الجوري
ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة

-
- إنضم
- 23 فبراير 2023
-
- المشاركات
- 61,491
-
- مستوى التفاعل
- 25,290
- مجموع اﻻوسمة
- 26
الفساد يبدأ بالطمأنينة....
كعلبة سردين، صغيرة، مغلقة بإحكام، مغلفة بالبراءة الكاذبة التي تخفي ما تحت السطح من فسادٍ صامت، كنا نظنها ملاذًا، نجاةً مؤقتة من جوعٍ لا علاقة له بالطعام، بل بذلك الفراغ الذي يتكوّر فيه الإنسان كجنينٍ في رحم العدم. كانت العلبة هناك، لامعة، جاهزة، تحمل وعدًا سهلاً في زمنٍ معقّد. أكلناها. وفتحنا بابًا لا رجعة منه.
في الفم، لم تكن كما توقّعنا. لم تكن لذيدة، لم تكن حتى محتملة. كانت مريرة كخيبةٍ لا صوت لها، تشبه الطعم المعدني للندم، تشبه الوطن حين يذوب تحت اللسان، لا لأنك تكرهه، بل لأنك ظننت أنه يُؤكل دون أثر جانبي. كنا نظن أن ما يُغلق بإحكام لا يفسد، أن الغلاف يحمي، أن التوقّعات تكفي لحماية الجسد من صدمة الطعم.
لكن الغثيان لم يكن في الأمعاء. لا، لم يكن كذلك.
الغثيان استقرّ في القلب. في الإدراك. في تلك المنطقة الرمادية حيث تتكدّس البديهيات المتعفّنة، حيث نخزّن أوهامنا في علبٍ محكمة الإغلاق، ونكتب عليها: "صالح للاستعمال الإنساني".
تمامًا كما دخل إيزاناغي إلى أعماق يوميو ليعيد إيزانامي من الموت، وهو يظن أنها ما تزال كما كانت: طاهرة، جميلة، مغلقة على نورها القديم، فإذا به يراها وقد تعفّنت، وقد خرجت منها الأرواح النتنة... كذلك نحن، نفتح ذواتًا حسبناها مأوى، فإذا بها قبور، نضيء شمعة الأمل داخلنا لنرى وجه الحقيقة المتحلّلة.
العلبة ليست مجرد علبة. العلبة هي ذاتنا حين نكتم تناقضاتنا، نضغط على مشكلاتنا، نغلق على أحلامنا المهشّمة، ثم ننسى أن ما يُخزّن طويلاً يفسد، حتى وإن لم يُفتح. الفساد لا يحتاج إلى هواء، أحيانًا يكفيه الوقت.
وحين فُتح الغطاء، لم يخرج منه مجرد دخان فاسد. خرجت رائحة عمر بأكمله:
العلاقات التي بقينا فيها لأننا خفنا، الأفكار التي آمنّا بها لأن التصديق أيسر من التفكير، الانتماءات التي حملناها كأعلام، ثم اكتشفنا أنها كانت أكفانًا.
هل الفساد كان في العلبة؟
أم فينا، نحن الذين اخترنا ألا نشم؟ الذين صدّقنا الغلاف؟ الذين قالوا لأنفسهم: "هذا الطعم السيئ... طبيعي"؟
العلبة كانت فاسدة، نعم، لكننا نحن من أكلناها بكامل إرادتنا.
وهنا، في منتصف الغثيان، في صمت ما بعد الطعمة الأولى، تكتشف أن العطب لا يكمن في الفعل، بل في الثقة. في غياب الحذر. في الاعتياد.
وهكذا هو الإنسان: كعلبة سردين. مغلق في ذاته، يظن نفسه صالحًا لمجرّد أن أحدًا لم يفتح غطاءه بعد. لكن الداخل شيء آخر. الداخل مزيج من الملح والخوف، من الأمل الذي تخمّر بصمت حتى فسد. والاختبار لا يكون في الفساد، بل في الاعتراف به. في مواجهته. في أن تفتح غطاءك ذات يوم، وتشمّ، وتقول: "كفى."
في النهاية، لم نأكل سردينًا مفسدًا فحسب.
أكلنا أنفسنا ونحن نكذب أننا لا نعرف الطعم.
أكلنا الوعد المعلّب، الذاكرة المغلّفة، والأمل المؤجل على رفّ المعنى.
والآن، وقد انفتح الغطاء، لم يبقَ سوى سؤال واحد يطفو على سطح الزيت:
كم من العلب ما زلنا نخزّنها فينا، ونسمّيها: نجاة؟
في الفم، لم تكن كما توقّعنا. لم تكن لذيدة، لم تكن حتى محتملة. كانت مريرة كخيبةٍ لا صوت لها، تشبه الطعم المعدني للندم، تشبه الوطن حين يذوب تحت اللسان، لا لأنك تكرهه، بل لأنك ظننت أنه يُؤكل دون أثر جانبي. كنا نظن أن ما يُغلق بإحكام لا يفسد، أن الغلاف يحمي، أن التوقّعات تكفي لحماية الجسد من صدمة الطعم.
لكن الغثيان لم يكن في الأمعاء. لا، لم يكن كذلك.
الغثيان استقرّ في القلب. في الإدراك. في تلك المنطقة الرمادية حيث تتكدّس البديهيات المتعفّنة، حيث نخزّن أوهامنا في علبٍ محكمة الإغلاق، ونكتب عليها: "صالح للاستعمال الإنساني".
تمامًا كما دخل إيزاناغي إلى أعماق يوميو ليعيد إيزانامي من الموت، وهو يظن أنها ما تزال كما كانت: طاهرة، جميلة، مغلقة على نورها القديم، فإذا به يراها وقد تعفّنت، وقد خرجت منها الأرواح النتنة... كذلك نحن، نفتح ذواتًا حسبناها مأوى، فإذا بها قبور، نضيء شمعة الأمل داخلنا لنرى وجه الحقيقة المتحلّلة.
العلبة ليست مجرد علبة. العلبة هي ذاتنا حين نكتم تناقضاتنا، نضغط على مشكلاتنا، نغلق على أحلامنا المهشّمة، ثم ننسى أن ما يُخزّن طويلاً يفسد، حتى وإن لم يُفتح. الفساد لا يحتاج إلى هواء، أحيانًا يكفيه الوقت.
وحين فُتح الغطاء، لم يخرج منه مجرد دخان فاسد. خرجت رائحة عمر بأكمله:
العلاقات التي بقينا فيها لأننا خفنا، الأفكار التي آمنّا بها لأن التصديق أيسر من التفكير، الانتماءات التي حملناها كأعلام، ثم اكتشفنا أنها كانت أكفانًا.
هل الفساد كان في العلبة؟
أم فينا، نحن الذين اخترنا ألا نشم؟ الذين صدّقنا الغلاف؟ الذين قالوا لأنفسهم: "هذا الطعم السيئ... طبيعي"؟
العلبة كانت فاسدة، نعم، لكننا نحن من أكلناها بكامل إرادتنا.
وهنا، في منتصف الغثيان، في صمت ما بعد الطعمة الأولى، تكتشف أن العطب لا يكمن في الفعل، بل في الثقة. في غياب الحذر. في الاعتياد.
وهكذا هو الإنسان: كعلبة سردين. مغلق في ذاته، يظن نفسه صالحًا لمجرّد أن أحدًا لم يفتح غطاءه بعد. لكن الداخل شيء آخر. الداخل مزيج من الملح والخوف، من الأمل الذي تخمّر بصمت حتى فسد. والاختبار لا يكون في الفساد، بل في الاعتراف به. في مواجهته. في أن تفتح غطاءك ذات يوم، وتشمّ، وتقول: "كفى."
في النهاية، لم نأكل سردينًا مفسدًا فحسب.
أكلنا أنفسنا ونحن نكذب أننا لا نعرف الطعم.
أكلنا الوعد المعلّب، الذاكرة المغلّفة، والأمل المؤجل على رفّ المعنى.
والآن، وقد انفتح الغطاء، لم يبقَ سوى سؤال واحد يطفو على سطح الزيت:
كم من العلب ما زلنا نخزّنها فينا، ونسمّيها: نجاة؟
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : الفساد يبدأ بالطمأنينة....
|
المصدر : خواطر بريشة الاعضاء