الجانب الدعوي في السيرة النبوية (2)
ذكَرْنا أنَّ من مصادر السِّيرة المطهَّرة كتابَ الله - عزَّ وجلَّ - وذكَرْنا أنَّ القرآنَ الكريم ذكَر شيئًا ممَّا جاء في سِيرَته - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونُتابِع القولَ فيما ورَد في كتاب الله عن السِّيرة.
لقد تحدَّث القرآنُ الكريم عن هِجرَته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ذكَر ابنُ كثيرٍ في تفسير هذه الآية ما فَحواه: أنَّ نفَرًا من أشراف كلِّ قبيلةٍ في قُرَيش اجتمَعُوا في دار النَّدوة يَنظُرون في شأن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتَبادَلون الرأيَ في كيفيَّة الخلاص من هذا الرجل الذي جاء يَدعُوهم إلى عِبادة الله وحدَه ونبْذِ عِبادة الأوثان.
فقال قائلٌ منه: نحبسه ونضَع القُيُود في يدَيْه ونشدُّ وَثاقه، ثم نتربَّص به رَيْبَ المنون حتى يَهلِك، فرُدَّ هذا الرأي.
وقال قائلٌ آخَر منهم: أَخرِجُوه من بين أظهُرِكم فتستَرِيحوا منه، فإنَّه إذا أُخرِج لن يضرَّكم ما صنَع، وإذا غابَ عنكم أذاه استَرَحتُم منه وكان أمره في غيركم، فرُدَّ هذا الرأيُ أيضًا.
فقال قائلٌ منهم: أرَى أنْ تَأخُذوا من كلِّ قبيلةٍ من قُرَيش شابًّا قويًّا، ثم يُعطَى كلُّ شابٍّ منهم سيفًا صارمًا، ثم يَضرِبوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمه في القبائل كلِّها، ولن يستَطِيع بنو هاشم عندئذٍ مُقاتَلة قُرَيش كلها، ويَقبَلون الدِّيَة.
فوافَق الجميعُ على هذا الرَّأي، وانفضَّ المجلس على هذا، فأَتَى جبريل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمَرَه ألاَّ يَبِيتَ في مَضجَعه الذي كان يَبِيت فيه، وأخبَرَه بمكْر القوم.
فلم يبت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيته تلك الليلة، وأَذِنَ الله - تبارك وتعالى - له عند ذلك بالخروج، وأنزَلَ الله عليه بعد قدومه المدينة سورةَ الأنفال يذكر نِعَمَه عليه[1].
وذكَر ابن كثيرٍ أيضًا في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76]، قال - رحمه الله -: "وقيل: نزَلتْ في كفَّار قُرَيش، همُّوا بإخراج الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بين أظهُرِهم، فتوعَّدَهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرَجُوه لما لبِثُوا بعدَه بمكَّة إلاَّ يسيرًا، وكذلك وقَع؛ فإنَّه لم يكنْ بعد هجرته من بين أظهُرِهم بعدَما اشتدَّ أذاهُم له إلاَّ سنة ونصف حتى جمَعَهم الله وإيَّاه ببدرٍ على غير مِيعاد، فأمكَنَه الله منهم، وسلَّطه عليهم، وأظفره بهم[2].
وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
ولقد واجَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندَما شرَّفَه الله بالنبوَّة والرِّسالة عالَمًا يَمُوجُ بالكفر والشِّرك، والظُّلم والفَساد، فصَبَر وصابَر، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - عظيمَ الأمل؛ لعِظَمِ إيمانه، ولكَمال ثقته بنصْر الله له، ولم يَزِدْه إعراضُ المُعرِضين، ولا إيذاء المُؤذِين، ولا استِهزاءُ المُستَهزِئين إلا يقينًا في طريق الدعوة... لقد تألَّبت قُوَى الشِّرك على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واجتمعَتْ كلمتُها على حربه،وسئمت من الاكتِفاء بِمُقاطَعته وإيذاء أصحابه، والتعرُّض لهم أحيانًا بالأذى والسُّخرية، فأرادَتْ أنْ تَسلُك مَسلَك العُنف في مُعامَلته كما ذكَرنا، فأَذِن الله له بالهِجرَة، وخرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة بعد أنْ أعدَّ العُدَّة، ورسَم الخطَّة، ويَأوِي إلى الغار على نحو ما ورد في كتاب الله: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، ولنتأمَّل قولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لاَ تَحْزَنْ ﴾، ويُعلِّل ذلك بتَذكِيره بحقيقةٍ لا بُدَّ من أنْ يذكرها المؤمنون وهي: أنَّ الله مع المؤمنين الصادقين.
ومَن كان الله معه فلن تقوى قوَّةٌ في الأرض مهما عَظُمتْ على صدِّه عن طريقه أو على هزيمته، يقول ذلك في وقتٍ عصيبٍ، ومكان رهيب، يُعبِّر عن ذلك أبو بكر - رضِي الله عنه - بقوله: "لو أنَّ أحدَهم نظَر إلى مَوضِع قدَمِه لأبصرنا"، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا بكرٍ، ما ظنُّك باثنَيْن اللهُ ثالثهما))؛ رواه البخاري 4663، مسلم 1854، وكانت نتيجة هذه الثقة الكاملة بنصر الله أنْ أنزَلَ الله سكينته عليه وأيَّده بجنود، وجعَل كلمة الذين كفَرُوا السُّفلى.
وهذا يُمكِن أنْ يتحقَّق لورَثَة الأنبياء من العُلَماء الدُّعاة إنْ هم صدَقُوا في التأسِّي برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي الثِّقة بنصر الله لهم؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة مُطارَدًا، فبثَّتْ قريش الأرصاد في طلَبِه، ونشَرَت العُيُون في تتبُّع أثَرِه.
وقد أحكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - الخطَّة أيَّما إحكام، وبَقِي في الغار المدَّة التي عرَف أنها كافية ليخفَّ الطلب عنه، ثم سار في طريقه نحو المدينة، وبينما هو كذلك يَدفَعه إلى الأمام عزمٌ ثابت، وتصميمٌ أكيدٌ، ورَجاءٌ يَملأ قلبَه بنصر الله له، إذا هو يُفاجَأ برجلٍ يتتبَّعه يُرِيد إلقاءَ القبضِ عليه أو قتلَه، وكان هذا الرجل سُراقَة بن مالك، وأترُك الكلام لسُراقَة يقصُّ علينا ما حدَث له كما رواه البخاري 3906، يقول سُراقة:
"جاءَنا رسلُ كفَّار قُرَيش يجعَلُون في رسول الله وأبي بكرٍ دية كل واحدٍ منهما لِمَن قتَلَه أو أسَرَه، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبَلَ رجلٌ منهم حتى قام علينا ونحن جُلوسٌ فقال:
• يا سُراقة: إنِّي رأيت آنِفًا أَسوِدَةً بالساحل، أراها محمدًا وأصحابَه.
• قال سُراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت لهم: إنهم ليسوا بهم، ولكنَّك رأيت فلانًا وفلانًا انطلَقُوا بأعيننا، ثم لبثتُ ساعةً، ثم قمتُ فدخلتُ بيتي، وأمَرتُ جاريتي أنْ تخرج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها عليَّ، وأخَذتُ رُمحِي، فخرجت به من ظهْر البيت، حتى أتَيتُ فرسي، فركبتُها فدفعتُها تقرب بي، حتى دنَوْتُ منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقُمتُ فأهوَيْت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستَقسَمتُ بها، فخرج الذي أكرَهُ، فرَكِبت فرسي - وعَصيت الأزلام - تقرب بي حتى إذا سمعتُ قِراءَة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو لا يلتَفِت، وأبو بكرٍ كثير الالتفات، ساخَتْ يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخرَرْت عنها، ثم زجَرتُها، فنهضَتْ، فلم تكد تُخرِج يدَيْها، فلمَّا استوَتْ قائمةً إذا لأثَر يدَيْها عُثانٌ (أي: غبار) ساطِع في السماء مثل الدخان، فاستَقسَمتُ بالأزلام، فخرَج الذي أكره، فنادَيْتُهم بالأمان، فركبتُ فرسي حتى جئتُهم، ووقَع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنْ سيَظهَر أمرُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلت له:
• إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيَة، وأخبرتُهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرَضت عليهم الزاد والمَتاع، فلم يَرزَأاني ولم يَسألاني إلاَّ أنْ قال: ((أَخفِ عنَّا)).
• فسألتُه أنْ يكتب لي كتابَ أمنٍ، فأمَر عامر بن فُهَيرة، فكتَب في رقعةٍ من أديم، ثم مضى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[3].
وقال ابن حجر في "الفتح"[4]: "ووَقَع في رواية البَراء: فجعل (سُراقة) لا يَلقَى أحدًا إلاَّ قال له: قد كُفِيتُم ما ها هنا، فلا يلقى أحدًا إلاَّ ردَّه، قال: ووفى لنا.
وفي حديث أنس: فقال (سُراقة): يا نبيَّ الله، مُرنِي بما شئتَ، قال: ((فَقِفْ مكانَك لا تَترُكن أحدًا يَلحَق بنا))، قال: فكان أوَّل النَّهار جاهِدًا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان آخِر النَّهار مسلحة له؛ أي: حارسًا له بسلاحه.
وذكَر ابن سعد: أنَّه لَمَّا رجَع قال لقُرَيش: قد عرَفتُم بصَرِي بالطريق وبالأَثَر، وقد استَبرَأت لكم، فلم أرَ شيئًا، فرجَعُوا".
وقال ابن حجر في " الفتح"[5]: "وفي رواية موسى بن عُقبَة نحوه، وعندهما - أي: عند ابن إسحاق وموسى -: فرَجَعتُ فسُئِلتُ، فلم أذكُر شيئًا ممَّا كان، حتى إذا فرغ من حُنَين بعد فتح مكة، فخرجتُ لألقاه ومعي الكتاب، فلَقِيتُه بالجِعْرَانة[6] حتى دنَوْت منه، فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله، هذا كتابُك، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هذا يومُ برٍّ ووفاء، ادنُ))، فأسلمتُ".
وذكَر ابن حجر في " الإصابة"[7]: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لسُراقة: ((كيف بك يا سُراقة إذا لبست سوارَيْ كسري؟))، قال: فلما أُتي عمرُ بسوارَيْ كسري ومنطقته وتاجه، دعا سُراقة فألبَسَه، وكان رجلاً أزبَّ كثيرَ شعرِ الساعدَيْن، فقال له: ارفع يديك، وقُلْ: الحمد لله الذي سلبهما كِسرَى بن هرمز، وألبسَهَما سُراقَة الأعرابي".
لقد وعَد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُراقَة، وحقَّق الله ذاك الوَعْد، ونفَّذَه أميرُ المؤمنين عمرُ - رضي الله عنه.
الله أكبر، ما أعظَمَ هذا الأمل!
الله أكبر، ما أعظَمَ هذه الثِّقة بنصر الله - عزَّ وجلَّ!
رجلٌ طريدٌ، مُهدَر الدم، مُهاجِر عن بلده وأهله إلى بلدٍ آخَر، وناس غُرَباء في زمنٍ كانت العصبيَّة القبليَّة عِمادَ حياةِ الناس، يَقُول هذا القول لسُراقَة!
لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - واثِقًا بنصر الله له، وكان يُوقِن أنَّ الله معه، ولم يشكَّ أبدًا في أنَّ تأييد الله له آتٍ لا محالَة، فجعَلَه ذلك يَعِدُ هذا الأعرابِيَّ بسوارَيْ كسرى، ومَن كسرى في ذلك اليوم؟ إنَّه الرجل الأوَّل أو الثاني في الدنيا؛ فقد كان العالم المعمور خاضعًا لنفوذ دولتين هما: دولة الفرس ودولة الروم، وكسرى ملك الفرس.
إن كثيرًا من جوانب الواقع المُؤلِم اليومَ للمسلمين قد تَدفَع بعض الناس إلى اليأس، وتُوقِعه في قيده المُهلِك.
من هذه الجوانب جهلُ كثيرٍ من المسلمين بحقيقة دينهم، وسَيْطَرةُ حبِّ الدُّنيا على قلوبهم، وهزيمتُهم الداخليَّة في أعماق نُفوسِهم أمامَ الكفَّار، وتخلُّفُهم في مَجالات الحياة المتعدِّدة، ومُخالَفتهم لأحكام دِينِهم، وتقصيرُهم في أداء الواجبات، وارتكابُهم المحرَّمات، واقتِرافُهم المُنكَرات، وسَيْطرةُ الكفَّار أو الطواغيت على مُعظَم بلادهم وعلى اقتصادهم وفِكرِهم، كلُّ هذا وغيره ربما يُوقِع في اليَأس، ولكنَّ هذا غير صحيح.
إنَّ سُوءَ الأوضاع يستَدعِي سُرعَة المُعالَجة من قبل الدُّعاة والمُصلِحين، إنَّ اشتِداد الظلمة يستَدعِي أنْ يتقدَّم المصلح بمِشعَل الهداية.
وهكذا رأينا في قصة الهجرة أنَّ كتاب الله وسنَّة رسوله كانتا من المصادر التي بيَّنت لنا جانبًا من السِّيرة.
لقد تحدَّث القرآنُ الكريم عن هِجرَته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ذكَر ابنُ كثيرٍ في تفسير هذه الآية ما فَحواه: أنَّ نفَرًا من أشراف كلِّ قبيلةٍ في قُرَيش اجتمَعُوا في دار النَّدوة يَنظُرون في شأن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتَبادَلون الرأيَ في كيفيَّة الخلاص من هذا الرجل الذي جاء يَدعُوهم إلى عِبادة الله وحدَه ونبْذِ عِبادة الأوثان.
فقال قائلٌ منه: نحبسه ونضَع القُيُود في يدَيْه ونشدُّ وَثاقه، ثم نتربَّص به رَيْبَ المنون حتى يَهلِك، فرُدَّ هذا الرأي.
وقال قائلٌ آخَر منهم: أَخرِجُوه من بين أظهُرِكم فتستَرِيحوا منه، فإنَّه إذا أُخرِج لن يضرَّكم ما صنَع، وإذا غابَ عنكم أذاه استَرَحتُم منه وكان أمره في غيركم، فرُدَّ هذا الرأيُ أيضًا.
فقال قائلٌ منهم: أرَى أنْ تَأخُذوا من كلِّ قبيلةٍ من قُرَيش شابًّا قويًّا، ثم يُعطَى كلُّ شابٍّ منهم سيفًا صارمًا، ثم يَضرِبوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمه في القبائل كلِّها، ولن يستَطِيع بنو هاشم عندئذٍ مُقاتَلة قُرَيش كلها، ويَقبَلون الدِّيَة.
فوافَق الجميعُ على هذا الرَّأي، وانفضَّ المجلس على هذا، فأَتَى جبريل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمَرَه ألاَّ يَبِيتَ في مَضجَعه الذي كان يَبِيت فيه، وأخبَرَه بمكْر القوم.
فلم يبت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيته تلك الليلة، وأَذِنَ الله - تبارك وتعالى - له عند ذلك بالخروج، وأنزَلَ الله عليه بعد قدومه المدينة سورةَ الأنفال يذكر نِعَمَه عليه[1].
وذكَر ابن كثيرٍ أيضًا في تفسير قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76]، قال - رحمه الله -: "وقيل: نزَلتْ في كفَّار قُرَيش، همُّوا بإخراج الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بين أظهُرِهم، فتوعَّدَهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرَجُوه لما لبِثُوا بعدَه بمكَّة إلاَّ يسيرًا، وكذلك وقَع؛ فإنَّه لم يكنْ بعد هجرته من بين أظهُرِهم بعدَما اشتدَّ أذاهُم له إلاَّ سنة ونصف حتى جمَعَهم الله وإيَّاه ببدرٍ على غير مِيعاد، فأمكَنَه الله منهم، وسلَّطه عليهم، وأظفره بهم[2].
وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
ولقد واجَه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندَما شرَّفَه الله بالنبوَّة والرِّسالة عالَمًا يَمُوجُ بالكفر والشِّرك، والظُّلم والفَساد، فصَبَر وصابَر، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - عظيمَ الأمل؛ لعِظَمِ إيمانه، ولكَمال ثقته بنصْر الله له، ولم يَزِدْه إعراضُ المُعرِضين، ولا إيذاء المُؤذِين، ولا استِهزاءُ المُستَهزِئين إلا يقينًا في طريق الدعوة... لقد تألَّبت قُوَى الشِّرك على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واجتمعَتْ كلمتُها على حربه،وسئمت من الاكتِفاء بِمُقاطَعته وإيذاء أصحابه، والتعرُّض لهم أحيانًا بالأذى والسُّخرية، فأرادَتْ أنْ تَسلُك مَسلَك العُنف في مُعامَلته كما ذكَرنا، فأَذِن الله له بالهِجرَة، وخرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة بعد أنْ أعدَّ العُدَّة، ورسَم الخطَّة، ويَأوِي إلى الغار على نحو ما ورد في كتاب الله: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، ولنتأمَّل قولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لاَ تَحْزَنْ ﴾، ويُعلِّل ذلك بتَذكِيره بحقيقةٍ لا بُدَّ من أنْ يذكرها المؤمنون وهي: أنَّ الله مع المؤمنين الصادقين.
ومَن كان الله معه فلن تقوى قوَّةٌ في الأرض مهما عَظُمتْ على صدِّه عن طريقه أو على هزيمته، يقول ذلك في وقتٍ عصيبٍ، ومكان رهيب، يُعبِّر عن ذلك أبو بكر - رضِي الله عنه - بقوله: "لو أنَّ أحدَهم نظَر إلى مَوضِع قدَمِه لأبصرنا"، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا بكرٍ، ما ظنُّك باثنَيْن اللهُ ثالثهما))؛ رواه البخاري 4663، مسلم 1854، وكانت نتيجة هذه الثقة الكاملة بنصر الله أنْ أنزَلَ الله سكينته عليه وأيَّده بجنود، وجعَل كلمة الذين كفَرُوا السُّفلى.
وهذا يُمكِن أنْ يتحقَّق لورَثَة الأنبياء من العُلَماء الدُّعاة إنْ هم صدَقُوا في التأسِّي برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي الثِّقة بنصر الله لهم؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكَّة مُطارَدًا، فبثَّتْ قريش الأرصاد في طلَبِه، ونشَرَت العُيُون في تتبُّع أثَرِه.
وقد أحكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - الخطَّة أيَّما إحكام، وبَقِي في الغار المدَّة التي عرَف أنها كافية ليخفَّ الطلب عنه، ثم سار في طريقه نحو المدينة، وبينما هو كذلك يَدفَعه إلى الأمام عزمٌ ثابت، وتصميمٌ أكيدٌ، ورَجاءٌ يَملأ قلبَه بنصر الله له، إذا هو يُفاجَأ برجلٍ يتتبَّعه يُرِيد إلقاءَ القبضِ عليه أو قتلَه، وكان هذا الرجل سُراقَة بن مالك، وأترُك الكلام لسُراقَة يقصُّ علينا ما حدَث له كما رواه البخاري 3906، يقول سُراقة:
"جاءَنا رسلُ كفَّار قُرَيش يجعَلُون في رسول الله وأبي بكرٍ دية كل واحدٍ منهما لِمَن قتَلَه أو أسَرَه، فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبَلَ رجلٌ منهم حتى قام علينا ونحن جُلوسٌ فقال:
• يا سُراقة: إنِّي رأيت آنِفًا أَسوِدَةً بالساحل، أراها محمدًا وأصحابَه.
• قال سُراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت لهم: إنهم ليسوا بهم، ولكنَّك رأيت فلانًا وفلانًا انطلَقُوا بأعيننا، ثم لبثتُ ساعةً، ثم قمتُ فدخلتُ بيتي، وأمَرتُ جاريتي أنْ تخرج بفرسي وهي من وراء أكمةٍ، فتحبسها عليَّ، وأخَذتُ رُمحِي، فخرجت به من ظهْر البيت، حتى أتَيتُ فرسي، فركبتُها فدفعتُها تقرب بي، حتى دنَوْتُ منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقُمتُ فأهوَيْت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستَقسَمتُ بها، فخرج الذي أكرَهُ، فرَكِبت فرسي - وعَصيت الأزلام - تقرب بي حتى إذا سمعتُ قِراءَة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو لا يلتَفِت، وأبو بكرٍ كثير الالتفات، ساخَتْ يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخرَرْت عنها، ثم زجَرتُها، فنهضَتْ، فلم تكد تُخرِج يدَيْها، فلمَّا استوَتْ قائمةً إذا لأثَر يدَيْها عُثانٌ (أي: غبار) ساطِع في السماء مثل الدخان، فاستَقسَمتُ بالأزلام، فخرَج الذي أكره، فنادَيْتُهم بالأمان، فركبتُ فرسي حتى جئتُهم، ووقَع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنْ سيَظهَر أمرُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلت له:
• إنَّ قومَك قد جعلوا فيك الدِّيَة، وأخبرتُهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرَضت عليهم الزاد والمَتاع، فلم يَرزَأاني ولم يَسألاني إلاَّ أنْ قال: ((أَخفِ عنَّا)).
• فسألتُه أنْ يكتب لي كتابَ أمنٍ، فأمَر عامر بن فُهَيرة، فكتَب في رقعةٍ من أديم، ثم مضى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[3].
وقال ابن حجر في "الفتح"[4]: "ووَقَع في رواية البَراء: فجعل (سُراقة) لا يَلقَى أحدًا إلاَّ قال له: قد كُفِيتُم ما ها هنا، فلا يلقى أحدًا إلاَّ ردَّه، قال: ووفى لنا.
وفي حديث أنس: فقال (سُراقة): يا نبيَّ الله، مُرنِي بما شئتَ، قال: ((فَقِفْ مكانَك لا تَترُكن أحدًا يَلحَق بنا))، قال: فكان أوَّل النَّهار جاهِدًا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان آخِر النَّهار مسلحة له؛ أي: حارسًا له بسلاحه.
وذكَر ابن سعد: أنَّه لَمَّا رجَع قال لقُرَيش: قد عرَفتُم بصَرِي بالطريق وبالأَثَر، وقد استَبرَأت لكم، فلم أرَ شيئًا، فرجَعُوا".
وقال ابن حجر في " الفتح"[5]: "وفي رواية موسى بن عُقبَة نحوه، وعندهما - أي: عند ابن إسحاق وموسى -: فرَجَعتُ فسُئِلتُ، فلم أذكُر شيئًا ممَّا كان، حتى إذا فرغ من حُنَين بعد فتح مكة، فخرجتُ لألقاه ومعي الكتاب، فلَقِيتُه بالجِعْرَانة[6] حتى دنَوْت منه، فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله، هذا كتابُك، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هذا يومُ برٍّ ووفاء، ادنُ))، فأسلمتُ".
وذكَر ابن حجر في " الإصابة"[7]: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لسُراقة: ((كيف بك يا سُراقة إذا لبست سوارَيْ كسري؟))، قال: فلما أُتي عمرُ بسوارَيْ كسري ومنطقته وتاجه، دعا سُراقة فألبَسَه، وكان رجلاً أزبَّ كثيرَ شعرِ الساعدَيْن، فقال له: ارفع يديك، وقُلْ: الحمد لله الذي سلبهما كِسرَى بن هرمز، وألبسَهَما سُراقَة الأعرابي".
لقد وعَد رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُراقَة، وحقَّق الله ذاك الوَعْد، ونفَّذَه أميرُ المؤمنين عمرُ - رضي الله عنه.
الله أكبر، ما أعظَمَ هذا الأمل!
الله أكبر، ما أعظَمَ هذه الثِّقة بنصر الله - عزَّ وجلَّ!
رجلٌ طريدٌ، مُهدَر الدم، مُهاجِر عن بلده وأهله إلى بلدٍ آخَر، وناس غُرَباء في زمنٍ كانت العصبيَّة القبليَّة عِمادَ حياةِ الناس، يَقُول هذا القول لسُراقَة!
لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - واثِقًا بنصر الله له، وكان يُوقِن أنَّ الله معه، ولم يشكَّ أبدًا في أنَّ تأييد الله له آتٍ لا محالَة، فجعَلَه ذلك يَعِدُ هذا الأعرابِيَّ بسوارَيْ كسرى، ومَن كسرى في ذلك اليوم؟ إنَّه الرجل الأوَّل أو الثاني في الدنيا؛ فقد كان العالم المعمور خاضعًا لنفوذ دولتين هما: دولة الفرس ودولة الروم، وكسرى ملك الفرس.
إن كثيرًا من جوانب الواقع المُؤلِم اليومَ للمسلمين قد تَدفَع بعض الناس إلى اليأس، وتُوقِعه في قيده المُهلِك.
من هذه الجوانب جهلُ كثيرٍ من المسلمين بحقيقة دينهم، وسَيْطَرةُ حبِّ الدُّنيا على قلوبهم، وهزيمتُهم الداخليَّة في أعماق نُفوسِهم أمامَ الكفَّار، وتخلُّفُهم في مَجالات الحياة المتعدِّدة، ومُخالَفتهم لأحكام دِينِهم، وتقصيرُهم في أداء الواجبات، وارتكابُهم المحرَّمات، واقتِرافُهم المُنكَرات، وسَيْطرةُ الكفَّار أو الطواغيت على مُعظَم بلادهم وعلى اقتصادهم وفِكرِهم، كلُّ هذا وغيره ربما يُوقِع في اليَأس، ولكنَّ هذا غير صحيح.
إنَّ سُوءَ الأوضاع يستَدعِي سُرعَة المُعالَجة من قبل الدُّعاة والمُصلِحين، إنَّ اشتِداد الظلمة يستَدعِي أنْ يتقدَّم المصلح بمِشعَل الهداية.
وهكذا رأينا في قصة الهجرة أنَّ كتاب الله وسنَّة رسوله كانتا من المصادر التي بيَّنت لنا جانبًا من السِّيرة.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : الجانب الدعوي في السيرة النبوية (2)
|
المصدر : السيرة النبوية العطرة و الاحاديث الشريفة