جهاد اهل المغرب العربي ضد الاحتلال الاسباني و الفرنسي
تقاسمت إسبانيا وفرنسا النفوذ في بلاد المغرب التي كانت تُعاني من ضعف وانقسام وصراع داخلي, واستعانة بالقوى الخارجية, وَتُرَتَّب على هذا التقسيم أن صار القسم الشمالي من مرَاكش خاضعًا للسيطرة الإسبانية, وهذا الجزء ينقسم بدوره إلى قسم شرقي يُعرف ببلاد الريف, وغربي يُعرف بالجبالة, وَتَمْتَدّ بلاد الريف بمحاذاة الساحل لمسافة تبلغ 120 ميلاً, وَتَمْتَدّ عرضًا لمسافة 25 ميلاً, وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري تأتي في مقدمتها قبيلة وريغال التي ينتمي إليها الأمير محمد عبد الكريم الخطابي رحمه الله.
كانت قبيلة وريغال أكبر قبائل البربر في بلاد الريف, وكان زعيم القبيلة الشيخ عبد الكريم الخطابي قد رفض تقديم الولاء للمندوب السامي الإسباني الجنرال جوردان فعزل الإسبان ابنه محمدًا عن قضاء مدينة مليلة وأُودع السجن, ليضغطوا على أبيه حتى يكف عن الجهاد, وذلك لأنهم كانوا يريدون أن يتوسعوا ويخرجوا من سبتة ومليلة - وهم إلى الآن بأيديهم وهذه من المصائب التي لا يعرفها أكثر المسلمين – ليحتلوا باقي مناطق المغرب الأقصى الشمالية, ولقد حققوا مع الابن الذي فاجأهم بألوان من العزة والثبات, وأخبرهم أنه لا مناص له ولا لأبيه إلا أن يقاتلوا مع الدولة العثمانية, وفي أثناء اعتقال الأمير محمد قتل والده في معركة مع الإسبان سنة 1920م, فبايع أفراد قبيلته ولده محمدًا زعيمًا عليهم, وبعد ذلك بقليل أطلق سراحه من السجن.
ابتدأ الأمير القاضي محمد عبد الكريم الخطابي سلسلة المعارك مع الإسبان وكان معه أخوه وعمه عبد السلام, وقد أعلن الجهاد في سبيل الله وجمع الأمير محمد أنصاره فانضمت إليه كثير من قبائل الريف المغربي, وكان ذلك سنة 1339 هجرية = 1921م, فابتدأهم الأمير بمناوشات أسفرت عن انتصاره وطرد الإسبان من حاميتين مهمتين, بل كانت إحداهما ذات موقع استراتيجي فريد.
غضب الإسبان وأرسلوا له جيشًا من ستين ألف جندي مُجهزين بالأسلحة الحديثة والمدفعية, وطائرات, وعتاد ضخم تحت قيادة الجنرال السفاح سلفستر قائد قطاع مليلة, ولقد حذروا هذا الجنرال قائد الحملة من قوة الخطابي وبأسه فاستهزأ قائلاً: أنا ذاهب لأمسح حذائي في بلاد الريف!!
ولما لا وقد كانت إسبانيا آنذاك ثالث قوة عسكرية في أوروبا, وهي وسائر حليفاتها الأوربيات قد انتصرت في الحرب العالمية الأولى مما جعل زهوها وغرورها يعظم ويتضاعف.
زحف الجنرال الإسباني سلفستر بقواته نحو بلاد الريف ليحكم السيطرة عليها, ونجح في بادئ الأمر في الاستيلاء على بعض المناطق, وحاول الأمير الخطابي أن يحذر الجنرال من مغبة الاستمرار في التقدم, لكن الجنرال المغرور لم يأبه لكلام الأمير واستمر في التقدم لعله يفوز باحتلال بلاد الريف.
لم تصادف هذه القوات في زحفها في بلاد الريف أَيّ مقاومة, واعتقد الجنرال أن الأمر سهلاً, وأعماه غرورُه عن رجال الأمير الخطابي الذين يعملون على استدراج قواته داخل المناطق الجبلية المرتفعة, وَاسْتَمَرَّتْ القوات الإسبانية في توغل في الصحراء وتحقيق انتصارات صغيرة حتى احتلت مدينة أنوال في 7 رمضان 1339 هجرية = 15 مايو 1921.
وفي هذه المدينة كان يكمن لهم الأمير الخطابي في ثلاثة آلاف مجاهد, ولما استقر الجنرال في المدينة, بدأ رجال الخطابي هجومهم على كل المواقع التي احتلها الإسبان, وحاصروا هذه المواقع حصارًا شديدًا, وفشل الجنرال في ردَ الهجوم الكاسح, أو مساعدة المواقع المحاصرة, وأصبحت قواته الرئيسية في مدينة أنوال مهددة بإبادة شاملة بعد أن حاصرها وطوقها رجال الخطابي, وحين حاول الجنرال الانسحاب بقواته اصطدم بقوات الخطابي في 16 من ذي القعدة 1339 هجرية = 22 يوليو 1921م في معركة حاسمة عُرفت في تاريخ بمعركة أنوال.
كانت الهزيمة ساحقة للقوات الإسبان حيث أبيد معظم الجيش الإسباني, وأسر الباقي حتى لم يسلم من هذا الجيش الضخمة سوى ستمائة مقاتل, وغنم الخطابي عشرين ألف بندقية, وأربعمائة رشاش, ومليون طلقة, وطائرتين, وتفرق القتلى على مساحة خمسة أميال.
وكان وقع الهزيمة في أوروبا مدويًا, واستغل الخطابي الفرصة فطهر الريف المغربي من الإسبان وحصرهم في سبتة ومليلة فقط وهذا باق كذلك إلى يوم الناس هذا, وأقام إمارة إسلامية في بلاد الريف.
كان من إثر هزيمة أنوال المدوية لِلْإِسْبَانِ أن قام انقلاب عسكري في إسبانيا بقيادة الجنرال بريموري ريفيرا سنة 1923م, فطلب الجنرال الجديد التحالف مع دول الصليبية, فاجتمع لهم مائة ألف مقاتل وتوجهوا في سنة 1924م إلى عاصمة الخطابي أغدير وحاصروه ثلاثة أسابيع, فأظهر الخطابي ومن معه بطولات رائعة جِدًّا, وألوان نادرة في الفداء والتضحية والبطولة, وقد جاءت هذه الانتصارات في وقت عزت فيه البطولة, وانعدم النصر أمام الغرب في العصر الحديث, واستطاع الخطابي ومن معه إبادة معظم جيش التحالف, واضطروا لرفع الحصار عن عاصمة الخطابي.
كان على أوروبا التحرك من جديد بشكل أكبر لوقف هذا النمو المطرد للخطابي ودولته, فأرسل المارشال المتجبر الفرنسي ليوتي الذي كان حاكمًا في بلاد الجزائر إلى باريس رسالة يقول فيها: إن انتصار المسلمين في الريف المغربي على الإسبان, وفي سواحل البحر المتوسط يعني إعادة إحياء الدولة العثمانية من جديد, وفتحًا جديدًا لأوروبا من قبل المسلمين, وهذا أمر لا يمكن القبول به.
هنا تشكل الحلف الصليبي الأقوى من الفرنسيين والإسبان والمتطوعين من كل أوروبا بقرابة نصف مليون مقاتل, ومعهم مائة وخمسين ألفًا من الخونة الذين انضموا للصليبيين في القتال ضد إخوانهم في الدين والوطن, وكان الجيش الصليبي مدعومًا بالأسطول البريطاني, وكان أعظم أسطول بحري في العالم آنذاك, وكانت الطائرات التي حاربته منتظمة في أربعة وأربعين سربًا.
في حين كان تعداد المجاهدين ستين ألفًا, وما أن انتهى شهر رمضان سنة 1343 هجرية = 1925م, حتى اندلع القتال الشامل وصارت الطائرات تقذف الخطابي وجنده بأنواع القنابل وهو صابر محتسب في خندقه, وأوقع بهم خسائر جسيمة, وصبر صبرًا جميلاً, حتى إن صَحَفِيّ أمريكي كان موجودًا آنذاك في ساحة المعارك يتابعها وهو فأنسن شين فيقول عن الخطابي:
دخلت على عبد الكريم في خندق أمامي, والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته مبتسمًا مرحًا مقبلاً يضرب ببندقيته الطائرات, فتعجبت من هذا الرجل الذي استطاع أن يحافظ على إيمانه وعقيدته في خضم الظروف المحيطة به, وكنت أتمنى أن أمكث أكثر فأكثر مع هذا الرجل العظيم الذي تحيطه هالة من الوقار والجلال, وأقارن به ساسة أوروبا التافهين المشغولين بأمور تافهة فلا أكاد أجد وجهًا للمقارنة, وتمنيت أن أظل أكثر مما ظللت مع هذه الظاهرة البشرية الفريدة التي تأثرت بها أيما تأثر.
وفي هذا الوقت حقق المجاهدون نجاحًا باهرًا في أول القتال واخترقوا الصفوف الفرنسية عند قطاع تازة إلى الشرق من فاس, على الرغم من صغر حجم المجاهدين, فذعر الفرنسيون بشدة وطلبوا مساعدة الأسطول البريطاني, وقاموا بهجوم عكسي في صفر سنة 1344 هجرية, ولكن الأمطار الشديدة أوقفت القتال, وخلال ذلك الوقت حاول الأمير الخطابي إثارة القبائل في جبال الأطلس والقاطنة خلف الخطوط الفرنسية, وذلك لتخفيف الضغط على المجاهدين, ولكنهم خافوا من انتقام الفرنسيين فلم يستجيبوا لدعواته.
هنا حاول الخطابي القيام بعمل عسكري سريع وقوي ضد الحلف الصليبي ليجبر بذلك القبائل على الاشتراك معه, لكنه فشل في هزيمة العدو هزيمة نكراء.
لجئت فرنسا إلى المكر فأغرت السلطان المغربي بأن يُعلن أن الخطابي أحد العصاة الخارجين على سلطته الشرعية ففعل السلطان ما أُمره به, وبدأ رجال السلطان يوزعون منشورات تقول إن القتال مع الخطابي ليس من الجهاد.
هنا لجأ الأمير إلى المفاوضات مع الحلف الصليبي لأن قواته قد أنهكت في القتال المتواصل, فاستمرت المفاوضات ثلاثة أسابيع ولم تسفر عن شيء, اعتبر الفرنسيون والإسبان هذا التراجع من الخطابي دليلاً على ضعف مركزه وبداية انهياره فأوقفوا المفاوضات, ثم قاموا بهجوم فوري في غاية الشراسة لم يصمد له جيش الخطابي.
وكان من نتيجة ذلك أن بدأت اَلْخَسَائِر تتوالى على الخطابي في المعارك التي يخوضها, وتمكن الإسبان والفرنسيين بصعوبة من احتلال أغادير عاصمة الأمير الخطابي, ثم تمكنت هذه القوات من الاستيلاء على حصن ترجست الذي اتخذه الأمير مقرًا له بعد سقوط أغادير في 11 من ذي القعدة 1344 هجرية = 23 من مايو 1926م.
كان الأمير يرفض الاستسلام رفضًا بَاتًّا لكنه لما استشار المائتين مجاهد الذين بقوا معه من جيشه أشاروا عليه بحقن الدماء, فالطائرات كانت تقذف بالغازات السامة والقنابل تقتل الرجال والنساء والأطفال, فأشاروا عليه بعقد صلح مشرف والبقاء في البلد والاستعداد للقتال في أقرب فرصة.
وعندما سلم الأمير نفسه في أواخر شهر ذي القعدة اتفقت فرنسا وإسبانيا على نفيه إلى جزيرة رينيون في شرق إفريقيا, وبذلك توقفت عمليات المقاومة الكبرى في بلاد المغرب, وبنفي الأمير الخطابي أغلق التاريخ واحدة من كبرى حركة المقاومة والجهاد عبر العصور.
إن التاريخ الإسلامي ليعتز بالأمير الخطابي كبطل من الأبطال الأفذاذ الذين يضيئون صفحات التاريخ على مر الزمان بأعمالهم الخالدة, وإن سيرة الخطابي العظيمة يجب أن نجسدها لأجيالنا القادمة ليقفوا على حياة وأعمال هذا الرجل الذي تحدّى إسبانيا وفرنسا وأرغم برجاله القليلين جيوش الدولتين على الفرار أمامه, مما حدا بالأوروبيين أن يدرسوا انتصاراته الأسطورية ويُدرّسوها في الأكاديميات العسكرية عندهم, باعتبار الخطابي صاحب مدرسة القيادة وفن تكتيك حروب العصابات.
كانت قبيلة وريغال أكبر قبائل البربر في بلاد الريف, وكان زعيم القبيلة الشيخ عبد الكريم الخطابي قد رفض تقديم الولاء للمندوب السامي الإسباني الجنرال جوردان فعزل الإسبان ابنه محمدًا عن قضاء مدينة مليلة وأُودع السجن, ليضغطوا على أبيه حتى يكف عن الجهاد, وذلك لأنهم كانوا يريدون أن يتوسعوا ويخرجوا من سبتة ومليلة - وهم إلى الآن بأيديهم وهذه من المصائب التي لا يعرفها أكثر المسلمين – ليحتلوا باقي مناطق المغرب الأقصى الشمالية, ولقد حققوا مع الابن الذي فاجأهم بألوان من العزة والثبات, وأخبرهم أنه لا مناص له ولا لأبيه إلا أن يقاتلوا مع الدولة العثمانية, وفي أثناء اعتقال الأمير محمد قتل والده في معركة مع الإسبان سنة 1920م, فبايع أفراد قبيلته ولده محمدًا زعيمًا عليهم, وبعد ذلك بقليل أطلق سراحه من السجن.
ابتدأ الأمير القاضي محمد عبد الكريم الخطابي سلسلة المعارك مع الإسبان وكان معه أخوه وعمه عبد السلام, وقد أعلن الجهاد في سبيل الله وجمع الأمير محمد أنصاره فانضمت إليه كثير من قبائل الريف المغربي, وكان ذلك سنة 1339 هجرية = 1921م, فابتدأهم الأمير بمناوشات أسفرت عن انتصاره وطرد الإسبان من حاميتين مهمتين, بل كانت إحداهما ذات موقع استراتيجي فريد.
غضب الإسبان وأرسلوا له جيشًا من ستين ألف جندي مُجهزين بالأسلحة الحديثة والمدفعية, وطائرات, وعتاد ضخم تحت قيادة الجنرال السفاح سلفستر قائد قطاع مليلة, ولقد حذروا هذا الجنرال قائد الحملة من قوة الخطابي وبأسه فاستهزأ قائلاً: أنا ذاهب لأمسح حذائي في بلاد الريف!!
ولما لا وقد كانت إسبانيا آنذاك ثالث قوة عسكرية في أوروبا, وهي وسائر حليفاتها الأوربيات قد انتصرت في الحرب العالمية الأولى مما جعل زهوها وغرورها يعظم ويتضاعف.
زحف الجنرال الإسباني سلفستر بقواته نحو بلاد الريف ليحكم السيطرة عليها, ونجح في بادئ الأمر في الاستيلاء على بعض المناطق, وحاول الأمير الخطابي أن يحذر الجنرال من مغبة الاستمرار في التقدم, لكن الجنرال المغرور لم يأبه لكلام الأمير واستمر في التقدم لعله يفوز باحتلال بلاد الريف.
لم تصادف هذه القوات في زحفها في بلاد الريف أَيّ مقاومة, واعتقد الجنرال أن الأمر سهلاً, وأعماه غرورُه عن رجال الأمير الخطابي الذين يعملون على استدراج قواته داخل المناطق الجبلية المرتفعة, وَاسْتَمَرَّتْ القوات الإسبانية في توغل في الصحراء وتحقيق انتصارات صغيرة حتى احتلت مدينة أنوال في 7 رمضان 1339 هجرية = 15 مايو 1921.
وفي هذه المدينة كان يكمن لهم الأمير الخطابي في ثلاثة آلاف مجاهد, ولما استقر الجنرال في المدينة, بدأ رجال الخطابي هجومهم على كل المواقع التي احتلها الإسبان, وحاصروا هذه المواقع حصارًا شديدًا, وفشل الجنرال في ردَ الهجوم الكاسح, أو مساعدة المواقع المحاصرة, وأصبحت قواته الرئيسية في مدينة أنوال مهددة بإبادة شاملة بعد أن حاصرها وطوقها رجال الخطابي, وحين حاول الجنرال الانسحاب بقواته اصطدم بقوات الخطابي في 16 من ذي القعدة 1339 هجرية = 22 يوليو 1921م في معركة حاسمة عُرفت في تاريخ بمعركة أنوال.
كانت الهزيمة ساحقة للقوات الإسبان حيث أبيد معظم الجيش الإسباني, وأسر الباقي حتى لم يسلم من هذا الجيش الضخمة سوى ستمائة مقاتل, وغنم الخطابي عشرين ألف بندقية, وأربعمائة رشاش, ومليون طلقة, وطائرتين, وتفرق القتلى على مساحة خمسة أميال.
وكان وقع الهزيمة في أوروبا مدويًا, واستغل الخطابي الفرصة فطهر الريف المغربي من الإسبان وحصرهم في سبتة ومليلة فقط وهذا باق كذلك إلى يوم الناس هذا, وأقام إمارة إسلامية في بلاد الريف.
كان من إثر هزيمة أنوال المدوية لِلْإِسْبَانِ أن قام انقلاب عسكري في إسبانيا بقيادة الجنرال بريموري ريفيرا سنة 1923م, فطلب الجنرال الجديد التحالف مع دول الصليبية, فاجتمع لهم مائة ألف مقاتل وتوجهوا في سنة 1924م إلى عاصمة الخطابي أغدير وحاصروه ثلاثة أسابيع, فأظهر الخطابي ومن معه بطولات رائعة جِدًّا, وألوان نادرة في الفداء والتضحية والبطولة, وقد جاءت هذه الانتصارات في وقت عزت فيه البطولة, وانعدم النصر أمام الغرب في العصر الحديث, واستطاع الخطابي ومن معه إبادة معظم جيش التحالف, واضطروا لرفع الحصار عن عاصمة الخطابي.
كان على أوروبا التحرك من جديد بشكل أكبر لوقف هذا النمو المطرد للخطابي ودولته, فأرسل المارشال المتجبر الفرنسي ليوتي الذي كان حاكمًا في بلاد الجزائر إلى باريس رسالة يقول فيها: إن انتصار المسلمين في الريف المغربي على الإسبان, وفي سواحل البحر المتوسط يعني إعادة إحياء الدولة العثمانية من جديد, وفتحًا جديدًا لأوروبا من قبل المسلمين, وهذا أمر لا يمكن القبول به.
هنا تشكل الحلف الصليبي الأقوى من الفرنسيين والإسبان والمتطوعين من كل أوروبا بقرابة نصف مليون مقاتل, ومعهم مائة وخمسين ألفًا من الخونة الذين انضموا للصليبيين في القتال ضد إخوانهم في الدين والوطن, وكان الجيش الصليبي مدعومًا بالأسطول البريطاني, وكان أعظم أسطول بحري في العالم آنذاك, وكانت الطائرات التي حاربته منتظمة في أربعة وأربعين سربًا.
في حين كان تعداد المجاهدين ستين ألفًا, وما أن انتهى شهر رمضان سنة 1343 هجرية = 1925م, حتى اندلع القتال الشامل وصارت الطائرات تقذف الخطابي وجنده بأنواع القنابل وهو صابر محتسب في خندقه, وأوقع بهم خسائر جسيمة, وصبر صبرًا جميلاً, حتى إن صَحَفِيّ أمريكي كان موجودًا آنذاك في ساحة المعارك يتابعها وهو فأنسن شين فيقول عن الخطابي:
دخلت على عبد الكريم في خندق أمامي, والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته مبتسمًا مرحًا مقبلاً يضرب ببندقيته الطائرات, فتعجبت من هذا الرجل الذي استطاع أن يحافظ على إيمانه وعقيدته في خضم الظروف المحيطة به, وكنت أتمنى أن أمكث أكثر فأكثر مع هذا الرجل العظيم الذي تحيطه هالة من الوقار والجلال, وأقارن به ساسة أوروبا التافهين المشغولين بأمور تافهة فلا أكاد أجد وجهًا للمقارنة, وتمنيت أن أظل أكثر مما ظللت مع هذه الظاهرة البشرية الفريدة التي تأثرت بها أيما تأثر.
وفي هذا الوقت حقق المجاهدون نجاحًا باهرًا في أول القتال واخترقوا الصفوف الفرنسية عند قطاع تازة إلى الشرق من فاس, على الرغم من صغر حجم المجاهدين, فذعر الفرنسيون بشدة وطلبوا مساعدة الأسطول البريطاني, وقاموا بهجوم عكسي في صفر سنة 1344 هجرية, ولكن الأمطار الشديدة أوقفت القتال, وخلال ذلك الوقت حاول الأمير الخطابي إثارة القبائل في جبال الأطلس والقاطنة خلف الخطوط الفرنسية, وذلك لتخفيف الضغط على المجاهدين, ولكنهم خافوا من انتقام الفرنسيين فلم يستجيبوا لدعواته.
هنا حاول الخطابي القيام بعمل عسكري سريع وقوي ضد الحلف الصليبي ليجبر بذلك القبائل على الاشتراك معه, لكنه فشل في هزيمة العدو هزيمة نكراء.
لجئت فرنسا إلى المكر فأغرت السلطان المغربي بأن يُعلن أن الخطابي أحد العصاة الخارجين على سلطته الشرعية ففعل السلطان ما أُمره به, وبدأ رجال السلطان يوزعون منشورات تقول إن القتال مع الخطابي ليس من الجهاد.
هنا لجأ الأمير إلى المفاوضات مع الحلف الصليبي لأن قواته قد أنهكت في القتال المتواصل, فاستمرت المفاوضات ثلاثة أسابيع ولم تسفر عن شيء, اعتبر الفرنسيون والإسبان هذا التراجع من الخطابي دليلاً على ضعف مركزه وبداية انهياره فأوقفوا المفاوضات, ثم قاموا بهجوم فوري في غاية الشراسة لم يصمد له جيش الخطابي.
وكان من نتيجة ذلك أن بدأت اَلْخَسَائِر تتوالى على الخطابي في المعارك التي يخوضها, وتمكن الإسبان والفرنسيين بصعوبة من احتلال أغادير عاصمة الأمير الخطابي, ثم تمكنت هذه القوات من الاستيلاء على حصن ترجست الذي اتخذه الأمير مقرًا له بعد سقوط أغادير في 11 من ذي القعدة 1344 هجرية = 23 من مايو 1926م.
كان الأمير يرفض الاستسلام رفضًا بَاتًّا لكنه لما استشار المائتين مجاهد الذين بقوا معه من جيشه أشاروا عليه بحقن الدماء, فالطائرات كانت تقذف بالغازات السامة والقنابل تقتل الرجال والنساء والأطفال, فأشاروا عليه بعقد صلح مشرف والبقاء في البلد والاستعداد للقتال في أقرب فرصة.
وعندما سلم الأمير نفسه في أواخر شهر ذي القعدة اتفقت فرنسا وإسبانيا على نفيه إلى جزيرة رينيون في شرق إفريقيا, وبذلك توقفت عمليات المقاومة الكبرى في بلاد المغرب, وبنفي الأمير الخطابي أغلق التاريخ واحدة من كبرى حركة المقاومة والجهاد عبر العصور.
إن التاريخ الإسلامي ليعتز بالأمير الخطابي كبطل من الأبطال الأفذاذ الذين يضيئون صفحات التاريخ على مر الزمان بأعمالهم الخالدة, وإن سيرة الخطابي العظيمة يجب أن نجسدها لأجيالنا القادمة ليقفوا على حياة وأعمال هذا الرجل الذي تحدّى إسبانيا وفرنسا وأرغم برجاله القليلين جيوش الدولتين على الفرار أمامه, مما حدا بالأوروبيين أن يدرسوا انتصاراته الأسطورية ويُدرّسوها في الأكاديميات العسكرية عندهم, باعتبار الخطابي صاحب مدرسة القيادة وفن تكتيك حروب العصابات.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : جهاد اهل المغرب العربي ضد الاحتلال الاسباني و الفرنسي
|
المصدر : قسم الحروب و المعارك
