حلم لم انساه 1
انس
لم أكن أؤمن بالأحلام.
أو لنقل… لم أكن أعيرها اهتمامًا.
أحلامنا، كما يقولون، ما هي إلا ارتجالات من العقل، محاولات لصياغة رغبات لم تُكتب لها الحياة في الواقع.
لكن تلك الليلة… شيء ما تغيّر.
استيقظت وأنا أشعر بأنني فقدت شيئًا ثمينًا. لم يكن مجرد حلم، كان لقاءً حقيقيًا، لحظة صدق عشتها بكل كياني، كأن روحي قد خرجت من جسدي وذهبت إلى مكانٍ لا يعرفه أحد.
اسمها كان "نور".
وأيُّ اسمٍ أليق بها من هذا الاسم؟
تلك العيون الواسعة المستديرة، كانت تنظر إليّ وكأنها تعرفني من قبل. كأنني لست غريبًا عليها. شعرها الأسود الطويل كان ينسدل فوق كتفيها كأنه قطعة من ليلٍ ساكن. وفستانها الأبيض… لم يكن مجرد ثوب، بل تجسيد للنقاء.
في الحلم، تحدثنا. لا أذكر كل الكلمات، لكنني أذكر شعورها… شعور الأمان، شعور الحُب.
الغريب؟ أنني لم أنسَ.
أعرف أن الأحلام تتلاشى عند الصباح، تتحول إلى غبار منسيّ، لكن نور… بقيت.
مرت الأيام بعدها وأنا أشعر بالتيه. كل شيء حولي أصبح باهتًا. الجامعة، الأصدقاء، حتى ضجيج الشوارع… كأن العالم خفت صوته بعد أن سمعت صوتها.
كيف لحلم أن يسرقني بهذا الشكل؟
كيف لفتاة لا أعرفها – أو ربما عرفتها في حياةٍ أخرى – أن تُربكني لهذا الحد؟
لكنني على يقين… أن نور ليست حلمًا فقط.
كانت حقيقية، بطريقةٍ لا يفهمها هذا العالم.
مرت أسابيع على الحلم، والحياة استمرت تمشي بي كما لو أن شيئًا لم يحدث.
لكن داخلي كان مختلفًا.
كنت أحاول أن أعيش بشكل طبيعي، أذهب للجامعة، أشارك في المحاضرات، أبتسم للأصدقاء، وأقنع نفسي أن ما حدث مجرد حلم…
لكنني لم أقتنع.
ثم جاءت لحظة لم أتوقعها.
حدثت مشكلة في التسجيل، تلاها خطأ إداري عجيب، ثم قرار لا رجعة فيه: يجب أن أُنقل إلى جامعة أخرى.
أقسم أنني شعرت أن شيئًا ما يجرّني إلى هناك… إلى مكان لا أعرفه، لكنه يعرفني.
لم أكن متفائلًا بالانتقال.
لكن كل شيء تغيّر حين رأيتها.
كانت جالسة في الحديقة الجامعية، تقرأ كتابًا تحت شجرة زهر.
الشمس تنعكس على شعرها الأسود، ونسمة خفيفة تحرك فستانها الأبيض الهادئ.
تجمّدت خطواتي.
قلبي تسرّع بشكل مؤلم، وكأنني أعود إلى الحلم مرة أخرى.
"نور…"
نطقتها دون أن أملك نفسي.
رفعت رأسها نحوي ببطء، والتقت عيوننا. نفس العيون… نفس النظرة.
مشيت نحوها، مرتبكًا، متوترًا، قلبي لا يصدق ما تراه عيني.
"أنا أعرفك…" قلتها بهمس، "رأيتك من قبل… في الحلم."
نظرت إليّ بدهشة، لكن دون خوف.
"أنا آسفة… هل التقينا من قبل؟"
"لا… أعني، نعم… لا أدري كيف أشرح… كنتِ ترتدين نفس هذا الفستان، تحت نفس هذه الشجرة، وكنا نتحدث… وكأننا نعرف بعضنا من سنين."
ابتسمت بخجل، ثم قالت:
"غريب… أنا حلمت بشيء قريب من هذا. حلمت بشخص… وكنت هنا فعلًا… لكني لا أتذكر ملامحه."
توقفت، ثم حدّقت بي وكأنها تحاول أن تتذكر.
"صوتك… فيه شيء مألوف."
يا الله…
هي حلمت أيضًا!
لكن لماذا نسيت كل شيء؟
لماذا أنا الوحيد الذي يتذكر كل التفاصيل، كل الكلمات، كل المشاعر؟
وقفت أمامها مشوشًا، عاجزًا عن تفسير أي شيء.
أردت أن أخبرها بكل شيء، لكن شيئًا ما في عينيها جعلني أتراجع.
ربما… لم يحن الوقت بعد.
لكنني أقسم بشيء لا أستطيع تفسيره:
هذه ليست مصادفة.
أنا وهي… نحن ارتبطنا بشيء أكبر من الحلم.
والآن، بدأ القدر يعيدنا إلى الطريق نفسه… من جديد.
عدت الى البيت لم يكن هناك جديد حل الضلام
في تلك الليلة، لم أكن أعرف إن كنت أنام لأرتاح… أم أنام فقط لأراها.
وضعت رأسي على الوسادة، وأنا أفكر في لقائنا الغريب اليوم. تلك النظرة، صوتها، ارتباكها وهي تحاول تذكّر شيء مطموس في عقلها…
لكن قلبي كان متأكدًا.
لقد رأيتها هناك… في الحلم. والآن رأيتها هنا.
أو… ربما لا فرق؟
انزلقت في النوم كما ينزلق ورق الشجر على سطح نهر هادئ.
وها أنا… هناك.
نفس المكان.
نفس الإضاءة الغامضة التي لا تأتي من شمس، بل من نور لا أعرف مصدره.
وهي… واقفة هناك، بنفس الفستان الأبيض، تنظر إليّ بعينين تحملان سؤالًا لا يقال.
اقتربتُ منها، بخطوات مرتجفة.
لكنها بادرتني هذه المرة، بصوتٍ أقرب للهمس:
"كيف… كيف استطعت أن تتذكر الحلم؟"
نظرتُ إليها في حيرة.
"ماذا تعنين؟"
قالت وهي تقترب أكثر، ملامحها يكسوها حزن شفيف:
"أنا… أنا أيضًا حلمت بك قبل أسابيع. كنت أراك في أماكن لا أعرفها، نتكلم، نضحك، أرتاح معك… لكنني عندما أستيقظ، أنسى كل شيء. كل شيء!
أشعر فقط أنني فقدت قطعة من روحي، ولا أعرف السبب…
لكنك… أنت تتذكر."
صمتُّ لثوانٍ. عقلي يبحث عن تفسير… لكن لا يوجد.
"هل نحن… هل نحن حقًا نحلم الآن؟ أم أننا نلتقي هنا كما نلتقي هناك؟"
أغلقت عينيها لحظة وقالت:
"قرأت ذات مرة في رواية ما… أن الأحلام ليست مجرد خيال.
إنها أبواب لعوالم نخلقها نحن.
عالم لا يُفرض علينا، بل عالم نختاره نحن.
عندما نستيقظ وننسى… فذلك لأن الحياة لا تريدنا أن نتمسك بما نحب."
نظرت إليها بدهشة، وقد بدأت كل خلية في جسدي ترتجف.
"لكنني لم أنسَ. أنا تذكرتك، بحثت عنك… وجدتُك."
ابتسمت بلطف، ثم وضعت يدها على صدري، وقالت:
"ربما… لهذا السبب عدت إلى هنا الليلة. ربما قلبك هو البوابة."
ثم بدأ كل شيء يختفي… ملامحها، صوتها، المكان…
استيقظت.
وقلبي… كان ينبض بشدة كما لو أنني غبت عن الوعي، وعدت من عالم آخر.