-
- إنضم
- 23 فبراير 2023
-
- المشاركات
- 65,010
-
- مستوى التفاعل
- 26,307
- مجموع اﻻوسمة
- 31
وحيد بين الرماد ..
بين صفعات الريح ودنوّ الندى من أطراف أناملي، آخر هبات، آخر شعور، لا شيء حولي. الحرب ابتلعت كل شيء. لم يبقَ ساسة، ولا جنود، ولا مأمورون. لم يبقَ بشر ليُبادوا.
من تحت كُوّةٍ صمدت، لا أعلم كيف، ها أنا أجرّ جسدي، أحمل بضع كِسر خبز، حافي القدمين، وثيابي ممزقة لا تستر مني شيئًا. كأني آدم أول من وطئت قدماه الأرض، لكن هو كان معه حوّاء لينجب ويؤنس ويعمّر. أما أنا، فوحدي. حتى ظلي انسحب عني، أطفأ آخر سيجارة في منفضة الوقت، وهمس لي: لن أبقى.
جلت ببصري علّي أرى، علّي أسمع. لا شيء. صمت تام. لا هَبَوب ولا دَبَوب. فقط رياح تعبث بعلب الصفيح، وأصابع قدمي تنقر الرصاص على الأرض. وقفت بمنتصف، لا أعلم أهو شارع أم حيّ أم عمارة، كل شيء مسوّى بالأرض.
هبطتُ أرضًا، أعدّ حسراتي: ماذا لو أنني قلت "لا"؟ ماذا لو تمردت يوم طلبوا مني أن أبقى، أن أكون آخر الشهود؟ كنتُ مريضًا بالخوف، أبقيتُ خوفي حجةً كي أُخفي جبني.
أتذكر الآن طفولتي: كان الأولاد يسرقون غدائي ويضربونني ويمزقون ثيابي، وأعود لأمي أبكي. فتخرج من عند بيت النار، وجنتاها مشوحتان بالحمرة، تنفض يديها من الطحين العالق بجُلابيتها، تتفقدني، ثم تنطلق إلى الشارع تكيل الشتائم لأهل الأولاد — لأمهاتهم بالتحديد. كانت درعي الحامي دومًا. رحلت، ورحلت معها جُلابيتها وأرغفة الخبز الساخنة.
تنهدت وأنا أقضم قطعة خبز جافة، وتمتمت: والآن صرتُ آخر من يتنفّس أوكسجين الأرض، آخر من يطرح بجسده نفاياتٍ على ترابها. آخر همهمة، آخر رائحة عرق، آخر خطوات. لا أحد غيري. لا أحد.
أعاتب أو أقرع. مسحتُ دمعة ترقرق من عيني. أصاب جروحي بقروح لا تشفى. أنفض غبارًا خفيًا عن بنطالي وأحدث أرجلي: أصفعها بيدي، أقرعها وألومها. هل كان البقاء بطولة، أم خيانة؟ أيّ حياة هذه التي تُعاش الآن؟ ألم تقدروا أن تسيروا بي مع الركب؟ لمَ لم تتحركوا؟
فجأة، ودون أي إنذار، سقطت ستارة سوداء على البصر، وظهر كائن أسود يلتف ويتلوى حولي، كأنه يبتلع الضوء. ارتعش جسدي، وامتلأ قلبي برهبة لا أعرف لها اسمًا، كأن الليل صار كائنًا حيًا يراقب خطواتي، يحصي أنفاسي، ويختبر صبري.
هدوء لا يقطعه إلا حسيس، كأنه تنفّخ من شقوق الأرض نفسها، يخرج من تحت قدميّ ويملأ الهواء حولي، يتردد كهمس الروح الممزقة:
"هل ظننت أن النجاة خلاص؟ هل اعتقدت أن الجسد حين يظل حيًا يكون قد انتصر؟"
لم أجد كلمات لأجيب، لا صراخ، ولا دموع. بقيت واقفًا، مسلوب الإرادة، أستشعر وزن كل دقيقة مرت، كأنها حجر يسقط داخل صدري، وكأن الزمان نفسه أصبح عقابًا.
أتذكر شعوري عندما ارتطم جسد أخي بالمحراث؛ كان غضًا وأنا كنت غبيًا ألهو به وهو يشجعني. تناثرت الذكريات بعد ذلك، وتذكرت ما قالت أختي الكبرى: إنه أصبح مجموعة من الفراشات الزرقاء. صدقتها نهارًا، بل كل نهار، ثم شتمتها على كذبها في كل حلم جاءني به، وأنا أرى أخي مفترشًا بلا فراشات…
أُدرك متأخرًا أن اللحظة التي لو عاد بي الزمن إليها لم تكن معركة ولا حربًا، ولا سقوط مدينة، ولا لحظة رحيل أخي، ولا دفاع أمي، ولا عودة أختي ببقع زرقاء على عينها وجسدها بعد زواجها، ولا ثورة أبي على من نعته بالمخنث.
كانت اللحظة أبسط من كل هذا: أن أصرخ معهم "لن أبقى"، أن أهرب مع أول قافلة، أن أختار الفناء مع الجموع بدل هذا الخلود المقيت. أنا أناني، نعم. انتهازي، نعم.
أكتب وصيتي الأخيرة، لا لأحد، بل للريح....
أيها القادم من بعد العدم، إن وُجدت يومًا، لا تظن أن الوحدة بطولة، ولا تُصدق أن البقاء انتصار. إن لم تجد من تحيا معه، فالموت في الزحام أشرف من الخلود في الصمت.
لكنّي أكتب وأعرف: لن يقرأ أحد. الورق سيصير رمادًا، والريح نفسها ستنسى. وربما هذا هو العقاب الأخير: أن يظلّ صوتي حبيس رأسي، لا يصل، لا ينقذ، لا يُخلّد.
وليدة اللحظة...31.8.2025
من تحت كُوّةٍ صمدت، لا أعلم كيف، ها أنا أجرّ جسدي، أحمل بضع كِسر خبز، حافي القدمين، وثيابي ممزقة لا تستر مني شيئًا. كأني آدم أول من وطئت قدماه الأرض، لكن هو كان معه حوّاء لينجب ويؤنس ويعمّر. أما أنا، فوحدي. حتى ظلي انسحب عني، أطفأ آخر سيجارة في منفضة الوقت، وهمس لي: لن أبقى.
جلت ببصري علّي أرى، علّي أسمع. لا شيء. صمت تام. لا هَبَوب ولا دَبَوب. فقط رياح تعبث بعلب الصفيح، وأصابع قدمي تنقر الرصاص على الأرض. وقفت بمنتصف، لا أعلم أهو شارع أم حيّ أم عمارة، كل شيء مسوّى بالأرض.
هبطتُ أرضًا، أعدّ حسراتي: ماذا لو أنني قلت "لا"؟ ماذا لو تمردت يوم طلبوا مني أن أبقى، أن أكون آخر الشهود؟ كنتُ مريضًا بالخوف، أبقيتُ خوفي حجةً كي أُخفي جبني.
أتذكر الآن طفولتي: كان الأولاد يسرقون غدائي ويضربونني ويمزقون ثيابي، وأعود لأمي أبكي. فتخرج من عند بيت النار، وجنتاها مشوحتان بالحمرة، تنفض يديها من الطحين العالق بجُلابيتها، تتفقدني، ثم تنطلق إلى الشارع تكيل الشتائم لأهل الأولاد — لأمهاتهم بالتحديد. كانت درعي الحامي دومًا. رحلت، ورحلت معها جُلابيتها وأرغفة الخبز الساخنة.
تنهدت وأنا أقضم قطعة خبز جافة، وتمتمت: والآن صرتُ آخر من يتنفّس أوكسجين الأرض، آخر من يطرح بجسده نفاياتٍ على ترابها. آخر همهمة، آخر رائحة عرق، آخر خطوات. لا أحد غيري. لا أحد.
أعاتب أو أقرع. مسحتُ دمعة ترقرق من عيني. أصاب جروحي بقروح لا تشفى. أنفض غبارًا خفيًا عن بنطالي وأحدث أرجلي: أصفعها بيدي، أقرعها وألومها. هل كان البقاء بطولة، أم خيانة؟ أيّ حياة هذه التي تُعاش الآن؟ ألم تقدروا أن تسيروا بي مع الركب؟ لمَ لم تتحركوا؟
فجأة، ودون أي إنذار، سقطت ستارة سوداء على البصر، وظهر كائن أسود يلتف ويتلوى حولي، كأنه يبتلع الضوء. ارتعش جسدي، وامتلأ قلبي برهبة لا أعرف لها اسمًا، كأن الليل صار كائنًا حيًا يراقب خطواتي، يحصي أنفاسي، ويختبر صبري.
هدوء لا يقطعه إلا حسيس، كأنه تنفّخ من شقوق الأرض نفسها، يخرج من تحت قدميّ ويملأ الهواء حولي، يتردد كهمس الروح الممزقة:
"هل ظننت أن النجاة خلاص؟ هل اعتقدت أن الجسد حين يظل حيًا يكون قد انتصر؟"
لم أجد كلمات لأجيب، لا صراخ، ولا دموع. بقيت واقفًا، مسلوب الإرادة، أستشعر وزن كل دقيقة مرت، كأنها حجر يسقط داخل صدري، وكأن الزمان نفسه أصبح عقابًا.
أتذكر شعوري عندما ارتطم جسد أخي بالمحراث؛ كان غضًا وأنا كنت غبيًا ألهو به وهو يشجعني. تناثرت الذكريات بعد ذلك، وتذكرت ما قالت أختي الكبرى: إنه أصبح مجموعة من الفراشات الزرقاء. صدقتها نهارًا، بل كل نهار، ثم شتمتها على كذبها في كل حلم جاءني به، وأنا أرى أخي مفترشًا بلا فراشات…
أُدرك متأخرًا أن اللحظة التي لو عاد بي الزمن إليها لم تكن معركة ولا حربًا، ولا سقوط مدينة، ولا لحظة رحيل أخي، ولا دفاع أمي، ولا عودة أختي ببقع زرقاء على عينها وجسدها بعد زواجها، ولا ثورة أبي على من نعته بالمخنث.
كانت اللحظة أبسط من كل هذا: أن أصرخ معهم "لن أبقى"، أن أهرب مع أول قافلة، أن أختار الفناء مع الجموع بدل هذا الخلود المقيت. أنا أناني، نعم. انتهازي، نعم.
أكتب وصيتي الأخيرة، لا لأحد، بل للريح....
أيها القادم من بعد العدم، إن وُجدت يومًا، لا تظن أن الوحدة بطولة، ولا تُصدق أن البقاء انتصار. إن لم تجد من تحيا معه، فالموت في الزحام أشرف من الخلود في الصمت.
لكنّي أكتب وأعرف: لن يقرأ أحد. الورق سيصير رمادًا، والريح نفسها ستنسى. وربما هذا هو العقاب الأخير: أن يظلّ صوتي حبيس رأسي، لا يصل، لا ينقذ، لا يُخلّد.
وليدة اللحظة...31.8.2025
الجوري
اسم الموضوع : وحيد بين الرماد ..
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء