محمد بن عبد الكريم الخطابي.الذي علم العالم أساليب حرب العصابات
محمد بن عبد الكريم الخطابي.. بطل المغرب الذي علم العالم أساليب حرب العصابات
خلال فترة ثورة بوحمارة ذهب محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مدينة مليلية المحتلة، فرشحه الإسبان لتدريس اللغة الأمازيغية في الأكاديمية العربية، فتولى مهمة التدريس هناك من سنة 1907 إلى 1913. كما عرض عليه محرر جريدة “تلغراف الريف” (Telegrama del Rif) أن يكون مسئولا عن القسم العربي فيها، فقبل ذلك، وقد ظل يعمل بها من مارس 1907 إلى أبريل 1915[4].
وفي سنة 1908 تم تعيينه مترجما في مكاتب الشؤون الأهلية، وهو المكتب الذي كان يشرف ويدير العمل السياسي الإسباني في جميع أنحاء المنطقة الشمالية الشرقية من المغرب. وقد عمقت خطوته هذه من مشاكله الوجدانية، لأنه تحول بذلك من خادم لشعبه عبر خيرات إسبانيا –المدرسة والجريدة- إلى خادم لإسبانيا[5]. وفي سنة 1910 أصبح محمد بن عبد الكريم الخطابي قاضي مدينة مليلية، وفي غشت 1913 أسندت له مهمة القاضي الأول ورئيس مجلس الاستئناف لأحكام القضاء في المنطقة المحتلة. كما اختارته شركة عقارية في بلباو كرجل أعمال لاقتناء الأراضي في منطقة الريف المغربية.
وفي الوقت الذي كان فيه محمد بن عبد الكريم الخطابي يحصل على الإمتيازات الإسبانية وخدماتها، وكان يبرر سياسة إسبانيا في المغرب، فإنه في مقابل ذلك، كان يهاجم بشدة فرنسا وسياستها في المغرب؛ حيث كتب في “تلغراف الريف” في عدد 9 يوليوز 1911؛ بعد توغل فرنسا في الأراضي المغربية واحتلال عدد من المدن، قائلا: “هذه هي الدولة التي عزمت على ضم قطرنا العزيز إلى مستعمراتها الأخرى في إفريقيا وغيرها، هذه هي الدولة التي تصدرت للقضاء على العالم الإسلامي لتكن لهل عليها السيادة”[6].
إضافة إلى الوظائف التي شغلها محمد بن عبد الكريم الخطابي، حصل على المزيد من الامتيازات والترقيات والتشريفات:
دجنبر 1911، ونظرا لعمله التربوي، حصل على وسام إليزابيل الكاثوليكية من رتبة فارس؛
مارس 1912 قلد الوسام العسكري بالعلامة البيضاء لدوره الحاسم في إطلاق سراح أسرى إسبان لدى المقاوم الشريف محمد أمزيان؛
مايو 1912 توصل بنفس الوسام السابق بالعلامة الحمراء، ومنح معاشا بقيمة 50 بسيطة إسبانية. كما حصل على ميدالية إفريقيا.
ورغم هذه البحبوحة التي عاش فيها خلال هذه الفترة فإن ذلك لا يخلو من مرارة وغصة نظرا للرفض الذي يقابله به أصدقاؤه، وطرد والده من بلدته ونهب أملاكه من طرف الأهالي، وكذا بسبب خيبة الأمل التي أصابته جراء فشل إسبانيا في تحقيق أي إنجاز لصالح المناطق الخاضعة لها.
القطيعة بين محمد بن عبد الكريم الخطابي والإسبان
في شهر شتنبر 1915 صدر أمر اسباني بحبس محمد بن عبد الكريم الخطابي نزولا عند رغبة المارشال الفرنسي ليوطي المقيم العام الفرنسي بالمغرب، بسبب علاقاته مع الألمان الذين وعدوا محمد بن عبد الكريم بالدعم المادي، حيث طالبهم هذا الأخير بالمساعدة على إنشاء فرقة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل تحمي الريف من كل اعتداء، مقابل قيامه بمناوشة الفرنسيين[7]. كما عبر للإسبان صراحة عن معارضته لتوسيع مناطق النفوذ الإسباني في منطقة الريف، وأنه سيحول دون احتلالها لأراضي قبيلته بني ورياغل بجميع الوسائل. وإضافة إلى إحالته على المجلس العسكري للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، فقد قرر المفوض السامي الإسباني إقالته من جميع وظائفه. وألغى الراتب الشهري المخصص لوالده، والمنحة المقرر أن يستفيد منها أخوه امحمد من أجل متابعة دراسته في الهندسة بالعاصمة الإسبانية مدريد. وفي 23 دجنبر 1915 قرر مولاي محند الفرار من السجن باستعمال حبل شده إلى إحدى شرفات السجن، لكن الحبل انقطع، فهوى إلى خندق أصيب على إثره بكسر في ساقه، واستمر معه العطب طوال حياته.
وقد شكل اعتقال محمد بن عبد الكريم الخطابي، وما سبقه من تصريحات عبر خلالها عن موقفه وموقف عائلته من التحركات الاسبانية، منعطفا في علاقات إسبانيا مع عائلة الفقيه عبد الكريم الخطابي وولديه محمد وامحمد. فرغم الخدمات التي قدمها مولاي محند للإسبان فإنه “يحب بلاده، وإذا خدم إسبانيا فلأنه اعتبرها صديقة وحليفة، وبإمكانها مساعدة المغاربة على النجاة”[8].
ورغم اعتقال محمد بن عبد الكريم الخطابي، فإن الإتصالات بين والده والإسبان استمرت، على أمل إطلاق سراحه، وهو ما تحقق في بداية غشت 1916، كما عاد إلى وظيفته في مليلية المحتلة في 15 مارس 1917، وذلك بعد تعهده هو والده عبد الكريم بأن يتراجعا عن موقفهما وأن يتعاونا من جديد مع الإدارة الإسبانية مقابل أن تتعهد إسبانيا بتحسين وتغيير سياستها في المنطقة[9]. وقد استمرت هذه العلاقة بين العائلة والإسبان إلى يناير 1919 عندما التأم شمل العائلة في أجدير وامتناع الوالد عن إلتحاق ولديه محمد وامحمد بمليلية المحتلة ومدريد، رغم الإستدعاءات الإسبانية المتكررة لهما، متذرعا بالخوف من انتقام الريفيين منه، خصوصا وأن إسبانيا لم تحاول تغير سياساتها في المنطقة، بل بدأت سياسة التغلغل العسكري العنيف في المناطق التي لم تكن قد احتلتها بعد.
وتبقى من بين الصور الصادمة المؤثرة في محمد بن عبد الكريم الخطابي، منظر جنود إسبان مبتهجين يحملون في أيديهم رؤوس بعض المقاومين الريفيين، فقال: “انظر إلى أمارات الفرح التي تغمر وجوه هؤلاء، لتعلم يقينا أنهم كانوا يجدون سرورا عظيما في التمثيل بالأموات…وهل بمثل هذه الوسائل يريد الإسبان تمديننا وتعليمنا”[10].
معارك محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني
حركة تفرسيت:
كانت أول مشاركة عملية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي في العمل الميداني ضد إسبانيا من خلال مشاركته في حركة تفرسيت تحت قيادة والده عبد الكريم الخطابي. فقد تمكن هذا الأخير قبل نهاية يونيو 1920 من تكوين فرقة من المقاتلين الريفيين تحت وبمشاركة فاعلة من ابنه الأكبر محمد، واتجه بها نحو بلدة تفرسيت. وقد تم تكليفه ابنه محمد بجهاز الدفاع. وقد جاء هذا التحرك الأول من نوعه من قبل القاضي عبد الكريم وابنه الأكبر محمد، بعد عبور القوات الإسبانية وادي الكرت وبدأت في التغلغل غربا في اتجاه خليج الحسيمة، واحتلال القوات الإسبانية لدار الدريوش في 15 مايو 1920.
وبعد 22 يوم من المرابطة في تفرسيت، في منتصف شهر يوليوز 1920، بدأ الفقيه يعاني من ألم فظيع في بطنه. وبسب عدم توقف الأم اضطر ابنه محمد إلى العودة به محمولا على بغلته إلى منزله بأجدير . ولكن حالته لم تتحسن، وظل على حاله إلى أن مات مساء يوم 7 غشت 1920. وقد أثر غيابه على تماسك المقاومة مما سهل من احتلال تفرسيت في 05 غشت 1920[11]. أما محمد (مولاي محند) فقد أصبح بعد وفاة والده يمثل قبيلة بني ورياغل في المؤتمرات التي تعقدها القبائل من أجل تنظيم حركة المقاومة، فقد أصبح يتقمص دور والده في القيادة، وهذا ما سيتعزز في قيادته حركة المقاومة الريفية فيما بعد، كما أنه راسل سلفستري يدعوه إلى التوقف عن الحرب والتفاوض.
معركة معركتي أدهار أبران وسيدي إبراهيم
رد الجنرال سلفستري على دعوات وقف الحرب، بالإصرار على الزحف على الريف. فقد اعتقد على أن وفاة الفقيه عبد الكريم وسقوط تفرسيت وأربعاء ميدار وانقياد الزعيم الريفي بوشريف، ستعجل بانهيار حركة الريفيين وانقيادهم، فجعله ذلك يعجل بالزحف، وبالفعل فقد فلم تكد سنة 1920 تنقضي حتى تمكن من احتلال عدد من المواقع والبلدات الإسترتيجية، كما خضع أعيان بعض المناطق كتمسمان.
وفي 15 يناير 1921 أقام في مركز أنوال فأصبح قريبا من قبيلة بني ورياغل، التي أصبحت هدفه المقبل. أما محمد بن عبد الكريم الخطابي فقد أعد العدة لحرب طويلة مع الإسبان وعمل على تقوية الجبهة الداخلية، فعمل على إيقاظ وعي أفراد قبيلته ضد الإسبان من خلال عقد عدد من الإجتماعات التشاورية والتعبوية، كما سعى إلى القضاء على الضغائن بين أفرادها، وتمكن من جمع فرق مقاتلة وبدأ في تدريبها على التكتيكات الحربية التي يجب استخدامها أمام الجيش الإسباني المنظم تنظيما عصريا، وهي حرب العصابات التي تجعل جيش العدو لا يهتدي إلى مصدر الخطر فيبقى حائرا، بعد ذلك لن تسعفه أساليبه العصرية في القتال[12]. كما سعى إلى الحصول على الأسلحة وأقام بعض المراكز الدفاعية وللمراقبة. وفي نفس الوقت قام باعتقال الأعيان المتعاونين مع الإسبان، كما منع بحزم الإنتقام الشخصي، فطبق على قبيلته عدالة إجتماعية وفق الشريعة الإسلامية[13]. وفي بداية أبريل 1921 قام المقاومون بقيادة أخيه امحمد بالهجوم على قاعدة النكور وذلك ردا على قصف الإسبان قبيلة بني ورياغل.
وقبل متم شهر أبريل 1921 تم اختيار محمد بن عبد الكريم الخطابي زعيما لحركة المقاومة التي تجمع قبيلة بني ورياغل وقبيلة بقيوة. وبعد احتلال الإسبان لجبل أبران في مايو 1921 تجهز المقاومون لصد العدوان الإسباني ورده، فحاصروا القوات المحتلة وطوقوها فوق الجبل من كل الجهات، وفي فاتح يونيو 1921 بدأ هجوم المقاومة على القوات الإسبانية المحاصرة، التي سقط في صفوفها 400 قتيل بينهم ستة ضباط، كما غنم المقاومون مدفعا واحدا ومدفع مورتر وأربع رشاشات و500 بندقية موزير وعدد من الخرطوش[14]. فكان سقوط هذا المركز الأول من نوعه منذ أن بدأ الإسبان يتغلغلون في المنطقة في سنة 1909.
ومع صبيحة يوم 14 يونيو 1921 هاجم المقاومون فرقة عسكرية إسبانية، فسيطروا على ربوة سيدي إبراهيم التي كان يتزود منها الإسبان في موقع أغربين بالماء، وذلك بعد معركة ضارية، ورغم النجدة التي أرسلها سلفستري من أنوال، فإن العدو تراجع على أعقابه مخلفا 314 قتيلا.
مثلث الموت: أغربين – أنوال – أعروي:
يقع موضع أغربين بين قبيلتي تمسمان وبني توزين الريفيتين، ويبعد عن مركز أنوال بنحو ست كيلومترات إلى الجنوب الغربي. وقد احتله الإسبان في 17 يونيو 1921، وذلك بعد استعادة المقاومين لموقع سيدي إبراهيم.
بدأت معارك مثلث الموت أغربين – أنوال – أعروي بسب تعنت الجنرال الإسباني سلفستري ومواصلة الزحف على الريف رغم هزائمه السابقة، فبدأ باحتلال جبل أغربين. وقد جرت أول معركة بين المقاومين والقوات الإسبانية، وذلك عندما حاول الإسبان الوصول إلى ماء ربوة سيدي ابراهيم، يوم 16 يوليوز 1921، مما أدى إلى مقتل 132 جندي إسباني[15]. وبعد هذا الإنتصار قطع المقاومون الإتصال بين موقع أغربين وأنوال عبر السيطرة على واد الحمام. وبين 18 و 20 يوليوز 1921 استمرت المعارك بين المقاومين والقوات الإسبانية حول حامية أغربين الإسبانية. وبعد عذاب شديد في المعارك اضطرت هذه الحامية إلى الإنسحاب، ولم يصل من جنودها إلى مركز أنوال إلا حوالي 20 جندي[16].
وفي 25 يوليوز 1921 شرع سلفستري في الزحف مرة أخرى على مواقع المقاومة الريفية، بعد قصف مواقعهم بالمدفعية والطائرات، ورغم الإختراق الذي أحدثه في صفوف المقاومين في بداية الأمر، إلا أن انهزام “القوات النظامية” تحت قيادة محمد بوتنشوشت، والتي كانت تتقدم الجيش الإسباني في هذا الزحف، أدى إلى تقهقر القوات الزاحفة وارتباكها فاضطرت القوات الإسبانية إلى إخلاء مركز أنوال وكل المراكز التي حوله. وقد تحول تقهقر الجيش الإسباني إلى هروب مريع واضطراب كبير، حيث لم يعد رجال المقاومة في حاجة إلى السلاح. وبانسحابهم سقط ما يقرب من مائة مركز حربي بأيدي المقاومة، وكانت الطرق مليئة بالجرحى والقتلى، حيث خسر الجيش الإسباني 15 ألف جندي و700 أسير، بالإضافة إلى مقتل الجنرال سلفستري وبعض أركان حربه. كما غنم المقاومون 200 مدفع و20 ألف بندقية وزهاء مليون خرطوشة، وكميات كبيرة من المعدات والذخيرة وعدد كبير من السيارات والحافلات[17].
ولم ينج من من معركة أنوال إلا 3000 جندي، وكانوا في حالة إعياء شديدة، يقودهم الرجل الثاني في جيش سلفستري، الجنرال نافارو الذي لجأ إلى جبل أعروي أو هضبة القنفذ كما يسميها الإسبان، على بعد 20 ميل من مدينة الناظور و30 كلم من مليلية المحتلة. وقد حاصر المقاومون الجبل من كل الجهات. وبعد 15 يوما اضطر الجنرال نافارو إلى الإستسلام في 2 غشت 1921، وهو الإستسلام الذي وقعت فيه مجزرة رهيبة في صفوف المستسلمين، بسبب انقضاض القبائل عليهم لأخذ الثأر، حيث لم يبقى من بين الأسرى إلا 400 جندي[18].
معارك 1922-1924:
بعد تنظيم الإسبان لفلولهم وتجهيز جيوش جرارة ومسلحة تسليحا جيدا بعد الهزائم النكراء التي تكبدوها، قرروا الهجوم مرة أخرى على مناطق المقاومة الريفية، فنشبت بين الطرفين عدد من المعارك العنيفة. ففي منتصف فبراير 1922 قاد الجنرال برنكر قوات عظيمة لمهاجمة الريفيين فجرت بين الطرفين معارك طاحنة على طول خط مليلية-كوبا-الحسيمة، والتي انتهت برد الجيش الإسباني على أعقابه فارتد إلى مليلية المحتلة[19]. وفي مارس من نفس السنة عاود برنكر الكرة مرة أخرى فحشد 50 ألف مقاتل حول مدينة الحسيمة ومليلية على أمل الإستيلاء على جبل بني عروس، وبعد أسبوع كامل من المواجهة انتصر الريفيون على الجيش الإسباني، كما أصيب الجنرال برنكر بجروح خطيرة وقتل من جيشه 5000 آلاف رجل، واسر 3000، إضافة إلى عدد كبير من الذخائر والمعدات العسكرية.
وفي يونيو 1923 دارت معركة كبيرة بين المقاومة الريفية والجيش الإسباني حول مركز ترياس بالقرب من مدينة شفشاون وحول مدينة داغيت، والتي فتك خلالها الجيش الريفي بالإسبان فتكا. وفي غشت من نفس السنة تمكنت المقاومة الريفية من تكبيد الإسبان خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد حول مركزي فارنو وسيدي إدريس وعلى أبواب مدينة تفارين.
وقد كان من نتائج هذه الهزائم المتتالية للجيش الإسباني قيام الجنرال بريمودي ريفيرا بالإنقلاب على الحكومة يوم 13 شتنبر 1923، فقام بتجميد العمليات الحربية في المنطقة وسحب قواته إلى خطوط خلفية لتكون درعا للمدن المحتلة: مليلية، تطوان، العرائش، القصر الكبير[20].
وفي سنة 1924 شهدت المنطقة تحركات عسكرية كبيرة من قبل المقاومة الريفية والقبائل المنضوية تحت لواءها، فتمكنت من الإستيلاء على عدد كبير من المراكز العسكرية الإسبانية، وحاصرت البعض الآخر وقطعت عنها خطوط الإمداد، الأمر الذي اضطر الإسبان إلى الإنسحاب من مائتي مركز عسكري، ولم تكد تنتهي سنة 1924 وتبدأ سنة 1925 حتى سيطر محمد بن الكريم الخطابي على كامل منطقة شمال المغرب باستثناء الحصون العسكرية الصغيرة في سبتة ومليلية والعرائش وطنجة[21].
لماذا أحجم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عن تحرير مدينة مليلية المحتلة؟
بعد هذا الانتصار اندفع المقاومون في سهول أعروي إلى الناظور فاقتحموها بتاريخ 9 غشت 1921، فوجدوها تشتعل حريقا، بسبب إضرام الجيش الإسباني المنسحب النار في خزائنها، كما عمتها أعمال التهب والفتنة، فأمر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي المقاومين بالاستباق إلى أبواب مليلية المحتلة لمنع اقتحامها من طرف المقاومين، حتى لا تقع مذبحة في صفوفهم. وبسبب الإنتصارات الساحقة للمقاومة وانهيار الجيش الإسباني اشتد الهلع واستولى على الناس داخل مدينة مليلية المحتلة، وتسابقوا لركوب المراكب البحرية، حيث كان الجميع ينتظر ساعة اقتحامها من طرف محمد بن عبد الكريم الخطابي. وقد وصف خوان بيرنكور Juan Berenguer الحالة داخل المدينة بقوله: “في الأزقة جرى الناس طائشين طالبين ملجأ في القلعة القديمة، ووقع الهجوم على حصن الثكنات، وكان الناس يهربون ويصرخون في الشوارع”[22].
وتطرح مسألة عدم اقتحام المدينة المحتلة من طرف المقاومة بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، أكثر من سؤال، خصوصا حول دوافع إحجامه عن ذلك. فيرجع البعض إلى كون المدينة محمية من جهة البحر، فكان الأمير يخشى أن تكون مقبرة للمجاهدين[23]. في حين كان الجيش الريفي حديث التكوين، في مقابل تعزيزات الإسبان لتحصين المدينة، لذلك اختار محمد بن عبد الكريم الخطابي الرجوع عن المدينة وتقوية صفوف المقاومة. كما كان يعتقد أن دخولها سيكون له انعكاسات دولية كبيرة قد تدفع الدول الأوربية للتحالف ضده[24]. وفيما بعد اعترف الأمير بأن إحجامه على اقتحام مليلية وتحريرها كان خطأ فادحا وتاريخيا، وقد ندم عليه قائلا:”أجل لقد أخطأت خطأ عظيما بعدم اقتحام مليلية، فقد كان بإمكاني دخولها دونما معارضة قوية، وكان رجالي في ذلك الحين قد غلبهم المرح والزهو بانتصاراتهم على الإسبانيين، لقد راحوا يحسبون مهاجمة مليلية نزهة وملهاة”[25].
محمد بن الكريم الخطابي وقصة تأسيس الجمهورية الريفية
بعد الإنتصارات الكبيرة التي حققتها المقاومة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي في صيف 1921، فكر هذا الأخير في إنشاء قيادة شرعية ذات نظام دستوري لقيادة حركة المقاومة وإعطائها فاعلية أكثر، فدعا القبائل إلى عقد اجتماع تمخض عنه إحداث مجلس عام يكون المرجع الأعلى والذي أطلق عليه “الجمعية الوطنية”، وعهد إليها تمثيل إرادة الشعب وتنظيم الكفاح وإدارة البلاد[26]. وكان أول قرار اتخذته “الجمعية الوطنية” هو إعلان استقلال الوطن وتأسيس حكومة جمهورية دستورية يترأسها الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي باعتباره قائدا لحرب التحرير. واتفق أيضا على جعل 18 شتنبر 1921 يوما للاستقلال. وبعد عدة اجتماعات وضعت الجمعية الوطنية دستورا للبلاد أساسه مبدأ سلطة الشعب. كما اختارت الجمعية علما لدولة الجمهورية الريفية أحمر اللون ووسطه معين أبيض وداخل المعين هلال أخضر ونجمة خماسية من نفس اللون, ونص الدستور الريفي على جعل أجدير عاصمة الجمهورية الريفية ومعسكرا لجيشها وغيرها من المصالح العمومية.
وقد أصدر محمد بن عبد الكريم الخطابي بيانا وجهه باسم جمهورية الريف إلى جميع الأمم دعاها فيه إلى الإعتراف باستقلال جمهورية الريف من خط الحدود مع المغرب جنوبا حتى البحر المتوسط شمالا، ومن وادي ملوية شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا، وإلى إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية معها. وفي الفترة بين يناير 1923 و يناير 1925، استطاع الأمير محمد بن عبد الكريم أن يوحد قبائل الريف، خاصة بعد قضائه على عبد المالك بن محيي الدين الجزائري في غشت 1924، كما وسع نفوذه إلى المنطقة الغربية من شمال المغرب وخاصة بعد دخول قواته مدينة شفشاون في 14 دجنبر 1924، وأسره لزعيم جبالة أحمد الريسوني في يناير 1925[27].
كما تم تأسيس المحاكم والمدارس، وتنظيم مالية الجمهورية، وأرسلت البعثات العلمية إلى أوربا، وأنشئت المستشفيات والمستوصفات وعبدت الطرق، ومد خطوط شبكة الهاتف. كما تم تنظيم الجيش الريفي. أما على المستوى الخارجي فقد أرسل محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1923 شقيقه امحمد إلى باريس للدفاع عن القضية الريفية أمام الرأي العام الدولي، وأرسل وفدا آخر إلى لندن[28].
الحرب ضد فرنسا ونهاية حركة المقاومة الريفية
رغم كون سياسة محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت قائمة على عدم إثارة الفرنسيين تلافيا لانضمامهم إلى إسبانيا، والذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضا إلى المقاومة الريفية وانتصاراتها الكبيرة على الإسبان، فقد كانوا جد قلقين ومذعورين من الخطر الذي يشكله قيام كيان مستقل في الريف على ممتلكاتها الإستعمارية في المغرب
وبسبب استيلاء الفرنسيين على الجزء الشمالي لقبيلة ورغة الغنية والواقعة في الشمال الشرقي من مدينة فاس والذي كان تابعا لإسبانيا وفق معاهدة الحماية لسنة 1912، وقد كان هذا القسم تحت النفوذ المباشر للمقاومة الريفية، -بسبب ذلك- اضطر الأمير في 12 أبريل سنة 1925 إلى تحريك مقاتليه بقيادة شقيقه لصد الفرنسيين وردهم إلى ما وراء الخطوط التي تقدموا إليها. فكان ذلك الشرارة الأولى لسلسلة من المواجهات العسكرية بين الطرفين. وبسبب توالي هزائم الفرنسيين أمام الجيش الريفي، فقد حشدت فرنسا أكثر من 100 ألف جندي وعدد كبير من العتاد بقيادة المرشان بيتان Pétain الذي حل محل المارشال ليوطي Lyautey، كما تم التنسيق مع الإسبان في سبيل وضع خطط حربية مشتركة[29].
ورغم الصمود والبلاء الحسن الذي أظهرته المقاومة الريفية، فإن إسبانيا تمكنت من دخول عاصمة المقاومة الريفية أجدير في 02 أكتوبر 1925 وتم حرق منزل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما تمكن الفرنسيون بدورهم مع نهاية أكتوبر من استعادة الأراضي التي فقدوها. وبسبب تفوق الدولتين في مجال الطيران بالخصوص، واستعمار الأسلحة الكيماوية ضد المقاومة والمدنيين، فقد اضطر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى تسليم نفسه في 25 مايو سنة 1926 فنقل وأربعين من أفراد عائلته إلى مدينة تازة، ومنها إلى فاس، التي ظلوا فيها حوالي ثلاثة أشهر، ومنها إلى المنفى في جزيرة لارينيون.
محمد بن عبد الكريم الخطابي وحياة المنفى القاسية
في 27 غشت 1926 نقل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته بالقطار إلى الدار البيضاء، وفي 2 شتنبر ركبوا الباخرة “عبدة” المتوجهة إلى ميناء فريول Frioul بفرنسا، ومنها إلى جزيرة لارينيون الفرنسية بالمحيط الهندي، التي وصلوا إليها في 10 أكتوبر 1926. وقد ظلوا هناك مدة عشرين سنة وستة أشهر. ورغم قساوة الظروف المناخية في الجزيرة وما يصاحب ذلك من أوبئة وأمراض، فإن السلطات الفرنسية أسكنته في قصر يليق بمقامه، وخصصت له مرتبا شهريا كافيا، وسهلت له ولعائلته قضاء أيام العطل في المناطق الجبلية البعيدة عن البحر. وبعد سنتين ونصف من المنفى في الجزيرة، بدأ محمد بن عبد الكريم الخطابي يراسل السلطات الفرنسية من أجل التخفيف من قسوة المنفى، ويذكر فرنسا بالوعود التي قطعتها مقابل استسلامه، والتي تنص على تحديد فترة نفيه في مدة قصيرة وفي مكان قريب من المغرب. وبعد الحرب العالمية الثانية ومع طول مدة منفاه، بدأ يشتكي في رسائله من صعوبة الوضع الذي يهدد المستقبل الدراسي والإجتماعي لأبناء وبنات عائلته[30].
ورغم الظروف القاسية التي كابدها الأمير بن عبد الكريم الخطابي، فإن قضيته ومحنته لم يطويها النسيان، وذلك بفضل يقظة المغاربة. فقد طالبت “كتلة العمل الوطني” السلطات الفرنسية بإطلاق سراحه. وفي سنة 1937 نجح الحزب الوطني في إقناع بعض الشخصيات في مجلس الشيوخ الفرنسي بتقديم طلب إطلاق سراحه وعائلته إلى لجنة الشؤون الخارجية بنفس المجلس. وبفضل الإشعاع الذي أعطاه شكيب أرسلان لقضية محمد بن عبد الكريم الخطابي عبر المقالات التي كان ينشرها، فقد كتب مفتي القدس الحاج أمين الحسيني في نهاية سنة 1943 رسالة للخارجية الألمانية عندما كان مقيما في برلين، يطلب فيها تهريب الأمير بن عبد الكريم من منفاه. وعندما تأسست “رابطة الدفاع عن مراكش في مصر” سنة 1943 نجح أعضاؤها سنة 1946 في دفع مجلس الجامعة العربية لاتخاذ قرار ينص على أن تبذل الجامعة العربية مساعيها لدى فرنسا لتحرير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبناء على ذلك كتب أمينها العام عبد الرحمن عزام باشا رسالة لوزير الخارجية الفرنسي حول الموضوع.[31]
حياة اللجوء والنضال في أرض الكنانة
في نهاية الحرب العالمية الثانية قررت فرنسا نقله وعائلته إلى فرنسا في فبراير 1947. وعند مغادرته لجزيرة لارينيون في 03 مايو 1947، لم يكن في باله الهروب من الباخرة أثناء توقفها في إحدى مدن قناة السويس المصرية، لكن أعضاء “مكتب المغرب العربي” بالقاهرة هم الذين اقترحوا عليه النزول من الباخرة وعائلته، رغم معارضته للأمر في بداية الأمر، وطلب اللجوء السياسي من الملك فاروق. وفي 31 مايو 1947 نزل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته في ميناء بور سعيد وطلب اللجوء السياسي، وفي اليوم التالي من نزوله استضافه الملك فاروق بقصره في انشاص. وفي 18 يوليوز 1947 وبعد فترة قصيرة من الاستشفاء والراحة في مستشفى فؤاد الأول بالإسكندرية عاد إلى القاهرة، وبدأ نشاطه السياسي وإن بشكل حذر في إطار مكتب المغرب العربي الذي كان يضم ممثلي عن حزب الاستقلال والإصلاح من المغرب، والحزب الدستوري من تونس، وحزب الشعب الجزائري[32]
وبسبب خلافاته مع زعماء الأحزاب الوطنية المغاربية وشكه في تلك الأحزاب وعدم الثقة في زعمائها، قرر محمد بن عبد الكريم الخطابي في نهاية سنة 1947 الابتعاد عن مكتب المغرب العربي، وبدأ يعمل من أجل تأسيس “لجنة تحرير المغرب العربي” والتي ستنضم إليها إضافة للأحزاب التي أسست “مكتب المغرب العربي”، أحزاب أخرى لم تكن تعمل في إطار هذا المكتب، وكذا بعض الشخصيات المستقلة. وفي 5 يناير 1948 تم الإعلان عن تأسيس اللجنة، وانتخب محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيسا لها[33].
وبعد قيام ثورة 23 يوليوز 1953 التي أطاحت بحكم الملك فاروق، والإنحياز الفعلي للجمهورية الجديدة للكفاح المسلح ضد الاستعمار بالمغرب الكبير، ونظرا لعلاقاته الخاصة بجمال عبد الناصر، فقد تمكن محمد بن عبد الكريم الخطابي من أن يلعب دورا مهما في دعم المقاومة المسلحة في المغارب. وبعد استقلال المغرب وتونس كانت له علاقات وثيقة بالزعماء الجزائريين طيلة فترة الكفاح المسلح، بينما كانت مقطوعة مع المسؤولين التونسيين وسيئة مع المسؤولين المغاربة، لأنه اعتبر أن استقلال البلدين كان ناقصا، وأن زعماء البلدين لم يكونوا أوفياء لميثاق المغرب العربي. وبعد استقلال الجزائر 1961 اتخذ نفس الموقف بسبب اتفاقهم مع الفرنسيين.
وبعد استقلال المغرب أرسل الملك محمد الخامس عدة مبعوثين إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي لإقناعه بالعودة إلى الوطن المستقل، لكنه فضل البقاء في مصر، وكان يؤكد أنه لن يعود إلى المغرب حتى يغادر ترابه آخر جندي أجنبي. ورغم محاولات استرضائه إلا أنه بقي مستمرا على موقفه، حيث كان يعتقد أن المغرب لا يسير في الطريق الصحيح. وقد زاد من حدة موقفه ما حصل في الريف من اضطرابات بين سنتي 1958 و 1959 والتي وصفها ب”الثورة الشعبية العارمة”، ثم ما تلا ذلك من تدخلات عسكرية عنيفة من الدولة المغربية الوليدة.
وقد قام رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم بعمل كبير لتطبيع العلاقات معه، وخاصة عندما قابله خلال زياراته للقاهرة في يونيو 1959، الأمر الذي هيأ الحالة عندما قام الملك محمد الخامس بزيارة بعض الدول العربية، بحيث ذهب بنفسه، عندما زار القاهرة في فبراير 1960، لزيارة محمد بن عبد الكريم
الخطابي في بيته وعبر له عن تقديره لما قام به من نضال ضد الإستعمار. وقد جعل كل ذلك وغيره محمد بن عبد الكريم الخطابي يعدل بعض آرائه ومواقفه، وبدأ صفحة جديدة من التفهم الموضوعي لظروف المغرب المعقدة.
وفي السادس من فبراير 1963، توفته المنية في بيته بالقاهرة نتيجة سكت قلبية، وقد أقيمت له جنازة مهيبة حضرها رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، وأعضاء الحكومة المصرية، ووفد رسمي مغربي، والسفراء العرب المعتمدون بالقاهرة وجمع غفير من الشخصيات والطلبة المغاربة وعموم الناس، ودفن في مقبرة الشهداء بالعباسية بالقاهرة، بعد أن رفضت أسرته نقل جثمانه لدفنه بالمغرب[34].
قبل الحديث عن تفاصيل حياة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، من المفيد التنبيه إلى خلط تقع فيه العديد من الكتابات التي تتناول حياة محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته، وهو إطلاق اسم الوالد على الولد؛ أي إطلاق اسم عبد الكريم (وهو إسم الوالد) على ابنه محمد (موضوع هذه الترجمة). ويعود أصل هذا الخلط إلى أن الإسبان من عادتهم تحويل اسم الأب إلى اسم للأسرة، فكانوا يقولون الولد عبد الكريم كما يقولون مثلا “الولد كارسيا”، لذلك سموا الابن بمحمد عبد الكريم، ثم اقتصر الإسم فيما بعد على عبد الكريم[1].
نشأة محمد بن عبد الكريم الخطابي وتعليمهيعرف محمد بن عبد الكريم الخطابي لدى سكان الريف (نسبة إلى منطقة الريف في شمال المغرب) بالسي محمد أو السي محند، وفيما بعد بمولاي محند. ولد سنة 1882 في بلدة أجدير من قبيلة بني ورياغل، بمنطقة الريف المغربية. وهو ابن الفقيه والقاضي عبد الكريم الحجازي الأصل، ونشأ أجداده في بلدة ينبع من أعمال الحجاز، وانتقلت عائلته إلى بني ورياغل في القرن الثالث الهجري[2].
تلقى تعليمه الأولي على يد والده وعمه في بلدته أجدير، وفيها حفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والنحو والصرف ومبادئ التاريخ، وفي فترة شبابه ذهب إلى تطوان ومنها إلى فاس حيث قضى هناك سنتين ما بين 1902و 1904 لمتابعة الدروس الثانوية، تأهبا لدخول جامعة القرويين المشهورة، وسكن في مدرسة الشراطين، ودرس خلال ذلك على يد مجموعة من العلماء منهم محمد القادري والتهامي جنون[3]. وبعد عودته إلى بلدته أجدير رجع مرة أخرى إلى فاس سنة 1906حيث قضى هناك ستة أشهر أخرى، بعدما كلفه والده بمهمة سياسية، كان هدفها تعريف حكومة المخزن السلطاني بسياسة الريف وأغراضه ومشالكه، ومن أجل إقناع المخزن بإخلاص والده للسلطان مولاي عبد العزيز. وقد مكنه المكوث بفاس من الحصول على كثير من أخبار المخزن عبر الوزراء، لينقلها إلى والده، خصوصا ما تعلق منها بضرورة محاربة الثائر الجيلالي الزرهوني المعروف ببوحمارة.
محمد بن عبد الكريم الخطابي في خدمة إسبانياتلقى تعليمه الأولي على يد والده وعمه في بلدته أجدير، وفيها حفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والنحو والصرف ومبادئ التاريخ، وفي فترة شبابه ذهب إلى تطوان ومنها إلى فاس حيث قضى هناك سنتين ما بين 1902و 1904 لمتابعة الدروس الثانوية، تأهبا لدخول جامعة القرويين المشهورة، وسكن في مدرسة الشراطين، ودرس خلال ذلك على يد مجموعة من العلماء منهم محمد القادري والتهامي جنون[3]. وبعد عودته إلى بلدته أجدير رجع مرة أخرى إلى فاس سنة 1906حيث قضى هناك ستة أشهر أخرى، بعدما كلفه والده بمهمة سياسية، كان هدفها تعريف حكومة المخزن السلطاني بسياسة الريف وأغراضه ومشالكه، ومن أجل إقناع المخزن بإخلاص والده للسلطان مولاي عبد العزيز. وقد مكنه المكوث بفاس من الحصول على كثير من أخبار المخزن عبر الوزراء، لينقلها إلى والده، خصوصا ما تعلق منها بضرورة محاربة الثائر الجيلالي الزرهوني المعروف ببوحمارة.
خلال فترة ثورة بوحمارة ذهب محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مدينة مليلية المحتلة، فرشحه الإسبان لتدريس اللغة الأمازيغية في الأكاديمية العربية، فتولى مهمة التدريس هناك من سنة 1907 إلى 1913. كما عرض عليه محرر جريدة “تلغراف الريف” (Telegrama del Rif) أن يكون مسئولا عن القسم العربي فيها، فقبل ذلك، وقد ظل يعمل بها من مارس 1907 إلى أبريل 1915[4].
وفي سنة 1908 تم تعيينه مترجما في مكاتب الشؤون الأهلية، وهو المكتب الذي كان يشرف ويدير العمل السياسي الإسباني في جميع أنحاء المنطقة الشمالية الشرقية من المغرب. وقد عمقت خطوته هذه من مشاكله الوجدانية، لأنه تحول بذلك من خادم لشعبه عبر خيرات إسبانيا –المدرسة والجريدة- إلى خادم لإسبانيا[5]. وفي سنة 1910 أصبح محمد بن عبد الكريم الخطابي قاضي مدينة مليلية، وفي غشت 1913 أسندت له مهمة القاضي الأول ورئيس مجلس الاستئناف لأحكام القضاء في المنطقة المحتلة. كما اختارته شركة عقارية في بلباو كرجل أعمال لاقتناء الأراضي في منطقة الريف المغربية.
وفي الوقت الذي كان فيه محمد بن عبد الكريم الخطابي يحصل على الإمتيازات الإسبانية وخدماتها، وكان يبرر سياسة إسبانيا في المغرب، فإنه في مقابل ذلك، كان يهاجم بشدة فرنسا وسياستها في المغرب؛ حيث كتب في “تلغراف الريف” في عدد 9 يوليوز 1911؛ بعد توغل فرنسا في الأراضي المغربية واحتلال عدد من المدن، قائلا: “هذه هي الدولة التي عزمت على ضم قطرنا العزيز إلى مستعمراتها الأخرى في إفريقيا وغيرها، هذه هي الدولة التي تصدرت للقضاء على العالم الإسلامي لتكن لهل عليها السيادة”[6].
إضافة إلى الوظائف التي شغلها محمد بن عبد الكريم الخطابي، حصل على المزيد من الامتيازات والترقيات والتشريفات:
دجنبر 1911، ونظرا لعمله التربوي، حصل على وسام إليزابيل الكاثوليكية من رتبة فارس؛
مارس 1912 قلد الوسام العسكري بالعلامة البيضاء لدوره الحاسم في إطلاق سراح أسرى إسبان لدى المقاوم الشريف محمد أمزيان؛
مايو 1912 توصل بنفس الوسام السابق بالعلامة الحمراء، ومنح معاشا بقيمة 50 بسيطة إسبانية. كما حصل على ميدالية إفريقيا.
ورغم هذه البحبوحة التي عاش فيها خلال هذه الفترة فإن ذلك لا يخلو من مرارة وغصة نظرا للرفض الذي يقابله به أصدقاؤه، وطرد والده من بلدته ونهب أملاكه من طرف الأهالي، وكذا بسبب خيبة الأمل التي أصابته جراء فشل إسبانيا في تحقيق أي إنجاز لصالح المناطق الخاضعة لها.
القطيعة بين محمد بن عبد الكريم الخطابي والإسبان
في شهر شتنبر 1915 صدر أمر اسباني بحبس محمد بن عبد الكريم الخطابي نزولا عند رغبة المارشال الفرنسي ليوطي المقيم العام الفرنسي بالمغرب، بسبب علاقاته مع الألمان الذين وعدوا محمد بن عبد الكريم بالدعم المادي، حيث طالبهم هذا الأخير بالمساعدة على إنشاء فرقة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل تحمي الريف من كل اعتداء، مقابل قيامه بمناوشة الفرنسيين[7]. كما عبر للإسبان صراحة عن معارضته لتوسيع مناطق النفوذ الإسباني في منطقة الريف، وأنه سيحول دون احتلالها لأراضي قبيلته بني ورياغل بجميع الوسائل. وإضافة إلى إحالته على المجلس العسكري للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، فقد قرر المفوض السامي الإسباني إقالته من جميع وظائفه. وألغى الراتب الشهري المخصص لوالده، والمنحة المقرر أن يستفيد منها أخوه امحمد من أجل متابعة دراسته في الهندسة بالعاصمة الإسبانية مدريد. وفي 23 دجنبر 1915 قرر مولاي محند الفرار من السجن باستعمال حبل شده إلى إحدى شرفات السجن، لكن الحبل انقطع، فهوى إلى خندق أصيب على إثره بكسر في ساقه، واستمر معه العطب طوال حياته.
وقد شكل اعتقال محمد بن عبد الكريم الخطابي، وما سبقه من تصريحات عبر خلالها عن موقفه وموقف عائلته من التحركات الاسبانية، منعطفا في علاقات إسبانيا مع عائلة الفقيه عبد الكريم الخطابي وولديه محمد وامحمد. فرغم الخدمات التي قدمها مولاي محند للإسبان فإنه “يحب بلاده، وإذا خدم إسبانيا فلأنه اعتبرها صديقة وحليفة، وبإمكانها مساعدة المغاربة على النجاة”[8].
ورغم اعتقال محمد بن عبد الكريم الخطابي، فإن الإتصالات بين والده والإسبان استمرت، على أمل إطلاق سراحه، وهو ما تحقق في بداية غشت 1916، كما عاد إلى وظيفته في مليلية المحتلة في 15 مارس 1917، وذلك بعد تعهده هو والده عبد الكريم بأن يتراجعا عن موقفهما وأن يتعاونا من جديد مع الإدارة الإسبانية مقابل أن تتعهد إسبانيا بتحسين وتغيير سياستها في المنطقة[9]. وقد استمرت هذه العلاقة بين العائلة والإسبان إلى يناير 1919 عندما التأم شمل العائلة في أجدير وامتناع الوالد عن إلتحاق ولديه محمد وامحمد بمليلية المحتلة ومدريد، رغم الإستدعاءات الإسبانية المتكررة لهما، متذرعا بالخوف من انتقام الريفيين منه، خصوصا وأن إسبانيا لم تحاول تغير سياساتها في المنطقة، بل بدأت سياسة التغلغل العسكري العنيف في المناطق التي لم تكن قد احتلتها بعد.
وتبقى من بين الصور الصادمة المؤثرة في محمد بن عبد الكريم الخطابي، منظر جنود إسبان مبتهجين يحملون في أيديهم رؤوس بعض المقاومين الريفيين، فقال: “انظر إلى أمارات الفرح التي تغمر وجوه هؤلاء، لتعلم يقينا أنهم كانوا يجدون سرورا عظيما في التمثيل بالأموات…وهل بمثل هذه الوسائل يريد الإسبان تمديننا وتعليمنا”[10].
معارك محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الإسباني
حركة تفرسيت:
كانت أول مشاركة عملية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي في العمل الميداني ضد إسبانيا من خلال مشاركته في حركة تفرسيت تحت قيادة والده عبد الكريم الخطابي. فقد تمكن هذا الأخير قبل نهاية يونيو 1920 من تكوين فرقة من المقاتلين الريفيين تحت وبمشاركة فاعلة من ابنه الأكبر محمد، واتجه بها نحو بلدة تفرسيت. وقد تم تكليفه ابنه محمد بجهاز الدفاع. وقد جاء هذا التحرك الأول من نوعه من قبل القاضي عبد الكريم وابنه الأكبر محمد، بعد عبور القوات الإسبانية وادي الكرت وبدأت في التغلغل غربا في اتجاه خليج الحسيمة، واحتلال القوات الإسبانية لدار الدريوش في 15 مايو 1920.
وبعد 22 يوم من المرابطة في تفرسيت، في منتصف شهر يوليوز 1920، بدأ الفقيه يعاني من ألم فظيع في بطنه. وبسب عدم توقف الأم اضطر ابنه محمد إلى العودة به محمولا على بغلته إلى منزله بأجدير . ولكن حالته لم تتحسن، وظل على حاله إلى أن مات مساء يوم 7 غشت 1920. وقد أثر غيابه على تماسك المقاومة مما سهل من احتلال تفرسيت في 05 غشت 1920[11]. أما محمد (مولاي محند) فقد أصبح بعد وفاة والده يمثل قبيلة بني ورياغل في المؤتمرات التي تعقدها القبائل من أجل تنظيم حركة المقاومة، فقد أصبح يتقمص دور والده في القيادة، وهذا ما سيتعزز في قيادته حركة المقاومة الريفية فيما بعد، كما أنه راسل سلفستري يدعوه إلى التوقف عن الحرب والتفاوض.
معركة معركتي أدهار أبران وسيدي إبراهيم
رد الجنرال سلفستري على دعوات وقف الحرب، بالإصرار على الزحف على الريف. فقد اعتقد على أن وفاة الفقيه عبد الكريم وسقوط تفرسيت وأربعاء ميدار وانقياد الزعيم الريفي بوشريف، ستعجل بانهيار حركة الريفيين وانقيادهم، فجعله ذلك يعجل بالزحف، وبالفعل فقد فلم تكد سنة 1920 تنقضي حتى تمكن من احتلال عدد من المواقع والبلدات الإسترتيجية، كما خضع أعيان بعض المناطق كتمسمان.
وفي 15 يناير 1921 أقام في مركز أنوال فأصبح قريبا من قبيلة بني ورياغل، التي أصبحت هدفه المقبل. أما محمد بن عبد الكريم الخطابي فقد أعد العدة لحرب طويلة مع الإسبان وعمل على تقوية الجبهة الداخلية، فعمل على إيقاظ وعي أفراد قبيلته ضد الإسبان من خلال عقد عدد من الإجتماعات التشاورية والتعبوية، كما سعى إلى القضاء على الضغائن بين أفرادها، وتمكن من جمع فرق مقاتلة وبدأ في تدريبها على التكتيكات الحربية التي يجب استخدامها أمام الجيش الإسباني المنظم تنظيما عصريا، وهي حرب العصابات التي تجعل جيش العدو لا يهتدي إلى مصدر الخطر فيبقى حائرا، بعد ذلك لن تسعفه أساليبه العصرية في القتال[12]. كما سعى إلى الحصول على الأسلحة وأقام بعض المراكز الدفاعية وللمراقبة. وفي نفس الوقت قام باعتقال الأعيان المتعاونين مع الإسبان، كما منع بحزم الإنتقام الشخصي، فطبق على قبيلته عدالة إجتماعية وفق الشريعة الإسلامية[13]. وفي بداية أبريل 1921 قام المقاومون بقيادة أخيه امحمد بالهجوم على قاعدة النكور وذلك ردا على قصف الإسبان قبيلة بني ورياغل.
وقبل متم شهر أبريل 1921 تم اختيار محمد بن عبد الكريم الخطابي زعيما لحركة المقاومة التي تجمع قبيلة بني ورياغل وقبيلة بقيوة. وبعد احتلال الإسبان لجبل أبران في مايو 1921 تجهز المقاومون لصد العدوان الإسباني ورده، فحاصروا القوات المحتلة وطوقوها فوق الجبل من كل الجهات، وفي فاتح يونيو 1921 بدأ هجوم المقاومة على القوات الإسبانية المحاصرة، التي سقط في صفوفها 400 قتيل بينهم ستة ضباط، كما غنم المقاومون مدفعا واحدا ومدفع مورتر وأربع رشاشات و500 بندقية موزير وعدد من الخرطوش[14]. فكان سقوط هذا المركز الأول من نوعه منذ أن بدأ الإسبان يتغلغلون في المنطقة في سنة 1909.
ومع صبيحة يوم 14 يونيو 1921 هاجم المقاومون فرقة عسكرية إسبانية، فسيطروا على ربوة سيدي إبراهيم التي كان يتزود منها الإسبان في موقع أغربين بالماء، وذلك بعد معركة ضارية، ورغم النجدة التي أرسلها سلفستري من أنوال، فإن العدو تراجع على أعقابه مخلفا 314 قتيلا.
مثلث الموت: أغربين – أنوال – أعروي:
يقع موضع أغربين بين قبيلتي تمسمان وبني توزين الريفيتين، ويبعد عن مركز أنوال بنحو ست كيلومترات إلى الجنوب الغربي. وقد احتله الإسبان في 17 يونيو 1921، وذلك بعد استعادة المقاومين لموقع سيدي إبراهيم.
بدأت معارك مثلث الموت أغربين – أنوال – أعروي بسب تعنت الجنرال الإسباني سلفستري ومواصلة الزحف على الريف رغم هزائمه السابقة، فبدأ باحتلال جبل أغربين. وقد جرت أول معركة بين المقاومين والقوات الإسبانية، وذلك عندما حاول الإسبان الوصول إلى ماء ربوة سيدي ابراهيم، يوم 16 يوليوز 1921، مما أدى إلى مقتل 132 جندي إسباني[15]. وبعد هذا الإنتصار قطع المقاومون الإتصال بين موقع أغربين وأنوال عبر السيطرة على واد الحمام. وبين 18 و 20 يوليوز 1921 استمرت المعارك بين المقاومين والقوات الإسبانية حول حامية أغربين الإسبانية. وبعد عذاب شديد في المعارك اضطرت هذه الحامية إلى الإنسحاب، ولم يصل من جنودها إلى مركز أنوال إلا حوالي 20 جندي[16].
وفي 25 يوليوز 1921 شرع سلفستري في الزحف مرة أخرى على مواقع المقاومة الريفية، بعد قصف مواقعهم بالمدفعية والطائرات، ورغم الإختراق الذي أحدثه في صفوف المقاومين في بداية الأمر، إلا أن انهزام “القوات النظامية” تحت قيادة محمد بوتنشوشت، والتي كانت تتقدم الجيش الإسباني في هذا الزحف، أدى إلى تقهقر القوات الزاحفة وارتباكها فاضطرت القوات الإسبانية إلى إخلاء مركز أنوال وكل المراكز التي حوله. وقد تحول تقهقر الجيش الإسباني إلى هروب مريع واضطراب كبير، حيث لم يعد رجال المقاومة في حاجة إلى السلاح. وبانسحابهم سقط ما يقرب من مائة مركز حربي بأيدي المقاومة، وكانت الطرق مليئة بالجرحى والقتلى، حيث خسر الجيش الإسباني 15 ألف جندي و700 أسير، بالإضافة إلى مقتل الجنرال سلفستري وبعض أركان حربه. كما غنم المقاومون 200 مدفع و20 ألف بندقية وزهاء مليون خرطوشة، وكميات كبيرة من المعدات والذخيرة وعدد كبير من السيارات والحافلات[17].
ولم ينج من من معركة أنوال إلا 3000 جندي، وكانوا في حالة إعياء شديدة، يقودهم الرجل الثاني في جيش سلفستري، الجنرال نافارو الذي لجأ إلى جبل أعروي أو هضبة القنفذ كما يسميها الإسبان، على بعد 20 ميل من مدينة الناظور و30 كلم من مليلية المحتلة. وقد حاصر المقاومون الجبل من كل الجهات. وبعد 15 يوما اضطر الجنرال نافارو إلى الإستسلام في 2 غشت 1921، وهو الإستسلام الذي وقعت فيه مجزرة رهيبة في صفوف المستسلمين، بسبب انقضاض القبائل عليهم لأخذ الثأر، حيث لم يبقى من بين الأسرى إلا 400 جندي[18].
معارك 1922-1924:
بعد تنظيم الإسبان لفلولهم وتجهيز جيوش جرارة ومسلحة تسليحا جيدا بعد الهزائم النكراء التي تكبدوها، قرروا الهجوم مرة أخرى على مناطق المقاومة الريفية، فنشبت بين الطرفين عدد من المعارك العنيفة. ففي منتصف فبراير 1922 قاد الجنرال برنكر قوات عظيمة لمهاجمة الريفيين فجرت بين الطرفين معارك طاحنة على طول خط مليلية-كوبا-الحسيمة، والتي انتهت برد الجيش الإسباني على أعقابه فارتد إلى مليلية المحتلة[19]. وفي مارس من نفس السنة عاود برنكر الكرة مرة أخرى فحشد 50 ألف مقاتل حول مدينة الحسيمة ومليلية على أمل الإستيلاء على جبل بني عروس، وبعد أسبوع كامل من المواجهة انتصر الريفيون على الجيش الإسباني، كما أصيب الجنرال برنكر بجروح خطيرة وقتل من جيشه 5000 آلاف رجل، واسر 3000، إضافة إلى عدد كبير من الذخائر والمعدات العسكرية.
وفي يونيو 1923 دارت معركة كبيرة بين المقاومة الريفية والجيش الإسباني حول مركز ترياس بالقرب من مدينة شفشاون وحول مدينة داغيت، والتي فتك خلالها الجيش الريفي بالإسبان فتكا. وفي غشت من نفس السنة تمكنت المقاومة الريفية من تكبيد الإسبان خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد حول مركزي فارنو وسيدي إدريس وعلى أبواب مدينة تفارين.
وقد كان من نتائج هذه الهزائم المتتالية للجيش الإسباني قيام الجنرال بريمودي ريفيرا بالإنقلاب على الحكومة يوم 13 شتنبر 1923، فقام بتجميد العمليات الحربية في المنطقة وسحب قواته إلى خطوط خلفية لتكون درعا للمدن المحتلة: مليلية، تطوان، العرائش، القصر الكبير[20].
وفي سنة 1924 شهدت المنطقة تحركات عسكرية كبيرة من قبل المقاومة الريفية والقبائل المنضوية تحت لواءها، فتمكنت من الإستيلاء على عدد كبير من المراكز العسكرية الإسبانية، وحاصرت البعض الآخر وقطعت عنها خطوط الإمداد، الأمر الذي اضطر الإسبان إلى الإنسحاب من مائتي مركز عسكري، ولم تكد تنتهي سنة 1924 وتبدأ سنة 1925 حتى سيطر محمد بن الكريم الخطابي على كامل منطقة شمال المغرب باستثناء الحصون العسكرية الصغيرة في سبتة ومليلية والعرائش وطنجة[21].
لماذا أحجم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عن تحرير مدينة مليلية المحتلة؟
بعد هذا الانتصار اندفع المقاومون في سهول أعروي إلى الناظور فاقتحموها بتاريخ 9 غشت 1921، فوجدوها تشتعل حريقا، بسبب إضرام الجيش الإسباني المنسحب النار في خزائنها، كما عمتها أعمال التهب والفتنة، فأمر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي المقاومين بالاستباق إلى أبواب مليلية المحتلة لمنع اقتحامها من طرف المقاومين، حتى لا تقع مذبحة في صفوفهم. وبسبب الإنتصارات الساحقة للمقاومة وانهيار الجيش الإسباني اشتد الهلع واستولى على الناس داخل مدينة مليلية المحتلة، وتسابقوا لركوب المراكب البحرية، حيث كان الجميع ينتظر ساعة اقتحامها من طرف محمد بن عبد الكريم الخطابي. وقد وصف خوان بيرنكور Juan Berenguer الحالة داخل المدينة بقوله: “في الأزقة جرى الناس طائشين طالبين ملجأ في القلعة القديمة، ووقع الهجوم على حصن الثكنات، وكان الناس يهربون ويصرخون في الشوارع”[22].
وتطرح مسألة عدم اقتحام المدينة المحتلة من طرف المقاومة بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، أكثر من سؤال، خصوصا حول دوافع إحجامه عن ذلك. فيرجع البعض إلى كون المدينة محمية من جهة البحر، فكان الأمير يخشى أن تكون مقبرة للمجاهدين[23]. في حين كان الجيش الريفي حديث التكوين، في مقابل تعزيزات الإسبان لتحصين المدينة، لذلك اختار محمد بن عبد الكريم الخطابي الرجوع عن المدينة وتقوية صفوف المقاومة. كما كان يعتقد أن دخولها سيكون له انعكاسات دولية كبيرة قد تدفع الدول الأوربية للتحالف ضده[24]. وفيما بعد اعترف الأمير بأن إحجامه على اقتحام مليلية وتحريرها كان خطأ فادحا وتاريخيا، وقد ندم عليه قائلا:”أجل لقد أخطأت خطأ عظيما بعدم اقتحام مليلية، فقد كان بإمكاني دخولها دونما معارضة قوية، وكان رجالي في ذلك الحين قد غلبهم المرح والزهو بانتصاراتهم على الإسبانيين، لقد راحوا يحسبون مهاجمة مليلية نزهة وملهاة”[25].
محمد بن الكريم الخطابي وقصة تأسيس الجمهورية الريفية
بعد الإنتصارات الكبيرة التي حققتها المقاومة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي في صيف 1921، فكر هذا الأخير في إنشاء قيادة شرعية ذات نظام دستوري لقيادة حركة المقاومة وإعطائها فاعلية أكثر، فدعا القبائل إلى عقد اجتماع تمخض عنه إحداث مجلس عام يكون المرجع الأعلى والذي أطلق عليه “الجمعية الوطنية”، وعهد إليها تمثيل إرادة الشعب وتنظيم الكفاح وإدارة البلاد[26]. وكان أول قرار اتخذته “الجمعية الوطنية” هو إعلان استقلال الوطن وتأسيس حكومة جمهورية دستورية يترأسها الأمير محمد ابن عبد الكريم الخطابي باعتباره قائدا لحرب التحرير. واتفق أيضا على جعل 18 شتنبر 1921 يوما للاستقلال. وبعد عدة اجتماعات وضعت الجمعية الوطنية دستورا للبلاد أساسه مبدأ سلطة الشعب. كما اختارت الجمعية علما لدولة الجمهورية الريفية أحمر اللون ووسطه معين أبيض وداخل المعين هلال أخضر ونجمة خماسية من نفس اللون, ونص الدستور الريفي على جعل أجدير عاصمة الجمهورية الريفية ومعسكرا لجيشها وغيرها من المصالح العمومية.
وقد أصدر محمد بن عبد الكريم الخطابي بيانا وجهه باسم جمهورية الريف إلى جميع الأمم دعاها فيه إلى الإعتراف باستقلال جمهورية الريف من خط الحدود مع المغرب جنوبا حتى البحر المتوسط شمالا، ومن وادي ملوية شرقا حتى المحيط الأطلسي غربا، وإلى إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية معها. وفي الفترة بين يناير 1923 و يناير 1925، استطاع الأمير محمد بن عبد الكريم أن يوحد قبائل الريف، خاصة بعد قضائه على عبد المالك بن محيي الدين الجزائري في غشت 1924، كما وسع نفوذه إلى المنطقة الغربية من شمال المغرب وخاصة بعد دخول قواته مدينة شفشاون في 14 دجنبر 1924، وأسره لزعيم جبالة أحمد الريسوني في يناير 1925[27].
كما تم تأسيس المحاكم والمدارس، وتنظيم مالية الجمهورية، وأرسلت البعثات العلمية إلى أوربا، وأنشئت المستشفيات والمستوصفات وعبدت الطرق، ومد خطوط شبكة الهاتف. كما تم تنظيم الجيش الريفي. أما على المستوى الخارجي فقد أرسل محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1923 شقيقه امحمد إلى باريس للدفاع عن القضية الريفية أمام الرأي العام الدولي، وأرسل وفدا آخر إلى لندن[28].
الحرب ضد فرنسا ونهاية حركة المقاومة الريفية
رغم كون سياسة محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت قائمة على عدم إثارة الفرنسيين تلافيا لانضمامهم إلى إسبانيا، والذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضا إلى المقاومة الريفية وانتصاراتها الكبيرة على الإسبان، فقد كانوا جد قلقين ومذعورين من الخطر الذي يشكله قيام كيان مستقل في الريف على ممتلكاتها الإستعمارية في المغرب
وبسبب استيلاء الفرنسيين على الجزء الشمالي لقبيلة ورغة الغنية والواقعة في الشمال الشرقي من مدينة فاس والذي كان تابعا لإسبانيا وفق معاهدة الحماية لسنة 1912، وقد كان هذا القسم تحت النفوذ المباشر للمقاومة الريفية، -بسبب ذلك- اضطر الأمير في 12 أبريل سنة 1925 إلى تحريك مقاتليه بقيادة شقيقه لصد الفرنسيين وردهم إلى ما وراء الخطوط التي تقدموا إليها. فكان ذلك الشرارة الأولى لسلسلة من المواجهات العسكرية بين الطرفين. وبسبب توالي هزائم الفرنسيين أمام الجيش الريفي، فقد حشدت فرنسا أكثر من 100 ألف جندي وعدد كبير من العتاد بقيادة المرشان بيتان Pétain الذي حل محل المارشال ليوطي Lyautey، كما تم التنسيق مع الإسبان في سبيل وضع خطط حربية مشتركة[29].
ورغم الصمود والبلاء الحسن الذي أظهرته المقاومة الريفية، فإن إسبانيا تمكنت من دخول عاصمة المقاومة الريفية أجدير في 02 أكتوبر 1925 وتم حرق منزل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما تمكن الفرنسيون بدورهم مع نهاية أكتوبر من استعادة الأراضي التي فقدوها. وبسبب تفوق الدولتين في مجال الطيران بالخصوص، واستعمار الأسلحة الكيماوية ضد المقاومة والمدنيين، فقد اضطر محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى تسليم نفسه في 25 مايو سنة 1926 فنقل وأربعين من أفراد عائلته إلى مدينة تازة، ومنها إلى فاس، التي ظلوا فيها حوالي ثلاثة أشهر، ومنها إلى المنفى في جزيرة لارينيون.
محمد بن عبد الكريم الخطابي وحياة المنفى القاسية
في 27 غشت 1926 نقل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته بالقطار إلى الدار البيضاء، وفي 2 شتنبر ركبوا الباخرة “عبدة” المتوجهة إلى ميناء فريول Frioul بفرنسا، ومنها إلى جزيرة لارينيون الفرنسية بالمحيط الهندي، التي وصلوا إليها في 10 أكتوبر 1926. وقد ظلوا هناك مدة عشرين سنة وستة أشهر. ورغم قساوة الظروف المناخية في الجزيرة وما يصاحب ذلك من أوبئة وأمراض، فإن السلطات الفرنسية أسكنته في قصر يليق بمقامه، وخصصت له مرتبا شهريا كافيا، وسهلت له ولعائلته قضاء أيام العطل في المناطق الجبلية البعيدة عن البحر. وبعد سنتين ونصف من المنفى في الجزيرة، بدأ محمد بن عبد الكريم الخطابي يراسل السلطات الفرنسية من أجل التخفيف من قسوة المنفى، ويذكر فرنسا بالوعود التي قطعتها مقابل استسلامه، والتي تنص على تحديد فترة نفيه في مدة قصيرة وفي مكان قريب من المغرب. وبعد الحرب العالمية الثانية ومع طول مدة منفاه، بدأ يشتكي في رسائله من صعوبة الوضع الذي يهدد المستقبل الدراسي والإجتماعي لأبناء وبنات عائلته[30].
ورغم الظروف القاسية التي كابدها الأمير بن عبد الكريم الخطابي، فإن قضيته ومحنته لم يطويها النسيان، وذلك بفضل يقظة المغاربة. فقد طالبت “كتلة العمل الوطني” السلطات الفرنسية بإطلاق سراحه. وفي سنة 1937 نجح الحزب الوطني في إقناع بعض الشخصيات في مجلس الشيوخ الفرنسي بتقديم طلب إطلاق سراحه وعائلته إلى لجنة الشؤون الخارجية بنفس المجلس. وبفضل الإشعاع الذي أعطاه شكيب أرسلان لقضية محمد بن عبد الكريم الخطابي عبر المقالات التي كان ينشرها، فقد كتب مفتي القدس الحاج أمين الحسيني في نهاية سنة 1943 رسالة للخارجية الألمانية عندما كان مقيما في برلين، يطلب فيها تهريب الأمير بن عبد الكريم من منفاه. وعندما تأسست “رابطة الدفاع عن مراكش في مصر” سنة 1943 نجح أعضاؤها سنة 1946 في دفع مجلس الجامعة العربية لاتخاذ قرار ينص على أن تبذل الجامعة العربية مساعيها لدى فرنسا لتحرير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وبناء على ذلك كتب أمينها العام عبد الرحمن عزام باشا رسالة لوزير الخارجية الفرنسي حول الموضوع.[31]
حياة اللجوء والنضال في أرض الكنانة
في نهاية الحرب العالمية الثانية قررت فرنسا نقله وعائلته إلى فرنسا في فبراير 1947. وعند مغادرته لجزيرة لارينيون في 03 مايو 1947، لم يكن في باله الهروب من الباخرة أثناء توقفها في إحدى مدن قناة السويس المصرية، لكن أعضاء “مكتب المغرب العربي” بالقاهرة هم الذين اقترحوا عليه النزول من الباخرة وعائلته، رغم معارضته للأمر في بداية الأمر، وطلب اللجوء السياسي من الملك فاروق. وفي 31 مايو 1947 نزل محمد بن عبد الكريم الخطابي وعائلته في ميناء بور سعيد وطلب اللجوء السياسي، وفي اليوم التالي من نزوله استضافه الملك فاروق بقصره في انشاص. وفي 18 يوليوز 1947 وبعد فترة قصيرة من الاستشفاء والراحة في مستشفى فؤاد الأول بالإسكندرية عاد إلى القاهرة، وبدأ نشاطه السياسي وإن بشكل حذر في إطار مكتب المغرب العربي الذي كان يضم ممثلي عن حزب الاستقلال والإصلاح من المغرب، والحزب الدستوري من تونس، وحزب الشعب الجزائري[32]
وبسبب خلافاته مع زعماء الأحزاب الوطنية المغاربية وشكه في تلك الأحزاب وعدم الثقة في زعمائها، قرر محمد بن عبد الكريم الخطابي في نهاية سنة 1947 الابتعاد عن مكتب المغرب العربي، وبدأ يعمل من أجل تأسيس “لجنة تحرير المغرب العربي” والتي ستنضم إليها إضافة للأحزاب التي أسست “مكتب المغرب العربي”، أحزاب أخرى لم تكن تعمل في إطار هذا المكتب، وكذا بعض الشخصيات المستقلة. وفي 5 يناير 1948 تم الإعلان عن تأسيس اللجنة، وانتخب محمد بن عبد الكريم الخطابي رئيسا لها[33].
وبعد قيام ثورة 23 يوليوز 1953 التي أطاحت بحكم الملك فاروق، والإنحياز الفعلي للجمهورية الجديدة للكفاح المسلح ضد الاستعمار بالمغرب الكبير، ونظرا لعلاقاته الخاصة بجمال عبد الناصر، فقد تمكن محمد بن عبد الكريم الخطابي من أن يلعب دورا مهما في دعم المقاومة المسلحة في المغارب. وبعد استقلال المغرب وتونس كانت له علاقات وثيقة بالزعماء الجزائريين طيلة فترة الكفاح المسلح، بينما كانت مقطوعة مع المسؤولين التونسيين وسيئة مع المسؤولين المغاربة، لأنه اعتبر أن استقلال البلدين كان ناقصا، وأن زعماء البلدين لم يكونوا أوفياء لميثاق المغرب العربي. وبعد استقلال الجزائر 1961 اتخذ نفس الموقف بسبب اتفاقهم مع الفرنسيين.
وبعد استقلال المغرب أرسل الملك محمد الخامس عدة مبعوثين إلى محمد بن عبد الكريم الخطابي لإقناعه بالعودة إلى الوطن المستقل، لكنه فضل البقاء في مصر، وكان يؤكد أنه لن يعود إلى المغرب حتى يغادر ترابه آخر جندي أجنبي. ورغم محاولات استرضائه إلا أنه بقي مستمرا على موقفه، حيث كان يعتقد أن المغرب لا يسير في الطريق الصحيح. وقد زاد من حدة موقفه ما حصل في الريف من اضطرابات بين سنتي 1958 و 1959 والتي وصفها ب”الثورة الشعبية العارمة”، ثم ما تلا ذلك من تدخلات عسكرية عنيفة من الدولة المغربية الوليدة.
وقد قام رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم بعمل كبير لتطبيع العلاقات معه، وخاصة عندما قابله خلال زياراته للقاهرة في يونيو 1959، الأمر الذي هيأ الحالة عندما قام الملك محمد الخامس بزيارة بعض الدول العربية، بحيث ذهب بنفسه، عندما زار القاهرة في فبراير 1960، لزيارة محمد بن عبد الكريم
الخطابي في بيته وعبر له عن تقديره لما قام به من نضال ضد الإستعمار. وقد جعل كل ذلك وغيره محمد بن عبد الكريم الخطابي يعدل بعض آرائه ومواقفه، وبدأ صفحة جديدة من التفهم الموضوعي لظروف المغرب المعقدة.
وفي السادس من فبراير 1963، توفته المنية في بيته بالقاهرة نتيجة سكت قلبية، وقد أقيمت له جنازة مهيبة حضرها رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر، وأعضاء الحكومة المصرية، ووفد رسمي مغربي، والسفراء العرب المعتمدون بالقاهرة وجمع غفير من الشخصيات والطلبة المغاربة وعموم الناس، ودفن في مقبرة الشهداء بالعباسية بالقاهرة، بعد أن رفضت أسرته نقل جثمانه لدفنه بالمغرب[34].
اسم الموضوع : محمد بن عبد الكريم الخطابي.الذي علم العالم أساليب حرب العصابات
|
المصدر : قادة وسياسيين ومحاربين