-
- إنضم
- 23 فبراير 2023
-
- المشاركات
- 56,406
-
- مستوى التفاعل
- 25,183
- مجموع اﻻوسمة
- 26
وردة قايين ...بقلم الجوري ...

وردة قايين...
حياتنا ليست كما نراها بأفلام الكارتون، بدايات متعثرة، وبطلة مظلومة، ونهايات سعيدة، والحشو زائف. نحن نحيا ما لا يُرى بالأفلام، لسنا مجرد قصص في كتاب أطفال ترويه الجدات ليَتعظ الصغار. نحن أعمق من أن نُسجن بين دفّتي كتاب وبضع أوراق...
أرتجف دون أن أقصد.
لا، بل أقصد، لكنني لا أختار. والفرق بين القصد والاختيار رقيق كحدود الصبر حين يداهمه ضجيج العيون. هذه هبة للأسف نُزعت عني. قد أكون خطيئة أحد الأجداد الذين وروا التراب، أو خطيئة إحدى الجدّات المتشحات بالسواد بعد رحيل السند لهن. وقد أكون أبعد من هذا وذاك… قد أكون وردة قايين. نعم، أحب أن أرى نفسي هكذا، على الأقل، رغم الخطيئة، أبقى وردة، ورغم ما بي، أرى الاهتزاز مجرد رياح تعصف بي، ولكن لا أتناثر.
أذكر في طفولتي ذلك العش الصغير لطير لم أعد أذكر اسمه. أذكر ابن الجيران حين تسلّق الشجرة وأمسك بطفل العصفور. كان بلا ريش، مجرّدًا من الملابس، مجرد قطعة لحم، لكن ذلك لم يشفع له. بدأ بسكب الماء عليه، وبدأ العصفور بمحاولات فاشلة للحركة، كان فزعًا، أحسست به، كان مثلي. هو بالماء، وأنا بالموقف. هو يرتجف، وأنا أهتز.
صرخت به ليبتعد عن الصغير، لكن خانني صوتي، ويداي، وعيناي. نعم، خانتني معًا. لم أستطع أن أنقذ الصغير، كان يلفظ أنفاسه تحت الماء، وابن الجيران يضحك، وينعتني بالملبوسة.
نعم، كان يوئد صغيرًا، ويئد محاولتي.
يدي تُصفّق وحدها أحيانًا، تطرق الطاولة، ترمش بعين واحدة، ترفع حاجبها بتعجرف لا يشبهني. وأقف أمام المرآة لأتفاوض مع جسدي، فأجده قد حسم رأيه منذ سنوات: لن يخضع. لا للعرف، لا للسكوت، لا للرغبة في التماهي مع سائر النساء اللاتي يتقنّ فن الظهور بلا أثر. لم أعد أناظر المرايا، فهي أعطتني حكمًا سابقًا لا مجال لتغييره. أسدلت الستائر على المرايا، ولم أعد أذكر فحوى ملامحي...
أعيش داخل جسد يُقاطعني. كلما قررت أن أكون واضحة، يصرخ لساني بكلمات لا أؤمن بها. ينطق باسم الرب في توقيت خاطئ، يلعن حين أريد أن أبتسم، يتهكم حين أبكي. أبدو، في عيونهم، مهرّجة مسكونة، لكني في داخلي… سجينة تحلم بأن تُشرح أمام فلاسفة بدل أطباء.
أتحدث إلى نفسي بصيغة الغائب: "هي لا تريد أن تكون هكذا."
ثم أعود وأكذب: "بل تريد، لكنها خائفة من أن تُفهَم."
إنني أرتجف، نعم، لكن ارتجافي ليس خللاً في النظام العصبي، بل احتجاج لغوي. جسدي يؤمن أن العالم لا يُصغي إلا لمن يطرق الطاولة. فأطرقها بلا وعي، ثم أكتب في الليل، في دفاتر خفية، أنني أؤمن بالهدوء، وأنني كنت أحب الصمت، قبل أن يُجبرني عقلي أن أُعبّر عنه بصوت عالٍ.
حين كنت صغيرة، كانت أمي تقول: "لا تحاولي أن تشرحي لهم، الناس لا يفهمون." فتعلمت أن أتحكم في حزني، وأُطلق سراح يدي. تعلمت أنني مختلفة قبل أن أفهم معنى الاختلاف. أقلمت نفسي وهاجرت إلى القطب، حيث لا أرى، حيث لا أحد مثلي إلا ذلك الشفق، تمازجه، حركته، انفعالاته، اضطراباته، شامخ دون مبرر...
هناك ما يشبهني في الزلازل الصغيرة.
تلك التي لا تُسجّلها الأجهزة، لكنها تُفزع العصافير من الأشجار.
أنا تلك الزلزلة.
لا تُدمّر، لا تُرى، لكنها تغيّر شكل الغصن.
.....
الساعة تشير إلى التاسعة والربع. أعرف الوقت من شكل الضوء على عتبة الباب أكثر مما أعرفه من عقارب الساعة. الضوء هنا ليس محايدًا… إنه سائل ساخن يفضح كل ما يمسه.
أرتدي معطفي الرمادي – الهادئ كمن يريد أن يعتذر عن نفسه – وأمسك بالمفتاح كما تمسك الأرملة خاتم زواجها بعد الموت: بقليل من الوفاء، وكثير من الخوف.
الباب يُفتح بصوت كأنين قديم. أتنفس ببطء، أراجع عضلات وجهي. أبتسم. لا أريد أن تصفعني نوبة أمام البقال، أو تتسلل شتيمة من فمي حين تسألني العجوز عن سعر الخبز.
الشارع لا يعرف الرفق.
يدهس خطواتي بكعب نساء مستعجلات، وأكتاف رجال ينظرون للأرض كأنها مرآة لكبريائهم. أراقب ظلي على الرصيف. إنه لا يرتجف، فقط أنا أفعل.
صوت طفل يضحك من بعيد، وصوت آخر يصرخ: "ماما، انظري لهذه تصنع حركات غريبة بوجهها !"
أتابع السير. لا ألتفت،كيف لي أن التفت إعتدت على المضي دون أدنى احتجاج
اليد تبدأ. رعشة صغيرة، كأنها تحية سرية لجمهور غير مرئي.
أضمها في جيبي.
تتسلل كلمة من فمي: "تباً."
لم أقصدها. ربما كنت أفكر بها، لكني لم أرسلها. إنها مثل طائر يفلت من نافذة ذهنية، فيطير أمام العامة وكأنه ينتمي لي،أحيانا أجد من شتمته يستحق لكني أخاف أن أفصح.
العيون تلتفت.
السيدة ذات الحجاب الوردي تسرّ لرجل بجوارها، "اووه مسكينة يبدو انها ملبوسة."
لم أعد أخاف من الشفقة، أخاف فقط من التأويل.
أصل إلى المكتبة. الملاذ الأخير. أُدخل المفتاح، أستقبل رائحة الورق القديم كشهيق طمأنينة. في الداخل، الكتب لا تحكم عليّ.
الكتب فقط… ترتعش صفحتها حين أفتحها، فتربت عليّ، كأنها تفهم.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : وردة قايين ...بقلم الجوري ...
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء
افتح كتابا واقراه ولكن هذي المررة
كسرت القووانين وانا اتهيأ للنوم مستمتعة بقصتك جووري اتمنى ان نام عنند النهايه موودتي لك