”عهد من ذهب”

لا يزال وعدًا يتنفس هناك، على عرشها، بين نبض الجلد وسرّ الوريد، استقرّ الخاتم كأنّه قسمٌ صامتٌ لا يُنكث. لم يكن مجرّد ذهباً تزيّن اليد، بل شهادة ميلاد لعهدٍ لا يعرف الفناء.
حين لامس بشرتها، كان هالة من وعودٍ مترفة، تهمس أن الجمال ليس مظهرًا فقط، بل ذاكرةٌ لا تنطفئ. كلّ نقشةٍ عليه لم تكن مجرد زخرفة، بل حكاية محفورة بلغة الزمن، كلّ فصّ فيه يشبه كوكبًا صغيرًا عالقًا في مدار يديها.
في بريقه، انعكست شمسها الخاصة، وامتدت أناملها وكأنها تحمل مجرّة من الضوء، كأنها امتلكت ساعةً توقف الزمن عند لحظة واحدة: لحظة الارتداء، لحظة الإدراك بأنّ بعض الأشياء ليست للزينة، بل للخلود.
وحين أدارت الخاتم بين أصابعها، لم تكن تدوّر معدنًا، بل كانت تُعيد ترتيب القدر، كمن يحاول فهم فصول حكايته وهو يمسك بيديه مفتاح السرّ.
على مهلٍ، كأنّ الزمن ينحني احترامًا، انزلقت تلك الدائرة الذهبية حول إصبعها، كأنها عهدٌ يُغلق على سرّ الأبد.
كانت تمرر أصابعها عليه كلما تاهت في زحام الأيام، كأنما تلمس ذكرى حيّة، تتنفس بين طيات أنفاسها، تقرأ فيه تفاصيل اللقاء الأول، ارتباك اليد التي ألبستها إياه، وارتعاشة صوت وعده:
“لن يكون هذا مجرد خاتم، بل امتدادٌ لي في يدكِ، ظلّي حين لا أكون، وذاكرتي حين تنسين وجهي بين الوجوه.”
وكانت تصدّق.. كيف لا؟ وهو الذي جعل من يدها وطنًا، ومن الخاتم شهادة ميلاد أخرى، مكتوبةً بالنور، موسومةً بالخلود.
لكن الأقدار لا تُدار بالعهد، ولا الخواتم قادرة على أن تحبس الريح في قبضة يد.
بدأ الغياب بطيئًا، كظلٍّ ينحسر عن الجدران عند المغيب. لم يكن رحيله مفاجئًا، لكنه كان قاسيًا بما يكفي ليجعل حتى الزمن ينحني أمام ثقل الفراغ.
ذات مساء، كان صمتها أكثر ضجيجًا من أي كلام، تأملت الخاتم طويلًا، وكأنها تحاول أن تحادثه بدلًا عنه، أن تسأله:
“أين ذهب؟ كيف يُكسر ما لا يُكسر؟ كيف يُنسى وعدٌ كان نَفَسًا يُستنشَق؟”
لم يجبها سوى لمعانه الباهت تحت ضوء المصباح، وكأنما فقد بريقه مع غيابه، كأن اليد التي ألبسته قد سُحبت بعيدًا، وتركتها تحمل ثقل الفراغ وحدها.
مرت الأيام، وكبرت المسافة بينهما حتى أصبح الخاتم هو الشيء الوحيد الذي تبقى، دائرة صغيرة تُحيط بإصبعها كما يُحيط الذكرى صدرها، تسأل نفسها كل ليلة:
“كيف لشيءٍ بهذا الصغر أن يحمل وجعًا بهذا الحجم؟”
لم تنزعه.. لم يكن القرار بهذه البساطة.
لكن شيئًا فشيئًا، بدأ يبهت لمعانه، كأنما كان يستمد بريقه من وجوده، من صوته، من يده التي كانت تحتضن يدها حين كان الخاتم شاهدًا على كل شيء.
رغم أن يده لم تعد تمسك بيدها، كأنما يحتفظ بآخر وهج من أصابعه، بآخر دفء من راحة كفه، بآخر نبض كان يتردد بينهما قبل أن تفرقهما المسافات.
الخاتم لا يكذب، لا يبهت كالكلمات، لا يخذل كالبشر، لا يخون كالأيام، هو هناك، صامتٌ لكنه يتحدث، صغيرٌ لكنه يحمل الكون بين ضلوعه، خفيفٌ في وزنه لكنه يثقل يدها بالذكريات.
تمر أصابعها عليه كما يمر الحنين على أبواب الأمس، تتحسسه كأنها تلامس صوته، كأنها تعيد رسم قسماته في الفراغ، كأنها تمسك بيده مرة أخرى عبر دائرة من ذهب، كأن المسافة لا وجود لها، وكأن الغياب لم يكن أكثر من غفوة بين لقاءين.
ما زال هناك، حول إصبعها، كأنه يرفض أن يصبح مجرد أثر، يرفض أن يكون ذكرى تُترك خلفها، يرفض أن يتحوّل إلى ماضٍ، لأن الوعد الذي قيل بصمت، لا يموت بصمت، بل يظل يعيش بين أطراف اليد، ينطق حين يخفت كل شيء، يذكرها أنه لم يكن مجرد هدية، بل عهدًا كُتب بالنور، وحُفِر على صفحة قلبها قبل أن يُحفر في دائرة من ذهب.
والوفاء؟
لم يكن سؤالًا بالنسبة له، ولا كان احتمالًا، بل كان حقيقة، كان ما لم يشكّ فيه يومًا، كان يعرف أن قلبه لم يعرف سواها، وأن العهد لم يكن لحظة بل امتدادٌ لا ينتهي، كان يعرف أن الفراق لم يكن خيارًا، بل قَدَرٌ كُتب على سطر الحياة، لكنه لم يغيّر السطر الذي حُفر فيه اسمها.
وهي؟
لم تخلعه، لم تنسَ، لم تستبدل، لكنها أيضًا لم تعد تُقبلهُ كما من قبل، كأنها تتركه ليحمل عنها الحنين، كأنها توكل إليه مهمة التذكّر، كأنها تمنحه دور الحارس الذي يبقى مستيقظًا على باب الذكرى، فلا يغلقه، ولا يفتحه تمامًا.
فبين يديها، ظل الوعد نابضًا، كما اللمسة الأخيرة.. وكأنها لا تزال تمسك بيده، ولو من خلال دائرة من ذهب.
يا لهذا الخاتم! لم يكن حليةً، كان تاجًا صغيرًا لملكة يدرك الجميع أنها لا تحتاج تاجًا أكبر كي تتربّع على العرش.

التعديل الأخير:
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : ”عهد من ذهب”
|
المصدر : خواطر بريشة الاعضاء