-
- إنضم
- 23 فبراير 2023
-
- المشاركات
- 53,817
-
- مستوى التفاعل
- 24,558
- مجموع اﻻوسمة
- 26
أبواب اللايقين ....الجوري
.ابولب اللايقين
ها هو ذا، رجلٌ، غريب المزاج، يدوّر ذاته في فراغٍ لا يُحد، كطائرٍ هائمٍ في طياها الأثيري، يلتقط أطياف ذاته المبعثرة كما يُلتقط الدخان المتلاشي، بين أنامل الحيرة ودورق قهوةٍ يتراقص بخاره، يلفُّ أنفاسه بلطافةٍ خفية، خفية كسرٍّ مدفون.
في فوضاه، ترتيبٌ دقيق، كل شظية، كل قُطعة، لها مقرّها المحفوظ في مملكة اللا يقين. يتنقل بين الأبواب، أبواب مغلقة، مفتوحة بنهمٍ مشتعِل، ككاشف أسرار، لا خشية من السرقة، بل من شتاته ذاته، ككائنٍ ليليٍ غريب، يسبر أغوار بيوت الجيران في صمت الليل، لا بدافع فضولٍ حقير، بل بشغفٍ غريب، كمن يلاحق أشباح الأفكار، يختلس الهمسات، ينهل من قصصٍ تتلاشى خلف الجدران، في محاولة لا متناهية لاكتشاف المجهول، في عمق السُرّ الذي لا يُبوح به.
أمام العين الدقيقة للترتيب المثالي، حيث كل قطعة مستقرّة ككوكب في مداره، يظل هو، في قلب الليل العميق، كسر غير معلن، تشويشٌ يختبئ بين خطوط النظام.
هو، الرجل الجاد، لا خطأ في أركانه، لا زاوية خانقة أو ضائعة، كل شيء تمام، تمامًا كما ينبغي أن يكون. لكن حين يهمس القمر من نافذته ويطفئ آخر خيط من اليقظة، يستعيد ما افتقده. ينطلق، بخفةٍ مهذبة، يطرق الأبواب، "عذرًا، جزءٌ لي هنا، أرجوكم..." ضحكاته، قطع زجاجٍ لامعة، تخترق سكون الليل، وهو يرتدي درع الخيال في عالم الجيران، فارسٌ يرتدي البيضاء، يركب الخيال، ينقذ من رتابة الحياة المستسلمة.
وهنا، في عوالمهن، هو البطل المنتظر، العريس الفارس الذي جاء ليهزم الملل، ويفتح أبواب الأمل المغلقة. لكن ذاته؟ لا، ذاته تعيش في دوامةٍ أخرى، بين شظايا الحياة والموت، بين طيات الصباح والمساء، يحمل قطعاً متناثرة، يجمع شذرات كي يحقق ذاته في هذا المسرح اللامتناهي.
يعود إلى بيته، القدمان عاريتان، جسده في بيجامته، ولكن في قلبه، عاصفةٌ من الشكوك، الحيرة تقبض عليه كخنجر. يهمس للسماء باعتذار، كما يعتذر عن كل تخلّفٍ، عن كل لحظة خرق للنظام. الكيس المثقوب الذي يحمله مملوءٌ بأوهام وأفكار مضطربة، وأصوات نساء الجيران، نغمات غامضة، تتردد خلفه، أيديهنّ تغلق أفواههنّ، تمنع رؤيتهنّ.
يركض ليعد قهوته، دوائر الذكريات تتقافز حوله، ككائنات ضائعة تبحث عن موطن. يلمس الفنجان بحذر، يحاول ألا يُحرق أصابعه. يصرخ، كما يفعل المربّي في حضانة الأطفال: "اهدأوا، لعنكم الله!"، لكن صوته يُبتلع في صخبٍ غير مرئي، في عواء الحياة. ثم، مع نفس أول من السيجارة، يهدأ كل شيء، يغيب الضجيج، وتستقر الأشياء في مكانها، كما لو أن الكون نفسه يهمس: "كل شيء تمام." في تلك اللحظة، هو المنتصر، فارسٌ حقيقي، يحدق في شمس الفجر داخل فنجانه، ينتصر، رغم كل شيء.
بين خيوط الصباح التي تلوّن الأفق بشفافية من الضوء الباهت، يمضي هو، يسير على حافة هذا الصباح كما لو كان حافة عالمٍ موازٍ، حيث تتقاطع اللحظات مع ظلالها، وحيث يُقنع نفسه بأن كل خطوة تقربه إلى تلك الواجهة المثالية للراحة والسلام، تلك الفكرة المعلقة كفقاعة زجاجية هشة في الهواء. يتحكم في دقات قلبه كما لو كان ميكانيكيًا دقيقًا، يراقب تلك اللحظات بين اليقين والشك، بين الفوضى التي تتسرب من زوايا الحياة وبين الرغبة الملحة في ترتيب الكون كما يحب، كما يجب.
تتلألأ سيجارته بين أصابعه، كأنها شعلة صغيرة تخترق صمت الصباح البارد. ينهش فيها برقة، وكأنها جسر يصل بين فوضى عقله وهدوءه المنشود. فكرة تائهة تتسلل بين نسمات الهواء، تُمسك بها روحه وتعيدها إلى مكانها، تلبسها ثوبًا من الوضوح والهدوء. يتيح لنفسه هذا التوازن الزائف، ويغوص في دوامة أسئلة لا نهاية لها، كأسيرٍ يحاول فك شفرة حياته بكل تفاصيلها الدقيقة والمبعثرة.
يجلس إلى الطاولة، ذلك المأوى المؤقت من صخب العالم. هناك، في صمت التفاصيل الصغيرة، يجد مأواه. الأصوات التي كانت تسابقه تتلاشى، كما لو أن الزمن أدار عقارب الساعة للخلف، والمسرح أُطفئت أضواؤه، وعاد كل ممثل إلى دوره الذي رسمه له القدر. يبتسم، بابتسامة لا تليق سوى بانتصارٍ داخلي، انتصار معركةٍ خفية، حربٍ أبدية يخوضها بين ذاته والكون، بين محاولته أن يكون أكثر من مجرد ظل عابر في هذا العالم.
تغلق عيناه ببطء، ويدع قهوته تغمره بدفء يطفئ نيران القلق في داخله. لا أهمية لما سيأتي، فالعالم بأسره يتوقف عن الدوران في تلك اللحظة. لا همسات الجيران، لا أصداء الحوارات خلف الأبواب المغلقة، لا أي شيء. هو هنا، في قلب هذا السكون العميق، حيث يُعيد ترتيب كل شيء كما يراه مناسبًا. هو المنتصر، الملك الوحيد في مملكته الصغيرة.
يبقى هكذا، يعيش تلك اللحظة، يلتقط بقايا ذاته المبعثرة عبر السنين، يرقص بين الفوضى والترتيب، بين الخسائر والأرباح. يُدرك أن الحياة ليست أكثر من رقصة هشة بين اليأس والأمل، بين فقدان الذات وإعادة بنائها، تمامًا كما يفعل مع قهوته: يُوازن بين مرارتها ودفئها، بين القوة والنعومة، بين الواقع والمثالية.
يغلق عينيه مجددًا، يراقب الضوء الخافت الذي يتسلل من النوافذ، الهواء الذي يمر برفق، حتى الشبح الخفيف الذي يعبر أمامه يبدو وكأنه يهمس له بأن يستمر، بأن يواصل بناء عالمه الخاص، ببطء، بروية. يعلم أن الأبواب المغلقة في حياته ما هي إلا دعوات للفضول، لكنه يفضل الصمت، يفضل أن يحتفظ بكل شيء في قلبه، حيث يظل الملك غير المتنازع عليه في مملكته الصغيرة.
وفي كل صباح جديد، يتكرر المشهد. يخطو على نفس الأرض، يفتح نفس الأبواب، يواجه الحياة بتلك الرغبة المستمرة في إعادة ترتيب الفوضى إلى شيء مقبول، مفهوم، متماسك. يظل كما هو: رجلٌ غريب، يراقب العالم من بعيد، يتلاعب بفوضاه بحذر، ويعلم في قرارة نفسه أن مهما تبدلت الأمور من حوله، فكل شيء سيعود إلى مكانه الصحيح. كما هو، كما كان، كما سيظل.
ها هو ذا، رجلٌ، غريب المزاج، يدوّر ذاته في فراغٍ لا يُحد، كطائرٍ هائمٍ في طياها الأثيري، يلتقط أطياف ذاته المبعثرة كما يُلتقط الدخان المتلاشي، بين أنامل الحيرة ودورق قهوةٍ يتراقص بخاره، يلفُّ أنفاسه بلطافةٍ خفية، خفية كسرٍّ مدفون.
في فوضاه، ترتيبٌ دقيق، كل شظية، كل قُطعة، لها مقرّها المحفوظ في مملكة اللا يقين. يتنقل بين الأبواب، أبواب مغلقة، مفتوحة بنهمٍ مشتعِل، ككاشف أسرار، لا خشية من السرقة، بل من شتاته ذاته، ككائنٍ ليليٍ غريب، يسبر أغوار بيوت الجيران في صمت الليل، لا بدافع فضولٍ حقير، بل بشغفٍ غريب، كمن يلاحق أشباح الأفكار، يختلس الهمسات، ينهل من قصصٍ تتلاشى خلف الجدران، في محاولة لا متناهية لاكتشاف المجهول، في عمق السُرّ الذي لا يُبوح به.
أمام العين الدقيقة للترتيب المثالي، حيث كل قطعة مستقرّة ككوكب في مداره، يظل هو، في قلب الليل العميق، كسر غير معلن، تشويشٌ يختبئ بين خطوط النظام.
هو، الرجل الجاد، لا خطأ في أركانه، لا زاوية خانقة أو ضائعة، كل شيء تمام، تمامًا كما ينبغي أن يكون. لكن حين يهمس القمر من نافذته ويطفئ آخر خيط من اليقظة، يستعيد ما افتقده. ينطلق، بخفةٍ مهذبة، يطرق الأبواب، "عذرًا، جزءٌ لي هنا، أرجوكم..." ضحكاته، قطع زجاجٍ لامعة، تخترق سكون الليل، وهو يرتدي درع الخيال في عالم الجيران، فارسٌ يرتدي البيضاء، يركب الخيال، ينقذ من رتابة الحياة المستسلمة.
وهنا، في عوالمهن، هو البطل المنتظر، العريس الفارس الذي جاء ليهزم الملل، ويفتح أبواب الأمل المغلقة. لكن ذاته؟ لا، ذاته تعيش في دوامةٍ أخرى، بين شظايا الحياة والموت، بين طيات الصباح والمساء، يحمل قطعاً متناثرة، يجمع شذرات كي يحقق ذاته في هذا المسرح اللامتناهي.
يعود إلى بيته، القدمان عاريتان، جسده في بيجامته، ولكن في قلبه، عاصفةٌ من الشكوك، الحيرة تقبض عليه كخنجر. يهمس للسماء باعتذار، كما يعتذر عن كل تخلّفٍ، عن كل لحظة خرق للنظام. الكيس المثقوب الذي يحمله مملوءٌ بأوهام وأفكار مضطربة، وأصوات نساء الجيران، نغمات غامضة، تتردد خلفه، أيديهنّ تغلق أفواههنّ، تمنع رؤيتهنّ.
يركض ليعد قهوته، دوائر الذكريات تتقافز حوله، ككائنات ضائعة تبحث عن موطن. يلمس الفنجان بحذر، يحاول ألا يُحرق أصابعه. يصرخ، كما يفعل المربّي في حضانة الأطفال: "اهدأوا، لعنكم الله!"، لكن صوته يُبتلع في صخبٍ غير مرئي، في عواء الحياة. ثم، مع نفس أول من السيجارة، يهدأ كل شيء، يغيب الضجيج، وتستقر الأشياء في مكانها، كما لو أن الكون نفسه يهمس: "كل شيء تمام." في تلك اللحظة، هو المنتصر، فارسٌ حقيقي، يحدق في شمس الفجر داخل فنجانه، ينتصر، رغم كل شيء.
بين خيوط الصباح التي تلوّن الأفق بشفافية من الضوء الباهت، يمضي هو، يسير على حافة هذا الصباح كما لو كان حافة عالمٍ موازٍ، حيث تتقاطع اللحظات مع ظلالها، وحيث يُقنع نفسه بأن كل خطوة تقربه إلى تلك الواجهة المثالية للراحة والسلام، تلك الفكرة المعلقة كفقاعة زجاجية هشة في الهواء. يتحكم في دقات قلبه كما لو كان ميكانيكيًا دقيقًا، يراقب تلك اللحظات بين اليقين والشك، بين الفوضى التي تتسرب من زوايا الحياة وبين الرغبة الملحة في ترتيب الكون كما يحب، كما يجب.
تتلألأ سيجارته بين أصابعه، كأنها شعلة صغيرة تخترق صمت الصباح البارد. ينهش فيها برقة، وكأنها جسر يصل بين فوضى عقله وهدوءه المنشود. فكرة تائهة تتسلل بين نسمات الهواء، تُمسك بها روحه وتعيدها إلى مكانها، تلبسها ثوبًا من الوضوح والهدوء. يتيح لنفسه هذا التوازن الزائف، ويغوص في دوامة أسئلة لا نهاية لها، كأسيرٍ يحاول فك شفرة حياته بكل تفاصيلها الدقيقة والمبعثرة.
يجلس إلى الطاولة، ذلك المأوى المؤقت من صخب العالم. هناك، في صمت التفاصيل الصغيرة، يجد مأواه. الأصوات التي كانت تسابقه تتلاشى، كما لو أن الزمن أدار عقارب الساعة للخلف، والمسرح أُطفئت أضواؤه، وعاد كل ممثل إلى دوره الذي رسمه له القدر. يبتسم، بابتسامة لا تليق سوى بانتصارٍ داخلي، انتصار معركةٍ خفية، حربٍ أبدية يخوضها بين ذاته والكون، بين محاولته أن يكون أكثر من مجرد ظل عابر في هذا العالم.
تغلق عيناه ببطء، ويدع قهوته تغمره بدفء يطفئ نيران القلق في داخله. لا أهمية لما سيأتي، فالعالم بأسره يتوقف عن الدوران في تلك اللحظة. لا همسات الجيران، لا أصداء الحوارات خلف الأبواب المغلقة، لا أي شيء. هو هنا، في قلب هذا السكون العميق، حيث يُعيد ترتيب كل شيء كما يراه مناسبًا. هو المنتصر، الملك الوحيد في مملكته الصغيرة.
يبقى هكذا، يعيش تلك اللحظة، يلتقط بقايا ذاته المبعثرة عبر السنين، يرقص بين الفوضى والترتيب، بين الخسائر والأرباح. يُدرك أن الحياة ليست أكثر من رقصة هشة بين اليأس والأمل، بين فقدان الذات وإعادة بنائها، تمامًا كما يفعل مع قهوته: يُوازن بين مرارتها ودفئها، بين القوة والنعومة، بين الواقع والمثالية.
يغلق عينيه مجددًا، يراقب الضوء الخافت الذي يتسلل من النوافذ، الهواء الذي يمر برفق، حتى الشبح الخفيف الذي يعبر أمامه يبدو وكأنه يهمس له بأن يستمر، بأن يواصل بناء عالمه الخاص، ببطء، بروية. يعلم أن الأبواب المغلقة في حياته ما هي إلا دعوات للفضول، لكنه يفضل الصمت، يفضل أن يحتفظ بكل شيء في قلبه، حيث يظل الملك غير المتنازع عليه في مملكته الصغيرة.
وفي كل صباح جديد، يتكرر المشهد. يخطو على نفس الأرض، يفتح نفس الأبواب، يواجه الحياة بتلك الرغبة المستمرة في إعادة ترتيب الفوضى إلى شيء مقبول، مفهوم، متماسك. يظل كما هو: رجلٌ غريب، يراقب العالم من بعيد، يتلاعب بفوضاه بحذر، ويعلم في قرارة نفسه أن مهما تبدلت الأمور من حوله، فكل شيء سيعود إلى مكانه الصحيح. كما هو، كما كان، كما سيظل.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : أبواب اللايقين ....الجوري
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء