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة، ولكن منى قالت باقتضابٍ مثير: فسخت خطوبتي قبل أن تعلن!

انزعجت الفتاتان حقًّا، وقالت عليات: غير معقول!

وقالت سنية: أي خبر!

وكانت منى قد قدمت لهما — منذ شهر — في دار الشاي الهندي شابًّا يدعى سالم علي، قاضٍ بمجلس الدولة، باعتباره الصديق والخطيب المنتظر، ولذلك توقعتا من وراء الدعوة العاجلة أخبارًا جديدةً سعيدة لا هذا الخبر الأسيف. وقالت سنية وهي تهز رأسها هزة ذات معنًى: وطبعًا كنت أنت البادئة؟!

فقالت منى بتحدٍّ: ظنك صادق دائمًا معي!

– ولكنه شابٌّ جذاب وذو مركز يا منى؟

وقالت عليات: وكان واضحًا أنه يحبكِ، وأنكِ تبادلينه الحب.

عند ذلك تململت من الضيق، وربما من عاطفة لم تستطع بعدُ أن تقتلعها من أعماقها، فثبت لهما أنها إنما دعتهما لحاجتها إلى الأنس والعزاء، ولكنها قالت بنبرةٍ لم تخلُ من حدة: عرفت عن يقين أنه يقوم بتحرياتٍ عني!

وساد الصمت حتى قالت سنية: أهذا ما أخذتِه عليه؟

– وهو كافٍ وفوق الكفاية.

فقالت عليات: أراهن على أنه فعل ما فعل بحسن نية!

– أنا لا أتهمه بسوء النية، ولكن بسوء العقلية أتهمه!

ثم مستدركة بانفعالٍ شديد: ولم أتردد فواجهته بالتهمة، تلعثم وحاول أن يفسر سلوكه بغير بواعثه الحقيقية، ولكني رفضت تفسيره وطالبته باحترام نفسه، فاعترف واعتذر بسخافاتٍ لا أذكرها، ولا أحب أن أذكرها فلم أقبل عذره، وقلت له ولم لا تسعى إلى الزواج عن طريق خاطبة، وسألتُه عما يريد معرفته عني أكثر مما يعرف، أو مما يمكن أن يعرف بالاتصال المباشر وبالحب المزعوم، قال إنه بريء، وإنه يحبني، وإن سمعتي نقية مثل الورد فضحكت ساخرة، وقلت له إني أحتقر تحرياته، وأحتقر النتائج التي وصل إليها، وإنه خدع، أو إنه لم يحسن التحري. وقلت له ماضيَّ ملكي وحدي كما أن ماضيه ملكه وحده، وإنني أرفض كافة أنواع العبودية في أي زيٍّ تزيَّت، وبأي اسمٍ تحلَّت، وإنه لا يصلح لي كما لا أصلح له!

وسكتت وهي تلهث، والغضب يرتعش في شفتيها، ويدلهمُّ في عينيها. وبدا أن صديقتيها لا تؤيدانها في موقفها، وإن شاركتاها في الإحساس والرؤية. تساءلت عليات: ألم تبالغي يا منى؟

وقالت سنية: هي تقاليد بلادنا!

فهزت منى رأسها بعنادٍ وقالت: إني أرفض ذلك كله!

فقالت سنية: إنهم معقدون، ويحتاجون إلى ترويضٍ طويل.

وقالت عليات، وكأنما تتم الكلام: لا إلى التحدي.

فقالت منى بعجرفة: أفضل أن أبقى بلا زواج إذا كان الثمن كذبةً سخيفة وجراحةً دنيئة!

فقالت عليات: ولكن ظروفنا حرجة كما تعلمين.

– لا يمكن أن أتهاون في مبادئي وأخلاقي.

أجل فهي معروفة بأخلاقياتها، وهي لم تمارس الجنس إلا بدافعٍ من الحب، ولم تضطر — مثلهما — إلى ممارسته في أحيانٍ كثيرة لاقتناء ما يحتاجان إليه من ملابس وأدوات زينة وكتب. ولعلها كانت تحتقر سلوكهما وإن عطفت عليه من أعماق قلبها المحب. وقد تابعت خطوات خطوبتهما، وما اقتضته من شهادات الزور والأكاذيب وغير ذلك، ولم ترتحْ لشيءٍ منه وإن تعزت بأن جميع تلك السخافات إنما ارتكبت باسم حبٍّ حقيقي. وكانت محاولة إثنائها عن موقفها ميئوسًا منها لما تعرفان من عنادها وكبريائها ومثالياتها، فسلمتا بالواقع في حزنٍ وكآبة. وقالت لها عليات: أنتِ يا منى جميلة وممتازة وجديرة حقًّا بزواجٍ سعيد!

فسألتها منى: ترى هل تطمئنان إلى مستقبلكما القائم على كذبةٍ كبيرة؟

فقالت سنية: إنه يقوم على الحب.

أما عليات فقالت بقلق: إن رجلًا مثل حسني حجازي خليقٌ بصون سرنا.

فقالت منى: حسني حجازي لا نتوقع منه الخيانة.

فعادت عليات تقول: أحيانًا أتذكر المصادفات المرعبة التي تقلب الأمور في السينما!

فقالت سنية بقوةٍ متحدية: لم يكن في وسعنا أن نفعل خلاف ما فعلنا وعلينا أن نواجه مصيرنا.

وفجرت الزيارة في نفس عليات وسنية دوامات من القلق، ولكن استقر في أعماقهما في النهاية قول سنية: «علينا أن نواجه مصيرنا.»
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١٠)

لم تسعد منى بانتصار كبريائها، أو لم تسعد كما قدرت، وفي أوقات انفرادها بنفسها غزتها الكآبة كالغبار. خافت أن ترتكب حماقاتٍ بلا نهاية. اعترفت لنفسها المتمردة بأنها ما زالت تحب سالم على رغم حماقته وسخافاته. أدركت أنها تقف حيال مشكلة، وأن المشكلة تتطلب على أي حالٍ حلًّا. وجاء شقيقها الدكتور علي زهران إلى القاهرة في إجازةٍ، فسُرَّت بحضوره وقصت عليه تجربتها الفاشلة. وأسف الرجل، ولكنه كان مستغرقًا بهمومٍ طارئة، فقال لها: إني أفكر في الهجرة!

فدهشت منى وتمتمت: الهجرة؟!

– الحق أني جاوزت مرحلة التفكير، فاستقر رأيي على الهجرة.

– ولكنك تنتظر فيما أعلم بعثةً علمية؟

– لم ألقَ إلا المماطلة، ففكرت في الهجرة، ثم استقر رأيي عليها.

– وكيف يتم لك ذلك يا أخي؟

– إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات، وسوف أرسله إلى زميلٍ مهاجر بالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات، وبعض المراكز الطبية، ومن ثم أنتظر أن أُدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط.

فشهقت بقوةٍ من شدة الانفعال وقالت: أهاجر معك!

ثم بثقة: إني متخصصة في الإحصاء، وأتقن الإنجليزية.

فابتسم الدكتور وقال: لأن نهاجر اثنين خير من أن أهاجر وحدي!

وعارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة ما دام للشقيقَين مستقبلٌ مرموق في مصر، فقال الدكتور لوالديه: البلد بات مقرفًا.

وقالت منى: وهو لا يطاق.

وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية، ولكن الدكتور علي قال بجرأةٍ عدها الأب قاسية: لم يعد الوطن أرضًا وحدودًا جغرافية، ولكنه وطن الفكر والروح!

وتألم الأب الذي ينتسب إلى جيل ١٩١٩؛ جيل الوطنية المصرية الخالصة، واستمع إلى ابنه بانزعاجٍ، فخيل إليه أنه يطالع ظاهرةً غريبة تستعصي على الإدراك والتفسير. وكان يسلم بأنه لا يستطيع أن يثنيهما عن عزم إن اعتزماه، فتساءل في جزعٍ كيف يمكن أن يحتمل الحياة بدون وجودهما معه في وطنٍ واحدٍ على الأقل! وكانت منى تحب أباها كثيرًا، ولكنها لا تكاد تتفق معه في رأي، وعجبت كيف أن هزيمة ٥ يونيو فجرت وطنيته من جديد، فعادت سيرتها الأولى على حين أنها منيت بخيبةٍ شاملةٍ تدفعها باستمرارٍ إلى تغيير جلدها خليةً خلية. وهو ما حصل لعليات وسنية وغيرهما، وما حصل لشقيقها. وقالت مخاطبة الدكتور: إننا نحيا بلا هدف!

فقال لها بامتعاض: وأنا أحيا بلا حياة!

– يجب أن نهاجر.

– سنهاجر عند أول فرصة.

واعتبرت منى نفسها سائحةً عابرة، فشعرت براحةٍ نفسية لم تشعر بها مذ قطعت علاقتها بسالم علي. وسرعان ما ذاع الخبر بين صديقاتها وزميلاتها، وفي الأوساط التي تنتقل فيها. وراحت تحلم بحياةٍ جديدةٍ نقيةٍ توفر للفرد سبل التقدم والازدهار والأمن. وكانت عائدة من مكتبها عصرًا عندما وجدت أمامها سالم علي في ميدان طلعت حرب. لم تكن مصادفة، ولم يحاول ادعاء ذلك، ولكنه مدَّ لها يده، وهو يقول: علمت أنك ستهاجرين إلى الولايات المتحدة، فعزَّ عليَّ ألا أودعك.

فصافحته ببرود أخفت به انفعالها، وقالت: أشكرك.

ومضت في سيرها، فسار إلى جانبها فرمقته باحتجاجٍ، ولكنه تجاهلها، فعادت تقول: قلت أشكرك!

فقال بهدوء: ولكني لن أترككِ.

فسألته بالبرود نفسه: لماذا؟

فقال وكأنه يعترف: وضح لي أني أحبك، وأنني لم أستطع الإقلاع عن الحب.

ووجدت أنها سعيدة لدرجةٍ فاضحة، فغضَّت بصرها وهي تقول: ولكنني وُفقت في ذلك.

– إذن فلنذهب إلى دار الشاي الهندي.

وسارا جنبًا لجنب، وقد انقلبت أحلامها رأسًا على عقب، فقال وهو يتنهد في ارتياح: الحب أهم شيء في الدنيا!

ثم بارتياحٍ أعمق وشى بما عاناه من عذاب: إي والله، الحب أهم شيء في الدنيا، وكل ما عداه باطل!

ونظر إليها متسائلًا: هل ستهاجرون حقًّا؟

فأجابت بفتور: نعم.

– ليتني أستطيع الهجرة أيضًا.

فسألته باسمة: وماذا يمنعك؟

– تخصصي لا يؤهلني لها.

ثم وهو يضحك: لا مفر من البقاء في مصحة الأمراض العقلية.
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١١)

في قرارٍ واحد أصبح مرزوق أنور وخطيبته عليات عبده موظفَين في الحكومة؛ تعينت هي في وزارة الشئون الاجتماعية، أما هو فتعين في المنطقة التعليمية ببني سويف. تكدرت فرحة التعيين، وأطل شبح الفراق على الحبيبَين وتساءلا: كيف يجتمع شمل عروسَين واحدة في القاهرة والآخر في بني سويف؟ وذهب مرزوق إلى محطة مصر، فصحبه أبوه وعليات، وجلسوا حول مائدة في البوفيه، حتى يأزف ميعاد قيام قطار الصعيد. كان الأب في الستين، ولكنه بدا أكبر من عمره بعشرة أعوام على الأقل، وكان ممن يأخذون الأمور بتسليمٍ وبساطة، كما كان يعتبر ابنه من «المفقودين» على أي حالٍ، سواء أبقي في القاهرة أم رحل إلى أسوان. لذلك شجعه طيلة الوقت، وضرب له مثلًا بحياته هو في الثلاثينيات — سنوات الأزمة الاقتصادية — عندما تقاذفته بلدان القطر، والإفلاس يطارد التجار، ويصفي المحالَّ التجارية واحدًا بعد آخر. ومالت عليات نحوه، وسألته همسًا: أتعرف ذلك الرجل الذي يجلس أمامنا؟

فنظر نحو الأمام، فرأى رجلًا جالسًا، يدخن غليونًا، ويتفحصه بنظرٍ ثاقبٍ غير هياب، فقال على الفور: كلا.

لم يكن يعرفه، ولكن خيل إليه أنه لا يراه لأول مرة، فمتى رأى هذا الوجه شبه المربع الريان، وهاتين العينَين البراقتَين، وهذين الحاجبَين الكثيفَين، وهذا الرأس القوي الأصلع؟ وهمست عليات مرةً أخرى: إنه لم يحول عنك عينَيه طوال الوقت.

ولا بد أنه يريد أن يحولهما عنه بعد أن تنبه إلى نظراته. ولم يقنع بذلك، فقام بهدوءٍ وتقدم خطواتٍ، ثم وقف أمامهم، وأحنى رأسه تحية، وقال يقدم نفسه: محمد رشوان .. مخرجٌ سينمائي.

فقام مرزوق أنور بدوره، أحنى رأسه وقال: مرزوق أنور .. موظف .. تشرفنا يا فندم.

فسأله وهو يواصل فحصه: أليس لك تجربةٌ سابقة في فن التمثيل؟

فأجاب مرزوق بدهشة: كلا.

– ألا تحب أن تجرب نفسك؟

فضحك مرزوق رغم توتر أعصابه، وقال: لم يخطر لي ذلك ببال.

فقال وهو يهزُّ رأسه هزة خبير: عندي لك دور بطولة.

فهتف مرزوق في ذهول: بطولة!

– كنت مشغول البال بحثًا عمن يلعبه، فلما وقعتْ عليك عيناي وجدتُ ضالتي ماثلة أمامي، فما رأيك؟

فقال مرزوق بصوتٍ متهدج: أمهلني قليلًا.

وقال الأب: إنه في طريقه لتسلُّم وظيفته الجديدة!

وسألته عليات: هل يضمن بهذا الدور عملًا ثابتًا؟

فقال محمد رشوان: عندي له أكثر من دور بطولة وأنا أتنبأ له بالنجاح.

فقالت عليات: ولكنه لم يسبق له أن مارس التمثيل!

– هذا أفضل، سيخرج من تحت يدي كالجنيه الذهبي!

وكان رأس مرزوق قد دار وثمل، فقال متخذًا قراره: موافق!

فقال له أبوه: فكِّر قليلًا يا بني.

ولكنه قال بإصرار: موافق وسأجرِّب حظي!

وأعطاه محمد رشوان بطاقته وهو يقول: تقابلني غدًا في هذا العنوان في العاشرة صباحًا، عندك تليفون؟

فهزَّ مرزوق رأسه نفيًا، فقال: ودورك جديد في الواقع، دور شابٍّ جامعيٍّ مجند، يزور القاهرة في إجازةٍ قصيرة، فتقع له أحداثٌ هامة، وتحبه سيدةٌ مجهولة الجنسية، وتدعوه للهرب معها.

فتساءل مرزوق: وهل يهرب معها؟

– هذا ما سيجيب عنه الفيلم، والمهم أن تبقى الحال على ما هي عليه، حتى يعرض الفيلم.

– أي حالٍ تقصد؟

– أقصد الموقف في الجبهة.

فسأله الأب: وهل تتوقع أن يتغير الموقف قبل ذلك؟

– المنتج يؤكد أن الموقف سيبقى على ما هو عليه أعوامًا .. أما …

فتساءل مرزوق: أما؟

فضحك محمد رشوان، وقال: أما إذا انهزمنا مرةً أخرى، أو حتى إذا انتصرنا، فستكون العواقب وخيمة على الفيلم وصاحبه!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١٢)

التقى مرزوق بالسيدة المجهولة الجنسية. كانت تطارده وهو لا يدري، ولكنها تظاهرت بالبرود، وسألته سؤالًا عابرًا، وأجابها بأدبٍ وبلا اهتمام أولًا، ثم جذبه بغتةً جمالها المضيء، فصعق تمامًا. وكان يرتدي بدلته العسكرية، وتتجلَّى البراءة في عينَيه.
ووقف وراء الكاميرا ضمن نفر من المراقبين عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران وإبراهيم عبده وسالم علي. حتى التنفس مارسوه بحذر؛ فسادَ الصمت، وشمل كل شيء، ولم تدب الحياة إلا تحت الأضواء الباهرة داخل البلاتو. ولما أعلن محمد رشوان انتهاء اللقطة خرج الممثلان من دورهما وردَّت الروح إلى الواقفين وراء الكاميرا، فقالت منى زهران: إنه ممثلٌ أصيل.
وقال إبراهيم عبده: شيء لا يصدَّق!
وعبثًا حاولت عليات إخفاء توتر أعصابها، والفرحة التي انطلقت في حنايا قلبها. وأقبل مرزوق نحوهم، فصافحهم وعانق إبراهيم. ووقف أمام إبراهيم في زيٍّ عسكري واحد يتبادلان النظر والابتسام. وقالت عليات مخاطبةً أخاها إبراهيم: إنه يلعب دورك في الفيلم.
وتفحَّصه إبراهيم بعنايةٍ وقال: ولكنك أنيق كضابط.
فقالت سنية ضاحكة: لأنه يمارس الحب لا القتال.
فسأله إبراهيم: وهل يمتد دورك إلى الجبهة؟
فأجاب مرزوق: أجل، قرأته في السيناريو، وهو يصوِّر بطولةً خارقة.
فضحك إبراهيم ولم يعلق بحرف. وجاء المخرج محمد رشوان، فصافح الجميع. وكان قد عرف عليات وسنية من قبلُ، فتعرف بمنى زهران وخطيبها سالم علي. وكان يتفحص الوجوه كما يتفحص الصائغ الحلي. واقترب من إبراهيم وقال له: سنحتاج إليك في بعض المعلومات الضرورية.
فتساءل إبراهيم ضاحكًا: تقصد بعض الأسرار؟!
– كلا .. إنما ما يُسمح بتصويره.
– ليس كل ما يسمح بتصويره مما يحسن تصويره!
فقال محمد رشوان: إنما هدفنا أن نحيي بطولتكم!
ثم التفت إلى منى زهران، وسألها: ألا توافقين على ذلك؟
فهزَّت رأسها بالإيجاب. ثم عاد إلى إبراهيم وقال: كلنا جنود، ولكن تختلف الميادين!
فضحك إبراهيم بفتور وقال: ولكننا نقاتل وأنتم تمثلون!
وضحك الجميع. وأزف وقت تصوير لقطةٍ جديدة، فذهب مرزوق ومحمد رشوان. وعند ذاك قالت منى زهران: هذا المخرج لا يوحي بالثقة!
فقالت عليات: ولكنه ذو فراسةٍ مذهلةٍ ومقدرةٍ خارقة.
فلوت منى شفتَيها، وقالت: إني على خلاف الكثيرين أحترم الأفلام الهزلية!
فسألها سالم علي: لماذا يا عزيزتي؟
– هي على الأقل صادقة!
فضحك إبراهيم في مرحٍ صافٍ لأول مرة وقال: صدقتِ.
ثم همس في أذن سنية خطيبته: كدت أفقد حياتي أمس مرتَين!
فقبضت على كفه بحنانٍ وهمست: لا سمح الله!
عكست عيناها الخضراوان نظرةً ساهمة. وسألت علياتُ منى بمرحٍ عابث: متى تهاجرين؟
فأشارت منى إلى سالم وقالت: هذا الرجل هو المسئول عن فشل المشروع.
فقالت له عليات: نحن مدينون لك بالشكر.
فقالت منى: الهجرة على أي حال سُنَّة!
فسألها إبراهيم: ولو كانت إلى الولايات المتحدة؟
فأجابت بتحدٍّ: ولو كانت إلى الجحيم!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١٣)

في زيارةٍ طارئة تلاقت عليات وسنية مع منى زهران في مسكنها بالمنيل. لم تكن زيارةً عادية، أو هذا ما قرأته منى في عينَي صديقتها. وقالت عليات: لدينا رسالةٌ هامة!
فأثار ذلك حب استطلاعها إلى أقصى حدٍّ، وتساءلت: أي رسالة؟ وممن؟
– من مرزوق أنور.
– الفنان الكبير؟!
فقالت سنية: محمد رشوان المخرج يرغب في مقابلةٍ خاصة.
فذهلت منى واتسعت عيناها، ولم تدرِ ماذا تقول، فقالت عليات: إنه يفتح لكِ دنيا الكواكب والنجوم!
وقالت سنية: وإن أردتِ الحق فكأنكِ خلقتِ لذلك.
وتفكرت منى وهي في غاية الانفعال، وتمتمت: لم يجرِ لي ذلك في خاطر.
فقالت عليات: ولا كان جرى في خاطر مرزوق.
– أودُّ أن أستأنس برأيكما!
فقالت عليات: جربي حظك بلا تردد.
وقالت سنية بتوكيد: بلا تردد.
– ولكنني لم أجرب هذا الفن من قبلُ.
فقالت سنية: الحب قد يسبق الفن، وقد يلحق به، لا أهمية لذلك!
وفي الساعات القلائل التي تلت المقابلة جعلت تفكر في الأمر، فاجتاحتها فكرته، ووقعت أسيرة لسحره. وتلفنت لسالم علي أن يقابلها في دار الشاي الهندي، ولما أخبرته بما اعتزمته ذُهل الشاب وصُعق وقال: لا شك أنها دعابة!
فقالت بتوكيد: بل إنني أعني ما أقول تمامًا.
فهتف بيأس: ممثلةٌ سينمائية!
فقطبت متسائلة: ولمَ لا؟
فقال بغضب: لا!
– ولم تعجبها لهجته وأشعل غضبُه كبرياءها؛ فقالت: لا أقبل هذه اللهجة!
– وأنا أرفض الفضيحة.
– فضيحة! أنتَ … أنتَ …
فقاطَعها بحدة: لقد قبلتُ من أجلك ما لا أستطيع تجاوزه بخطوةٍ أخرى واحدة!
فصاحت: أنت تمنُّ عليَّ بذلك!
– إني أعني تمامًا ما قلت!
فاصفرَّ وجهها وقالت بانفعالٍ شديد: كفى .. كفى .. أرجوك .. لا ترني وجهك بعد الآن!
فقام وهو يقول: أنتِ معقدة ومجنونة!
وفسخت الخطوبة للمرة الثانية.
واستجابةً لانفعالها الشديد، فضلًا عن رغبتها الأصلية، سعت إلى مقابلة محمد رشوان. زارته بصحبة مرزوق أنور، في مكتبه بشارع عرابي. ورحب بها بحرارة وجلس إلى مكتبه وهو يقول: إنهم يسمونني يا آنسة منى كولمبس؛ لكثرة ما اكتشفتُ من نجوم وكواكب، ولم تخب نظرتي مرةً واحدة، فأبشري مقدمًا بالنجاح!
فأشار مرزوق إليه، وقال لها: إني أُومن بهذا الرجل!
وعاد محمد رشوان يقول: إني أرشحك لبطولة فيلم أعتزُّ به جدًّا، هل تغنين؟
فأجابت بحياء: كلا.
– لا يهم، ممكن الاستغناء عن الغناء، ولكنني لن أفرغ للفيلم الجديد قبل ستة أشهر.
فقال مرزوق: وهي فرصة لإجراء الاختبارات الضرورية والدعاية اللازمة.
– برافو مرزوق! وإذن فقد تم الاتفاق على كل شيء.
وعقب مرور يومين على المقابلة استدعاها المخرج تليفونيًّا إلى مكتبه. وفي ذلك الاجتماع الذي اقتصر عليهما، التقط لها بعض الصور الفوتوغرافية، وأجرى لها بعض الاختبارات الصوتية، كما دعاها إلى تمثيل موقفٍ درامي من أحد أفلامه. وطيلة الوقت شجعها بابتسامةٍ لطيفة فأنست إليه، وخفق قلبها بالامتنان. غير أنها لم ترتحْ إلى نتائج الاختبارات رغم تشجيعه الودود. ومالت إلى الاعتقاد بأنها لم تخلق لهذا الفن، وأن أي اجتهاد تبذله فيه مصيره الضياع. ولم تخفِ عنه مخاوفها، فقالت: إني غير راضية عن نفسي!
– هذا بالحرف ما قالته فتنة ناضر عن نفسها في أول اختبار.
فعاودها شيء من الأمل في صورة ابتسامةٍ حلوة، فقال: وفتنة ناضر في الأصل جامعية مثلك، وهي اليوم جوهرةٌ غالية في دنيا الفن!
وتعددت اللقاءات وتكررت الاختبارات. ومضى أكثر الوقت في أحاديثَ عامة عن الفن والحياة. ولاحظت منى أن الأمية تغلب على تفكيره رغم شهرته ونجاحه، وأنه كان يمكن استساغته بشيءٍ من التساهل، لولا غروره الهرمي الذي لا يُحتمَل. ولاحظت أيضًا أنه يعجب بها أكثر مما يعجب بفنها. بل باتت تؤمن بأنه لا يكترث لفنها على الإطلاق، وأن المسألة من أولها لآخرها مجرد شَرَك. وعند ذاك تجمَّعت في صدرها أبخرة الغيظ والغضب وخيبة الأمل. ولما قال لها وهو يظن أنه آن له أن يمد يده لجني الثمرة: جو المكتب غير مناسب لهذه الأحاديث الطلية، فأنا أدعوكِ للعشاء!
لما قال لها ذلك أدركت ما يعنيه، وهي تشعر بالغثيان. أما هو فاستمر يقول: يجب أن تري عشي الخلوي بالعامرية!
وأحسَّت بأنفاسه المشبعة بالتبغ، وهي تتردد على خدها، فثار غضبها، ولطمته على وجهه!
تراجع في وقفته حتى استقام عوده، وتحجرت نظرته وانتفخ خداه بالغضب، وبسرعة هوى على خدها بكفِّه الغليظة، فترنحت وتهاوت على الأرض. وصاح بها: تظنين أنك امرأة لا يجوز مسها في عرف اللياقة العصرية، يا خنزيرة يا بنت الخنزيرة!
قامت مشعثة الشعر، ورأسها يدور، وهي لا تصدق، فصاح بها مرةً أخرى: اخرجي يا عاهرة، وقُصِّي هذه القصة على أمك!
ما زال رأسها يدور، وتناولت حقيبتها، وسوت شعرها، ومضت نحو الباب، وصوته يتبعها قائلًا: دعوتي للعشاء ما زالت قائمة، وتحياتي لأمك!
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١٤)

ثار سالم علي ثورةً جامحة تخطت جميع الحدود. صمم على نبذ منى واحتقارها، واعتبرها فتاةً مجنونة، وأن من حسن حظه حقًّا أنه عرفها على حقيقتها قبل أن يتورط في الزواج منها. ولم يقتنع شقيقه الأصغر حامد بثورته، فقال له: ما زلتَ تحبها يا أخي.

فصاح بغضب: أبدًا، وسوف تعرف ذلك بنفسك.

وكان حامد يحب شقيقه، ويؤمن بأنه يفهمه، فقال: أنت يا أخي برجوازي، ويناسبك الزواج البرجوازي!

فتضاعف غضب سالم، وقال: عيبكم الأساسي هو تعلقكم بالمصطلحات، انتظر وسوف ترى!

فقال له بإشفاق: إن مركزك القضائي …

ولكنه قاطعه: انتظر وسوف ترى!

وعاد إلى بؤرةٍ قديمة كان هجرها مذ عرف منى زهران. ذهب إلى ملهى «مركب الشمس» بالهرم، وهو نصف ثمل. وانزوى في الحديقة رغم برودة الجو، وطلب من النادل أن يدعو سميرة لمشاربته. وسميرة كانت صديقته، وهي راقصة من الدرجة الرابعة ترقص ضمن مجموعة في خلفية المسرح عندما يغني مطرب بالملهى. وهي في الخامسة والثلاثين، وبها مسحة جمال، وجسمها أجمل من وجهها، ورخيصة الثمن نسبيًّا، وقد دهشت لعودته عقب غياب استمر أكثر من نصف عام، فتظاهرت بغضب لا أساس له، وقالت له: رجعت يا خائن!

وراحا يشربان. ولاحظت أنه — بخلاف عادته — يشرب بإفراط. وكانت ترتاح إليه؛ لأنه مهذب، ولأنه يملك سيارةً صغيرة، وأخيرًا لأنه كريم. وقالت له ضاحكة: أنت تشرب كالوحش.

فقال لها: سأنتظرك آخر الليل.

ومع أنها رحبت بذلك في أعماقها، إلا أنها قالت متسائلة مع رغبة في تأديبه: كلا!

وتبادلا نظرةً طويلة، ثم قالت: مرتبطة الليلة.

فهتف بضجر: كلا!

– كلا!

– كيف حال بنتك الصغيرة؟

– مع أمي كما تعلم.

فأفرغ كأسه، وقال: عندي فكرة لا بأس بها …

– فكرة؟!

فتريث قليلًا؛ لأنه شعر رغم سكره بأنه مقدمٌ على أخطر خطوة يتخذها في حياته. وغضب لتريثه، فقال: أرغب يا سميرة في أن نعيش معًا!

فتفكرت قليلًا، ثم تمتمت: فيها قولان!

– ولكنكِ لم تدركي مقصدي!

– أعتقد أنه واضح.

فقال وهو يركز عينيه في كأسه: أريد أن أتزوج منكِ!

فطالعته بإنكار، ثم قالت بحدة: أنت سكران!

– بل رجعتُ إليك لتحقيق ذلك.

فجعلت تنظر إليه في ريبة، فقال: ما قولك؟

– أفق!

– الليلة إن أمكن!

ثم وهو يتناول يدها: ستبقى الصغيرة عند والدتك، ولكني سأرتب لها مصروفًا معقولًا، لستُ غنيًّا ولستُ فقيرًا.

فتساءلت بدهشة: أأنت جاد حقًّا؟

– هيا بنا في الحال إن شئت!

فضحكت وسألته: ماذا جعلك تقرر ذلك؟

– أريد أن أستقر، أستقر مع امرأةٍ معقولة بلا خداع، فهل أنتِ على استعداد لنسيان الماضي، وبدء حياةٍ جديدة؟

فضحكت ضحكةً عصبية، وقالت: لا يوجد مأذونٌ مستيقظ في هذه الساعة!

فقام وهو يقول: لا أهمية لذلك ما دام سيستيقظ في الصباح الباكر.
 
Comment

الشارد

"حرف من نور "
نجوم المنتدي
إنضم
14 نوفمبر 2022
المشاركات
14,981
مستوى التفاعل
11,400
العمر
35
الإقامة
هُنَاك وحدى . . !
مجموع اﻻوسمة
6
☂☁ الحب تحت المطر☇

(١٥)

كان الدكتور علي زهران يرنو إلى شقيقته منى بحزن. كان باطنه يغلي، ولكن لم يبدُ في وجهه إلا الحزن. قال لها: أنت يا منى فتاةٌ ممتازة، وأنا لا أتصور ذلك.

فقالت بأسًى: لننسَ ذلك.

– ولكني أشعر باللطمة فوق وجهي!

– خير من ذلك أن تحدثني عن مشروع الهجرة.

– الهجرة!

ثم بفتور: الإجراءات طويلة، ولكني أنتظر.

– لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر.

فقال وباطنه ما زال يغلي: عيبكِ أنك شديدة الحساسية، ما كان يجب أن تقطعي رجلًا مثل سالم علي في لحظة غضب!

فقالت بنبرة تشي بالدمع النابع من جذورها: لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر!

– رجلٌ ممتاز ويحبك.

– دعنا من تلك السيرة!

– إنني أتساءل أحيانًا لماذا نعتبر أنفسنا على حق دائمًا؟

فقالت باسمة: لأننا على حق.

– الهزيمة زلزلتنا.

– ونوَّرتنا.

– أتسمحين لي بالاتصال بسالم علي؟

فانتترت قائمة في فزع، وقالت: كلا.

– فكِّري قليلًا.

– كلا.

– ألا تريدين أن …

فقاطعته بحدة: أريد أن أهاجر.

وهزَّ منكبَيه، ثم ودعها وغادر البيت. مضى إلى صيدلية واتصل تليفونيًّا بمكتب المخرج محمد رشوان سائلًا عنه، فكان الجواب أنه يعمل في استوديو مصر. وحاول الاتصال بالاستوديو، ولكن الرقم ظل مشغولًا، فاستقلَّ سيارته، وانطلق بها بسرعة إلى الاستوديو. وهناك — وكانت الساعة العاشرة مساءً — علم بأنه غادر الاستوديو، وأخبره موظف أنه ذهب إلى «جاميكا» لتناول العشاء. ووجه سيارته إلى جاميكا بالطريق الصحراوي. ومضى يجوب حديقتها، ويتفقد البهو، ولكنه لم يعثر له على أثر. وقال له المدير: إن الأستاذ لم يحضر بعدُ، فمضى يتمشى أمام المطعم. وحوالي الحادية عشرة وقفت سيارة في الموقف أمام المطعم، وتركها رجلان، فأشار البواب إلى أحدهما، وقال للدكتور علي: ها هو الأستاذ محمد رشوان!

كان يتقدم مرزوق أنور بخطوات، ويسير على مهلٍ وهدوء وفي خيلاء بجاكتته الجلدية الطحينية وبنطلونه الكحلي. اتجه الدكتور علي زهران نحوه في هدوء أيضًا على ضوء المصباحين المغروسين في أعلى المدخل، فالتفت الرجل إليه في غير اهتمام، ولعله توقع أن يسمع كلمة إعجاب أو اقتراح من نوعٍ ما يتصل بعمله. ودون أن يتفوه الدكتور بكلمة ركله في بطنه بكل قوة عضلاته وأعصابه. انطلق من فم محمد رشوان خوار. حملقت عيناه، ثم تهاوى ساقطًا على وجهه. حدث ذلك بسرعةٍ خاطفة، حتى ذُهل مرزوق أنور، فتجمد كتمثال. وخرج من ذهوله صائحًا: أنت مجنون؟

وأقبل البواب مهرولًا، وتجمع بعض سائقي السيارات. أحاط بعضهم بالدكتور علي، وانحنى الآخرون على الأستاذ الملقى.

وصاح الدكتور علي زهران يخاطب الرجل الملقى أمامه: أنا شقيق منى زهران يا وغد!

فانقضَّ عليه مرزوق أنور، حتى قبض على عنقه وهو يهتف: أنت مجنون! لن تفلت من يدي!

فنزع يديه بغضبٍ، وهو يصيح: إنه وغد يستحق التأديب!

وارتفع صوت من بين العاكفين على الرجل الملقى وهو يقول: مات الرجل .. اقبضوا على القاتل!
 
Comment
أعلى