تواصل معنا

تعد مسألة سقوط بابل في عام 539 ق. م (1), على يد الأخمينيين واحدة من القضايا التاريخية التي ظلت عالقة وتحمل تحت طياتها ملابسات وألغازا لا يمكن فهمها...

الاستاذ

عضو
نجوم المنتدي
إنضم
11 أغسطس 2021
المشاركات
3,242
مستوى التفاعل
2,651
الإقامة
مصر
مجموع اﻻوسمة
2
دور العبرانيين في سقوط بابل على يد الأخمينيين في عام 539 ق. م

تعد مسألة سقوط بابل في عام 539 ق. م (1), على يد الأخمينيين واحدة من القضايا التاريخية التي ظلت عالقة وتحمل تحت طياتها ملابسات وألغازا لا يمكن فهمها

فالتوراة التي كانت تعد المصدر الرئيس عند العبرانيين قد نظرت الى كورش على أنه مسيح الرب المنتظر الذي جاء ليعاقب بابل والكلدانيين
لأنهم رحلوهم من أورشليم الى بابل وأن إلههم ( يهوه ) هو الذي دعاه الى غزو بابل(2) .

أما بالنسبة إلى الأخمينيين فأن ملوكهم قد اعتمدوا وروجوا الأساطير الدينية لاستمالة أهواء الشعوب الخاضعة تحت سيطرتهم ليتقبلوا حكمهم الذي صبغوه
بصبغة دينية

لقد أدعى الطرفان الأخميني واليهودي أن احتلال بابل من كورش هو أمر مسير من الالهه وأن تلك الآلهة هي التي دعته الى ذلك
, فالعبرانيون عندما أدعوا أن إلههم ( يهوه ) هـو الذي دعـا كــورش لاحتلال بابل كانت دعاية مغرضة الهدف منها استمالة كورش وكسب ثقته

" .... قواتـي اخترقت بابـــــل سلمـياً ولـــم أسمـح لأحـد أن يـثــير الفزع ( في أي مكان ) من ( بلاد سومر ) وأكد" (8)
و هذا ما يشير الى أن كورش قد حصل على مساعدة كبيرة من بعض الجماعات التي كانت تسكن بابل ولا شك في أن يكون اليهود هم المعنيين بهذا الأمر بسبب
الضغينة التي كانوا يكنونها للملوك البابليين لأنهم رحلوهم من أورشليم الى بابل .

اما ما ذكره هيرودوتس حول هذا الموضوع فيبدو انه كان مختلفا عما جاء في نص كورش اذ اشار الى أن البابليين قد دافعوا بشراسة وقوة عن عاصمتهم
وبعد مناوشات تمهيدية بين الطرفين ارتد البابليون مع ملكهم نبونائيد الى داخل أسوار المدينة أملين ومتصورين أن الأعداء لن يستطيعوا النيل
منها لحصانة أسوارها التي ضرب بها المثل البابلي آنذاك " أن الفرس قادرون على احتلال بابل عندما يلد البغل(9) " وبعد ذلك قام الجيش الأخميني
بمحاصرة المدينة لفترة من الزمن ولكن دون جدوى فقد أستطاع الملك الفارسي كورش أخيراً من إيجاد وسيلة لدخولها وذلك من خلال قيامه بوضع خ
طة ذكية تمثلت بتصريف مياه نهر الفرات المار من داخل المدينة حيث أمر كورش بأغلاق هذا النهر وتغيير مجراه لفترة من الزمن (10),
وعندما كان البابليون منشغلين باحتفالاتهم السنوية استطاع الجيش الأخميني من التسلل عبر النهر الذي أصبح مهجورا بسبب تغيير سريان
مياهه بصورة مفتعلة وعن طريق أحد الأبواب التي تركت مفتوحة استطاعت القوات الغازية دخول المدينة في يوم (16) تشرين الأول من عام (539 ق.م) وأحكمت سيطرتها عليها (11).



أما مسألة وجود أحد أبواب المدينة مفتوحاً في ظرف كان فيه البابليون على درجة كبيرة من الأهبة والحذر لمقاومة الغزو الأخميني
, فأنه يعطي مؤشرا الى أن هناك من قام بتقديم المساعدة للفرس من داخل المدينة ومهد لهم الطريق لدخولها ولا يستبعد أن يكون اليهود المتواجدون
داخل المدينة هم الذين قاموا بهذا العمل لأن ما من جماعة كانت تسكن بابل خلال هذه الحقبة الزمنية ترتبط مصالحها بسقوط بابل أكثر من اليهود المتواجدين داخل المدينة.





أن سقوط بابل بهذه السهولة كان أمراً مفاجئاً حتى بالنسبة للفرس أنفسهم ويبدو أنهم كانوا يتوقعون أن المدينة ستقاوم فترة طويلة من الزمن
نتيجة لامتلاكها حصونا وأسوارا قوية لا يمكن لأقوى الجيوش آنذاك أن تتسلل من خلالها بسهولة , ولعل خير ما يدل على ذلك هو تأخر دخول كورش
لها حيث دخلها بعد سبعة عشر يوماً من سقوطها على يد قائد جيشه كوبارو(19). ومع ذلك فأننا لم نحصل على أي نص يشير الى أن اليهود قد شاركوا كورش
أو قدموا له العون أثناء احتلاله بابل, الا أن سير الأحداث التاريخية المصاحبة لهذه الفترة كانت تلمح الى أن هناك رتلا خامسا كان يعمل بحزم وبتخطيط من أجل
إسقاط الحكم البابلي(20) الذي أصبح عاجزا عن المقاومة ولا يستبعد أن يكون جل هؤلاء من عناصر الجالية اليهودية التي كانت تقطن المدينة آنذاك
حيث أن حقيقة الواقع الاجتماعي في مدينة بابل تنم عن هذا الاستنتاج الواقعي حيث أن الجالية اليهودية في المدينة ترى نفسها من المغلوب على
أمرها وأنها واقعة تحت ظلم واستبداد الملوك البابليين واستبدادهم وعليه فأنها تساند أي قوة ومن أي جهة كانت تميل للأيفاع بالبابليين والتخلص
من سيطرتهم فوجدوا في الأخمينيين القوة التي ستنقذهم وتخلصهم من تسلط الملوك البابليين فضلاً عن وعود الأخمينيين لهم بالعودة الى
أرض الميعاد ( فلسطين ) وإعادة بناء المعبد ولعل خير دليل على أنهم قدموا العون للأخمينيين هو المرسوم الذي خصهم به الملك كورش
بعد سنة من دخوله بابل والقاضي بعودتهم الى فلسطين مع تحمله نفقة رحلتهم الى هناك وبناء هيكلهم .

من باب آخر نعرف أن اليهود من الشعوب التي كانت تضع مصالحها فوق كل الاعتبارات والقيم , فعلى الرغم مـن الانجازات التي جناهـا القسم الأكبر منهم فــي أثناء تواجدهم في بابل والتي دفعت ببعض أنبيائهم بالدعوى الى بابل وملكها بالسلام (21) نجد أن ذلك كان ينم عن مصالحهم السياسية آنذاك وليس حباً ومودةً الى بابل وعند استقرائهم للأحداث السياسية آنذاك وجدوا أن عزم كورش على إسقاط بابل هو أمر مؤكد لذا اقتضت مصلحتهم أن يتخلوا عن الملك البابلي وربطوا مصيرهم بالملك كورش الذي اعتبر المسيح المنتظر الذي جاء ليخلصهم من تسلط الحاكم البابلي وهكذا فقد فعلوا مع الأخمينيين عندما وجدوا أن الإسكندر الكبير كان عازماً على إسقاط الحكم الأخميني في الشرق فدعوا له كما دعوا لكورش من قبل .

بعد دخول كوبا رو بابل قام بعزل نبونائيد فوراً عن العرش(22) , وبعد فترة قصيرة من هذه الأحداث وصل كورش الى بابل وأعتبرها واحدة من مراكزه الملكية (23),
وأطلق على نفسه لقب ملك بابل وسومر وملك الجهات الأربع على غرار ما كان يفعله الملوك العراقيون(24) , اذ ورد في أحد نصوصه " أنا كورش , ملك العالم ,
الملك العظيم الملك القوي ملك بابل , ملك سومر وأكد . ملك الجهات الأربع (25) " كما أدعى أنه أستقبل استقبالا حافلاً من سكان مدينة بابل عند دخوله المدينة .
" عندما دخلت بابل كصديق ( و ) أقمت وسط تهليل وفرح مقر الحكم في القصر الحاكم "(26) .



وبعد فترة قصيرة من دخوله مدينة بابل قام كورش بمجموعة من الاجراءات السياسية والعمرانية كان الغرض منها استمالة قلوب الشعب البابلي الموجود داخل المدينة خلال هذه الحقبة الزمنية من تاريخ بابل فأعاد بناء واصلاح الأبنية التي دمرت وقام برفع اعمال السخرة عن كاهل الشعب و التي سبق أن فرضها الملوك البابليون عليهم وسمح للكهنة والمستوطنين في بابل في العودة الى العبادات الدينية التي كانت سائدة قبل اعتلاء نبونائيد العرش البابلي(27), إذ جاء في أحد النصوص المدونة على ( أسطوانة كورش ) " سكان بابل ( الذين ) بعكس إرادة الألـه ( نير ) الا ليق بهم جعلتهم يرتاحون من عنائهم ورفعت ( عنهم ) السخرة "(28) ومن أجل أن يجعل البابليين يقبلون باحتلاله لهم ويقبلوه خليفة شرعيا لنبونائيد قام الملك الأخميني كورش بأخذ يد الأله مردوخ في احتفالات عيد رأس السنة الجديدة معلناً بأنه خادم له (29), بعد ذلك بادر الى مكافئة العناصر التي ساندته في احتلال المدينة حيث عين كوبا رو الحاكم البابلي الخائن حاكماً على بابل وجعله نائباً له في حالة غيابه عن المدينة ومع ذلك فأن سياسة الترضية هذه لم تدم طويلاً فبعد مضي أشهر قلائل نجد أن كوبا رو قد أزيح عن الحكم ليحل محله قمبيز أبن الملك كورش ملكاً على بابل(30) .

أما المكافأة الثانية التي قدمها كورش فكانت من نصيب اليهود عرفاناً بالجميل والخدمة التي قدموها له في أثناء حربه ضد نبونائيد اذ كان لهم الفضل الكبير في احتلال بابل خلال مده زمنية قصيرة جداً ونتيجة لذلك فقد كافأهم بأن سمح لهم بالعودة الى فلسطين وأعطاهم الحق في أعادة بناء الهيكل مرة أخرى (31), وقام بتنصيب دانيال الشخصية اليهودية المعروفة وزيرا في بلاطه الملكي (32) , ومن المحتمل أن يكون ذلك ضمن شروط خاصة أتفق عليها الطرفان قبل احتلاله بابل .

ان معلوماتنا عن سقوط بابل مستقاة من ثلاث مصادر رئيسة هي الكتابات الفارسية المتمثلة بأسطوانة كورش والتي أشرنا اليها سابقاً والكتابات الاغريقية التي ألتزمت جانب المبالغة والكتابات العبرانية التي اتصفت بكونها متناقضة ومتذبذبة وغير دقيقة ففي بعض الأحيان نجدها تنصح اليهود بعدم الخيانة وتدعوهم الى الوقوف بجانب البابليين فقد ورد في نص من التوراة " أطلبوا سلام المدينة التي سبتكم اليها وصلوا لأجلها الى الرب(33) "، وحذرتهم من الانخراط تحت تأثير الدعاية الفارسية التي تدعوهم الى الخيانة حيث جاء في أحد النصوص " فلا تسمعوا أنتم لأنبيائكم وعرافيكم وحاكميكم وعاقليكم وسحرتكم قائلين لا تخدموا ملك بابل"(34) ومن جهة أخرى نجد هناك نصوصا كانت تتشفى بسقوط بابل وتهلل فرحاً لأجل ذلك اذ جاء في أحد هذه النصوص " أخبروا في الشعوب وأسمعوا وارفعوا راية , أسمعوا لا تخافوا قولوا أخذت بابل أنسحق مردوخ خربت أوثانها انسحقت أصنامها , لأنه قد طلعت عليه أمة من الشمال هي التي تجعل أرضها مخربة فلا يكون فيها ساكن من انسان الى حيوان هربوا وذهبوا بعيداً "(35) ولعل هذا التناقض في الكتابات اليهودية ناتج من تعدد مصالحهم واتجاهاتهم السياسية والمذهبية.

كان من بين أهم الاجراءات السياسية التي قام بها كورش بعد دخوله بابل عام 539 ق . م هي أنه عكس السياسة الدينية التي انتهجها نبونائيد من قبل والتي كان من نتائجها أن ملئت بابل بالتماثيل والعبادات المختلفة وأعداد كبيرة من الكهنة والأسرى , وتماشياً مع سياسته التي كانت تهدف الى ترضية سكان مدينة بابل فقد سمح لجميع المبعدين من أوطانهم وديارهم بالعودة اليها (36), اذ جاء في أحد النصوص العائدة الى الملك كورش " الآلهة المقيمة هناك أعادتها الى مساكنها والهة سومر وأكد التي جلبها نبونائيد لإغضاب سيد الآلهة , بناء على مردوخ السيد العظيم جعلتها تتخذ في معابدها المكان الذي يفرح قبلها أنا كذلك جمعت كل العبادات في المساكن وقد قمت بإعادتهم الى مساكنهم "(37) .

استنادا لهذه السياسة الصريحة الواضحة أصدر كورش أوامره بعودة اليهود من بابل الى فلسطين مع السماح لهم بإعادة بناء معبدهم وأمر بإعادة الآنية المقدسة التي جلبها نبوخذ نصر ووضعها في معابد بابل(38) , والبالغ عددها حوالي 5400 قطعة (39).

كان من بين الأحتمالات القائمة أن الميل الكبير الذي أظهره كورش نحو يهود بابل كان نتيجة ثلاثة عوامل مهمة أولها رغبة الملك لمجازات اليهود على ما قدموه له من خدمات خلال حملته العسكرية ضد بابل, والثاني الإقرار الملفت للنظر ما بين الديانة اليهودية والمعتقدات الفارسية(40) , أما الاحتمال الثالث فكان يتمثل برغبة كورش بتأمين الجزء الأساسي القريب من تخوم مصر(41) , وعلى الرغم من أن الحظ لم يحالف كورش في تحقيق هدفه في احتلال مصر بعد أن أحتل بابل الا أنه استطاع أن يهيئ كل المقومات المطلوبة لتحقيق هذا الأمر وفي مقدمتها أنه هيأ له حلفاء أوفياء قرب وادي النيل وهذا بدوره ساعد خليفته قمييز بالاضطلاع بهذا الدور في عام 525 ق . م(42) .

كان الجيش الفارسي مضطراً للعبور من فلسطين للهجوم على مصر وكان عليه أن يتوقف في فلسطين وبالتحديد في أورشليم قبل قيامه بذلك الهجوم ومن هنا كان على كورش تكوين قاعدة عسكرية محكمة في هذه المنطقة أو على الأقل أن يجعل منها منطقة محايدة وربما يكون هذا هو السبب وراء سماح كورش بعودة اليهود الى فلسطين (43) .

ويرد احد الباحثين سبب تسامح الفرس مع اليهود على انه يعود الى أسباب دينية بحته حيث علل ذلك على اساس عطف كورش عليهم باعتبار معتقدهم مشابه لمعتقده(44) ،ويرى آخر عكس ذلك اذ أشار إلى أن الصلة كانت مقطوعة نهائياً بين اليهودية والزرادشتيه(45) , ديانة الفرس فكلا الطرفين كان في طريق مخالفة فكهنة الزرادشتيه كانوا يرون أن اليهود لا يمثلون خطراً دينياً بالنســبة لهم فالديـانة اليـهودية عنصـرية لبـني إسرائيل فقط , وليست تبشيريه كالمسيحية ولم يسع اليهود لكي يهودو الفرس وهم العنصر الأقوى(46) ,وهذا ما يسقط ذلك الشعار الزائف الذي دعى به يهود بابل كورش المسيح المنتظر.
 

امل مفقود

نجوم المنتدي
إنضم
5 مايو 2021
المشاركات
12,565
مستوى التفاعل
4,280
مجموع اﻻوسمة
2
دور العبرانيين في سقوط بابل على يد الأخمينيين في عام 539 ق. م
شكرا للموضوع المميز
تسلم الايادي
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى