تواصل معنا

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
65,622
مستوى التفاعل
26,424
مجموع اﻻوسمة
31

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
65,622
مستوى التفاعل
26,424
مجموع اﻻوسمة
31
طاغية Neel
Picsart_25-09-25_18-51-11-232.jpg
الفصل الأول – المقطع الأول

إلى من يقرأ هذه الرسالة بعد زمنٍ طويل،
هكذا أبدأ، كمن يفتح بابًا على ماضٍ لم يُطوَ بعد، وكأن الزمان حين يتجسّد في الكلمات يصبح أوفى من البشر وأكثر عنادًا من الجبال.

لقد تعلّمت أن اقتحامات القدر في الدروب الهادئة ليست كالرعد حين يعلن نفسه، بل هي كظلٍّ عابر يزيح ستارة الصمت عن وجه البيت، فيملأه ضجيجًا غريبًا لا يعرف الساكنون كيف يفسّرونه. كنتُ أراها أشبه بثوبٍ مترامي الأطراف، نمسك بطرفه فإذا بأطرافٍ أخرى تفلت من بين أصابعنا، لتذكّرنا أن الحياة لا تُضبط بيدٍ واحدة.

ذلك اليوم، السابع عشر من أيلول، لم يكن رقمًا على ورق تقويم، بل كان سطرًا محفورًا في مسار حياتي، نقطةً فاصلة بين ما كنت وما غدوت، لا لأنني اخترت، بل لأن الأقدار صاغت القصة على هذا الوجه.

كنتُ أهبط الدرج مع حلول المساء، متّجهةً إلى المقهى القريب، كما لو أن خطواتي تعرف الطريق أكثر مما تعرفه روحي. المقهى لم يكن مجرد مكانٍ لاحتساء القهوة، بل كان طقسًا، بروتوكولًا يوميًا أمارسه منذ أن سكنتُ هذا الحي الصامت. حيٌّ يشبه ديرًا معلّقًا على كتف الزمن: لا أطفال فيه، لا صخب، لا ضحكاتٍ مبعثرة في الأزقة، فقط بيوت لعجائز هجرتهم أصوات أولادهم إلى مدنٍ بعيدة، وبيوت أخرى موصدة كأنها تحفظ أسرارًا لا تريد أن تُروى.

أذكر أنني قبل أربعة أشهر فقط، حين زارتني يلما، جاءتني بخبرٍ مفاجئ، وجب عليّ أن أغادر البيت الذي أسكنه، لأن إخوتي من أبي قرروا بيعه. لم أجادلها؛ كنت أعلم في قرارة نفسي أن أبي لم يترك لي شيئًا يقي عُري الأيام. لقد كان يفضل أبناءه الذكور عليّ، وكنت أقبل ذلك صامتة، كأنني خُطّت في دفتر القدر على هذا النحو.

بحثت عن مأوى يناسبني، حتى لم أجد إلا هذه الشقة الغريبة بشروطها الأغرب: أن يكون الساكن شابًا لا فتاة. فالحيّ، أو من يديره، كان يخشى أن تُخدش صورة النظام الاجتماعي لديهم بامرأة تعيش بينهم وحدها. لم يكن الأمر صعبًا عليّ، فقد نشأت في بيتٍ كله ذكور، حتى أن رائحة الأنوثة قد تلاشت مني، وغدت غريبة على أنفي كما على الآخرين. مثلت الصمت، وتقمّصت دور الخرساء، حتى خُيّل لي أن صوتي نُسي كما تُنسى أغنية قديمة لم يعد أحد يتذكر لحنها.

كانت الشقة ضيّقة، جدرانها باهتة اللون كأنها شاخت قبل أوانها، لكن نافذتها المطلة على الزقاق الضيق منحتني عزاءً صغيرًا. كنت أراقب من خلالها حركة القطط أكثر مما أراقب البشر؛ فهي الكائنات الوحيدة التي لم تهجر هذا الحيّ. بعض الليالي، كنت أسمع حفيف خطوات على السطح، أو ارتطام بابٍ في بيتٍ مهجور، فأرتجف قليلاً، ثم أواسي نفسي بأن الوحدة ليست دائمًا فراغًا، بل قد تكون حضورًا خفيًا يراقبنا بصمت.

حين دخلتُ المقهى تلك الليلة، لفحتني رائحة البنّ والدخان كعاصفة صغيرة من دفءٍ مألوف. كان المقهى أشبه بمسرح، أدواره محددة سلفًا: النادل بوجهه المتعب الذي لا يتغيّر، روّاد قلائل يجلسون في صمتٍ مطبق، وصوت مذياع قديم يذيع أغانٍ من زمنٍ أبعد مما نتصور. جلستُ إلى طاولتي المعتادة، طاولة خشبية في زاوية لا يزورها أحد سواي، فجاء النادل بنفس الدقة التي اعتدت عليها، واضعًا فنجان القهوة أمامي وقطعة الكعك، ثم دسّ في يدي كتابًا عتيقًا اعتاد أن يقدّمه لي.

كان الكتاب رفيقًا قديماً، مُهترئ الأطراف لكنه يملك تلك المسحة من الجلال التي لا تمنحها السنين إلا لما يستحق البقاء. كم مرة تخيّلت أن أيدٍ كثيرة مرّت على صفحاته، أن أرواحًا مجهولة قرأت هذه الكلمات نفسها، ربما بعيونٍ دامعة، أو مبتسمة، أو حتى مترددة. الكتب، على خلاف البشر، تعرف كيف تحتفظ بأسرار قرّائها دون أن تفشيها.

فتحت الكتاب، وشرعت أتصفحه ببطءٍ يليق بمقام الأشياء القديمة، حتى بلغت الصفحة السابعة عشرة. كانت الصفحة غريبة، منتفخة بعض الشيء، كأنها تبتلع سرًا أو تخبئ نفسًا محتجزًا. مررت أصابعي على أطرافها فشعرت بشق صغير يكاد لا يُرى. وضعت سيجارتي على الطاولة، أبعدت القهوة، وأخرجت مبرد أظافري الصغير. بدأت أفتحه برويّة، حتى انشقّ الغلاف الورقي وكشف عن ورقة بلونٍ مختلف، كأنها غُرست هناك في زمنٍ آخر.

رفعتها، فإذا بها فارغة. ابتسمتُ في نفسي، وقلت: يا لهم من أذكياء، أرادوا أن يشدّوا انتباهي بورقة بيضاء. لكنها لم تكن بيضاء تمامًا؛ كان على أطرافها أثرٌ باهت، كظلّ كتابة مُحيت بعناية، كأن أحدهم أراد أن يترك شيئًا ويخفيه في الوقت نفسه. ترددت لحظة، ثم دسستها في حقيبتي الصغيرة، وكأنني أخشى أن يلمحها أحد.

أعدت الكتاب إلى الطاولة، أكملت فنجان قهوتي، ثم نهضت حاملةً علبة سجائري، قداحتي، الرسالة البيضاء، وقطعة الكعك التي قررت أن أتركها لبيتي. لم ألتفت إلى النادل، لكنني كنت أشعر أن عينيه تتبعانني، وكأن المقهى نفسه لم يكن مجرد مكان، بل عينًا واسعة تسجّل كل حركةٍ أقوم بها.

عدتُ أدراجي في الأزقة الصامتة. الليل هناك كان أثقل من المعتاد، كأنه يضغط على صدري بحجرٍ بارد. خطواتي بدت بلا نهاية، أو لعلني أنا التي فقدت القدرة على عدّها. كنت أسمع صدى أقدامي يتردد بين الجدران العالية، وفي كل مرة يعلو الصدى، يخيل لي أن أحدهم يخطو ورائي. التفتُّ أكثر من مرة، فلم أرَ إلا الظلال المتشابكة على الأرصفة.

وحين وصلت إلى شقتي، وضعت الورقة على المنضدة، وأعددت فنجانًا آخر من القهوة. جلست أمامها، أنظر إليها كما ينظر المرء إلى مرآة جديدة يخشى أن تكشف له ما لم يتوقع رؤيته. مرّ الوقت بطيئًا، كأنه لا يريد أن يزحزح تلك اللحظة. كنت أسمع دقات الساعة على الحائط كأنها مطرقة تضرب في رأسي.

تساءلت: لماذا يترك أحدهم ورقة فارغة بين صفحات كتاب؟ هل هي رسالة لم تكتب بعد؟ أم رسالة كتبت ومسحت؟ وهل يمكن للبياض أن يكون أبلغ من الحبر؟ شعرت أنني أمام لغز صغير، لكنه يفتح أبوابًا واسعة على فراغٍ أكبر.

أطفأت النور، وأبقيت مصباح الطاولة مضاءً، وجعلت الورقة تحت عينيّ حتى وأنا أحتسي قهوتي. كانت كجسدٍ مسجّى على خشبة انتظار، بلا ملامح، لكن ثقله لا يُحتمل. لم أدرِ أن تلك اللحظة البسيطة ستكون حدًّا فاصلاً بين عالمين.
 
1 Comment
ندى الورد
ندى الورد commented
لك سرد جميل يشد القارئ جووو
وتفاصيل تبعث الفضول لكل فصل قادم
استمتعت بهذا الفصل
 

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
65,622
مستوى التفاعل
26,424
مجموع اﻻوسمة
31
طاغية Neel
Picsart_25-09-26_21-53-57-424.jpg
الفصل الأول – المقطع الثاني

ما إن جلستُ، وامتدّت يدي إلى الفنجان، حتى دوّى في الغرفة صوتٌ خافت، كقفزة لحنٍ منسيّ انقطع عن وتره فجأة. كانت قطة الجيران، تلك المخلوقة الفضولية التي لا تعرف الحدود، قد اندفعت من النافذة المفتوحة وقفزت فوق الطاولة كزائرةٍ بلا إذن. ارتجفت الطاولة تحت وقع مخالبها، واندلق الفنجان دفعة واحدة. سال السائل الأسود كسيلٍ صغير من ليلٍ مسكوب، وانهمرت القهوة على الورقة البيضاء التي كنت قد وضعتها جانبًا.

صرختُ بهمٍ مكتوم، وغضبي أشدّ من أن يُحتمل. كنت أودّ أن أمزّق جسد القطة إلى أشلاء، لكني اكتفيت بدفعها بعصبية، فوثبت إلى الأرض وهربت، تاركةً خلفها خدوشًا صغيرة على سطح الطاولة، وكأنها تواقيعها السرية. لكن الوقت كان قد فات. الورقة التي حسبتُها فارغة بدأت تتحوّل أمام ناظريّ: ألوان القهوة تتشرب في أليافها كأنها دماء تتدفق في جسد حيّ، وشيئًا فشيئًا انبثق الحبر من لاشيء، خطوط متشابكة أول الأمر، ثم أحرف تتشكّل برويّة كأنها تستعيد نفسها من أعماق الغياب.

اقتربتُ أكثر، كأن وجهي يُسحب نحوها بقوة مغناطيسية، وقرأت بذهولٍ ما تشكّل:

"مهما يكن العهد الذي أنتِ فيه، فقد كتبتُ هذه التعويذة لتعيدك إليّ. لا شيء آخر."

تردّدتُ بين أن أضحك أو أن أرتعب. الكلمات، مع بساطتها، حملت ثِقَلًا لم أعرف له مثيلًا. كأنها لم تُكتب لي، بل انبثقت من داخلي، من شيء لم أواجهه بعد. أحسست بأن الغرفة تضيق عليّ شيئًا فشيئًا، الجدران تتنفس كما لو أن لها رئات خفية، والنافذة تُصفّر بأنينٍ غامض لم أسمعه من قبل. أمسكت بالورقة بكلتا يديّ، وإذا بها تهتزّ تحت أصابعي كما يهتزّ طائر صغير يحاول أن يفلت من قفص.

ثم اندفع فجأة تيار جارف من قوةٍ غير مرئية. لم يكن ريحًا ولا زلزلة، بل شيئًا يفوق الاثنين معًا: إعصار من الداخل، يسحبني إلى الورقة، إلى الفراغ الذي كان منذ قليل بياضًا مطموسًا. لم أصرخ، ليس لأنني تملّكتُ الشجاعة، بل لأن صوتي لم يطاوعني، وكأن حنجرتي تحجّرت. كان جسدي يذوب في الضوء الذي شقّ صفحة الورقة، ثم اندفعت كلّيًا عبرها.

لحظة واحدة كانت كافية لأن ينهار كل شيء من حولي. شعرتُ أن الأرض تبتعد، أن البيت ينكمش كصورة قديمة تُطوى في كفّ غامضة. رأيت شوارع الحي تتلاشى، المقهى يختفي، حتى وجه أبي الذي لم يبرح ذاكرتي، تلاشى هو الآخر في دخانٍ أبيض. كنتُ أنحدر بلا قاع، كأنني أهبط في بئرٍ لا تنتهي.

ثم جاء الارتطام.

كان كصاعقة ألقت بي على أرض قاسية، حجارتها أكثر صلابة من أي أرض عرفتها. شعرت أن صوت الارتطام لا يُسمع في الهواء فقط، بل في عظامي نفسها، حتى خُيّل إليّ أن كل ضلعٍ في جسدي قد انكسر. الألم كان جارفًا، بلا رحمة. حاولت أن أتحرك، لكن أطرافي ثقيلة، وكأنها لم تعد تخصني.

فتحت عينيّ على سماءٍ لم أرها من قبل. لم تكن سوداء، ولا زرقاء، بل خليط من ألوان متحركة كأوشحة من حريرٍ علّقتها يد خفية في علياء بعيدة. تتبدل الألوان ببطء: لحظةً خضراء، لحظةً بنفسجية، ثم تتناثر بينها شرارات ذهبية كأنها بقايا نجوم محطّمة.

كان الهواء أثقل من أن يُستنشَق بسهولة، ومع ذلك لم أستطع مقاومة رغبتي في ابتلاعه. رائحته مزيج من التراب الرطب بعد مطرٍ قديم، والحديد الصدئ، وزهرٍ بريّ لا أعرف اسمه. شعرت أن أنفي يكتشف عالماً لم يشمه قط.

كنتُ ملقاة هناك، ألهث، أحاول أن أستوعب أنني لم أعد في عالمي. الأرض تحت جسدي لم تكن ترابًا ولا صخرًا خالصًا، بل حجارة كريستالية عجيبة، بعضها يشعّ بوميضٍ خافت، كأنها تبتلع الضوء ثم تعيده ببطء. حاولت أن أرفع يدي، فرأيت أن الورقة ما زالت في قبضتي، رطبة، وقد انطفأت كلماتها كما ينطفئ جمرٌ بعد عاصفة. لم يبقَ إلا أثر بنيّ باهت، وكأنها استنفدت سرّها.

حاولت أن أنهض. الألم يقيّدني، لكن فضولًا داخليًا كان أقوى من الكسر. كنت أعلم في مكانٍ عميق من روحي أنني إن لم أتحرك الآن فسأبقى هنا، في هذا العدم، إلى الأبد.

جمعت قوتي، وأسندت كفي إلى الأرض الغريبة. ملمسها كان أملسًا كزجاجٍ بارد، لكنه ينبض أحيانًا كجلدٍ حيّ. ارتجفت. لم أعرف إن كنت أمشي فوق أرضٍ أم فوق كائنٍ هائل يغطّ في سبات.

نهضت مترنّحة، ورفعت رأسي. المشهد أمامي كان يخلط بين الحلم والكوابيس: جبال شاهقة بلون أرجواني تمتد كأنها أعمدة تسند السماء المتغيرة، أشجار ضخمة ذات جذوع ملتوية أشبه بأجساد متحجرة، وأوراقها تلمع كالمرايا. من بعيد، كان ثمة نهر، لكن مياهه ليست مياهاً؛ كانت تتوهج بضوءٍ أزرق وتجري ببطءٍ غير مألوف، كما لو أن الزمن نفسه يسيل داخله.

كل شيء بدا مألوفًا وغريبًا في آن واحد. سمعت أصواتًا خافتة، همسات تتردّد في الجو، كأن الهواء ينقل لي أسرارًا لا تخصني. حاولت التركيز، فالتقطت كلمات متقطعة بلغة لم أعرفها، لكنها دخلت أذني كأنها لغتي الأم، ثم تلاشت قبل أن أفهم.

ضغطت الورقة إلى صدري. كنت أخشى أن تفلت مني، فهي خيط الأمان الوحيد بين عالمي القديم وهذا المكان. كانت دافئة على غير العادة، كأنها قلب صغير ينبض.

تقدّمت خطوة، فسمعت الأرض تئنّ. تراجعت، ثم تقدمت من جديد. الصوت تكرر، لكنه لم يكن أنينًا بل كأنه ترحيب أو تحذير. لم أعد أفرق. قلبي كان يدق بعنف، وجسدي كله يسير بدافع غامض لا أتحكم فيه.

وقفت هناك، في منتصف الفراغ، أراقب السماء تتلوّن والأرض تتنفس. سألت نفسي بصوتٍ خافت لم يسمعه أحد:
"هل عدتُ إلى زمنٍ آخر؟ أم أنني دخلتُ زمنًا لم يُكتشف بعد؟"

لم أجد جوابًا. لكنني كنت أعلم يقينًا أن عودتي، إن حدثت، لن تكون كما كنت.
 
2 Comments
ندى الورد
ندى الورد commented
الله عليك سحبتينا للخيال جو وكأننا في
عالم اساطير متابعة لك راائعة انت
 
ندى الورد
ندى الورد commented
انتظر منك الفصل القادم
 

A.M.A.H

مشرف اقسام الشعر
الاشراف
إنضم
10 أغسطس 2021
المشاركات
3,054
مستوى التفاعل
1,180
مجموع اﻻوسمة
4
طاغية Neel
مشاهدة المرفق 174126
الفصل الأول – المقطع الأول

إلى من يقرأ هذه الرسالة بعد زمنٍ طويل،
هكذا أبدأ، كمن يفتح بابًا على ماضٍ لم يُطوَ بعد، وكأن الزمان حين يتجسّد في الكلمات يصبح أوفى من البشر وأكثر عنادًا من الجبال.

لقد تعلّمت أن اقتحامات القدر في الدروب الهادئة ليست كالرعد حين يعلن نفسه، بل هي كظلٍّ عابر يزيح ستارة الصمت عن وجه البيت، فيملأه ضجيجًا غريبًا لا يعرف الساكنون كيف يفسّرونه. كنتُ أراها أشبه بثوبٍ مترامي الأطراف، نمسك بطرفه فإذا بأطرافٍ أخرى تفلت من بين أصابعنا، لتذكّرنا أن الحياة لا تُضبط بيدٍ واحدة.

ذلك اليوم، السابع عشر من أيلول، لم يكن رقمًا على ورق تقويم، بل كان سطرًا محفورًا في مسار حياتي، نقطةً فاصلة بين ما كنت وما غدوت، لا لأنني اخترت، بل لأن الأقدار صاغت القصة على هذا الوجه.

كنتُ أهبط الدرج مع حلول المساء، متّجهةً إلى المقهى القريب، كما لو أن خطواتي تعرف الطريق أكثر مما تعرفه روحي. المقهى لم يكن مجرد مكانٍ لاحتساء القهوة، بل كان طقسًا، بروتوكولًا يوميًا أمارسه منذ أن سكنتُ هذا الحي الصامت. حيٌّ يشبه ديرًا معلّقًا على كتف الزمن: لا أطفال فيه، لا صخب، لا ضحكاتٍ مبعثرة في الأزقة، فقط بيوت لعجائز هجرتهم أصوات أولادهم إلى مدنٍ بعيدة، وبيوت أخرى موصدة كأنها تحفظ أسرارًا لا تريد أن تُروى.

أذكر أنني قبل أربعة أشهر فقط، حين زارتني يلما، جاءتني بخبرٍ مفاجئ، وجب عليّ أن أغادر البيت الذي أسكنه، لأن إخوتي من أبي قرروا بيعه. لم أجادلها؛ كنت أعلم في قرارة نفسي أن أبي لم يترك لي شيئًا يقي عُري الأيام. لقد كان يفضل أبناءه الذكور عليّ، وكنت أقبل ذلك صامتة، كأنني خُطّت في دفتر القدر على هذا النحو.

بحثت عن مأوى يناسبني، حتى لم أجد إلا هذه الشقة الغريبة بشروطها الأغرب: أن يكون الساكن شابًا لا فتاة. فالحيّ، أو من يديره، كان يخشى أن تُخدش صورة النظام الاجتماعي لديهم بامرأة تعيش بينهم وحدها. لم يكن الأمر صعبًا عليّ، فقد نشأت في بيتٍ كله ذكور، حتى أن رائحة الأنوثة قد تلاشت مني، وغدت غريبة على أنفي كما على الآخرين. مثلت الصمت، وتقمّصت دور الخرساء، حتى خُيّل لي أن صوتي نُسي كما تُنسى أغنية قديمة لم يعد أحد يتذكر لحنها.

كانت الشقة ضيّقة، جدرانها باهتة اللون كأنها شاخت قبل أوانها، لكن نافذتها المطلة على الزقاق الضيق منحتني عزاءً صغيرًا. كنت أراقب من خلالها حركة القطط أكثر مما أراقب البشر؛ فهي الكائنات الوحيدة التي لم تهجر هذا الحيّ. بعض الليالي، كنت أسمع حفيف خطوات على السطح، أو ارتطام بابٍ في بيتٍ مهجور، فأرتجف قليلاً، ثم أواسي نفسي بأن الوحدة ليست دائمًا فراغًا، بل قد تكون حضورًا خفيًا يراقبنا بصمت.

حين دخلتُ المقهى تلك الليلة، لفحتني رائحة البنّ والدخان كعاصفة صغيرة من دفءٍ مألوف. كان المقهى أشبه بمسرح، أدواره محددة سلفًا: النادل بوجهه المتعب الذي لا يتغيّر، روّاد قلائل يجلسون في صمتٍ مطبق، وصوت مذياع قديم يذيع أغانٍ من زمنٍ أبعد مما نتصور. جلستُ إلى طاولتي المعتادة، طاولة خشبية في زاوية لا يزورها أحد سواي، فجاء النادل بنفس الدقة التي اعتدت عليها، واضعًا فنجان القهوة أمامي وقطعة الكعك، ثم دسّ في يدي كتابًا عتيقًا اعتاد أن يقدّمه لي.

كان الكتاب رفيقًا قديماً، مُهترئ الأطراف لكنه يملك تلك المسحة من الجلال التي لا تمنحها السنين إلا لما يستحق البقاء. كم مرة تخيّلت أن أيدٍ كثيرة مرّت على صفحاته، أن أرواحًا مجهولة قرأت هذه الكلمات نفسها، ربما بعيونٍ دامعة، أو مبتسمة، أو حتى مترددة. الكتب، على خلاف البشر، تعرف كيف تحتفظ بأسرار قرّائها دون أن تفشيها.

فتحت الكتاب، وشرعت أتصفحه ببطءٍ يليق بمقام الأشياء القديمة، حتى بلغت الصفحة السابعة عشرة. كانت الصفحة غريبة، منتفخة بعض الشيء، كأنها تبتلع سرًا أو تخبئ نفسًا محتجزًا. مررت أصابعي على أطرافها فشعرت بشق صغير يكاد لا يُرى. وضعت سيجارتي على الطاولة، أبعدت القهوة، وأخرجت مبرد أظافري الصغير. بدأت أفتحه برويّة، حتى انشقّ الغلاف الورقي وكشف عن ورقة بلونٍ مختلف، كأنها غُرست هناك في زمنٍ آخر.

رفعتها، فإذا بها فارغة. ابتسمتُ في نفسي، وقلت: يا لهم من أذكياء، أرادوا أن يشدّوا انتباهي بورقة بيضاء. لكنها لم تكن بيضاء تمامًا؛ كان على أطرافها أثرٌ باهت، كظلّ كتابة مُحيت بعناية، كأن أحدهم أراد أن يترك شيئًا ويخفيه في الوقت نفسه. ترددت لحظة، ثم دسستها في حقيبتي الصغيرة، وكأنني أخشى أن يلمحها أحد.

أعدت الكتاب إلى الطاولة، أكملت فنجان قهوتي، ثم نهضت حاملةً علبة سجائري، قداحتي، الرسالة البيضاء، وقطعة الكعك التي قررت أن أتركها لبيتي. لم ألتفت إلى النادل، لكنني كنت أشعر أن عينيه تتبعانني، وكأن المقهى نفسه لم يكن مجرد مكان، بل عينًا واسعة تسجّل كل حركةٍ أقوم بها.

عدتُ أدراجي في الأزقة الصامتة. الليل هناك كان أثقل من المعتاد، كأنه يضغط على صدري بحجرٍ بارد. خطواتي بدت بلا نهاية، أو لعلني أنا التي فقدت القدرة على عدّها. كنت أسمع صدى أقدامي يتردد بين الجدران العالية، وفي كل مرة يعلو الصدى، يخيل لي أن أحدهم يخطو ورائي. التفتُّ أكثر من مرة، فلم أرَ إلا الظلال المتشابكة على الأرصفة.

وحين وصلت إلى شقتي، وضعت الورقة على المنضدة، وأعددت فنجانًا آخر من القهوة. جلست أمامها، أنظر إليها كما ينظر المرء إلى مرآة جديدة يخشى أن تكشف له ما لم يتوقع رؤيته. مرّ الوقت بطيئًا، كأنه لا يريد أن يزحزح تلك اللحظة. كنت أسمع دقات الساعة على الحائط كأنها مطرقة تضرب في رأسي.

تساءلت: لماذا يترك أحدهم ورقة فارغة بين صفحات كتاب؟ هل هي رسالة لم تكتب بعد؟ أم رسالة كتبت ومسحت؟ وهل يمكن للبياض أن يكون أبلغ من الحبر؟ شعرت أنني أمام لغز صغير، لكنه يفتح أبوابًا واسعة على فراغٍ أكبر.

أطفأت النور، وأبقيت مصباح الطاولة مضاءً، وجعلت الورقة تحت عينيّ حتى وأنا أحتسي قهوتي. كانت كجسدٍ مسجّى على خشبة انتظار، بلا ملامح، لكن ثقله لا يُحتمل. لم أدرِ أن تلك اللحظة البسيطة ستكون حدًّا فاصلاً بين عالمين.
بدايه وتسائلات من البطله تعطيك انطباع أن الروايه بتكون في مستوى أخر

النص يطرح أسئلة عميقة حول القدر والحرية: هل نحن من نصنع حياتنا، أم أن الأحداث تتشكل بشكل مسبق وتفرض علينا مسارها؟ الراوية تتأمل في اقتحامات القدر في حياتها، وتصفها بأنها ليست صاخبة مثل الرعد، بل كظل عابر، كأنها قوة خفية تتحرك برفق لكنها لا تُقاوم. هنا السؤال الفلسفي العميق: هل القدر شيء خارجي يُسقط نفسه علينا، أم أننا نشارك في صناعته؟

يبدو أن النص يلمح إلى ازدواجية الوجود: نحن في الوقت نفسه متلقون للأحداث وفاعلون فيها. فالقدر يقدّم لنا "الخيوط"، لكن اليد التي تمسك بها ليست خاضعة بالكامل؛ هناك هامش نتحرك فيه. أي أن الحرية البشرية ليست مطلقة، لكنها موجودة، محصورة ضمن حدود القدر. وهذا يذكّرنا بفكرة "الحرية المقيّدة" عند فلاسفة مثل سبينوزا، حيث الحرية الحقيقية لا تعني القدرة على فعل كل شيء، بل القدرة على الفعل وفق فهمنا للطبيعة وللزمن الذي نحيا فيه.

النص يثير أيضًا سؤال الفراغ والوحدة: الشقة ضيقة، الجيران غائبون، المدينة صامتة، والراوية تشعر بأن الصوت والأنوثة قد تلاشت منها. هنا يظهر سؤال فلسفي: هل الفراغ هو نقص في العالم الخارجي، أم حالة داخلية للوعي؟

الفراغ في النص ليس مجرد غياب الناس أو الأصوات، بل هو مساحة شعورية، حالة من التأمل العميق. الفيلسوف الفرنسي سارتر يرى أن الفراغ أو "العدم" هو جوهر الوعي الإنساني: نحن نعي أنفسنا كوجود قائم في فراغ، ونبحث عن معنى يملأه. الراوية تراقب القطط، تلمس الصمت في الحي، وتتعلم أن "الوحدة ليست دائمًا فراغًا، بل قد تكون حضورًا خفيًا يراقبنا بصمت"، أي أن الفراغ يمكن أن يتحول إلى وعي، والعدم إلى مساحة للاكتشاف الذاتي.

ثم يطرح النص لغز الورقة البيضاء في الكتاب، وهو استعارة فلسفية قوية: هل يمكن للبياض أن يكون أبلغ من الحبر؟ وهل الرسالة غير المكتوبة تحمل معنى أعمق من المكتوبة؟

الورقة البيضاء تمثل الإمكانات غير المحدودة، تلك اللحظات في الحياة التي لم تتشكل بعد، أو الأفكار التي لم تُكتب بعد. كما في فلسفة جون ديوي وهايدجر، الفراغ (أو "العدم") ليس فراغًا سلبيًا، بل هو حضور يمكن أن يحمل كل المعاني الممكنة. الورقة البيضاء تُذكّرنا بأن الغياب أحيانًا يحمل حضورًا أقوى من الوجود الظاهر: صمت القلب أبلغ من الكلام في بعض اللحظات، ومساحة الانتظار أعمق من أي حدث وقع.

هناك أيضًا سؤال ضمني عن الزمن والذاكرة: التاريخ يصبح في النص أكثر من مجرد ترتيب للأيام، اليوم السابع عشر من أيلول ليس مجرد تاريخ على التقويم، بل "سطر محفور في مسار حياتها".

الزمن في النص ليس مجرد حركة خطية، بل تجسيد لحالة داخلية، لتقاطع الماضي والحاضر والمستقبل في تجربة واحدة. وكما يقول برغسون، الزمن الحقيقي هو الزمن النفسي، التجربة الذاتية للوعي، وليس التتابع الميكانيكي للساعات والتواريخ. التاريخ الشخصي يصبح ذاكرة مفعمة بالمعنى، و"نقطة فاصلة بين ما كنت وما غدوت" هي لحظة إدراك الذات في سياق الأحداث التي شكلتها.

أخيرًا، النص يثير سؤال الهوية والعزلة: الراوية نشأت في بيت ذكوري، فصمتها أصبح جزءًا من هويتها، وصوتها نُسي كما تُنسى أغنية قديمة.

الهوية هنا ليست ثابتة، بل نتاج للعلاقات بين الفرد والمجتمع، بين الداخل والخارج. العزلة تجبرها على مواجهة ذاتها، وتكشف لها أن الصمت يمكن أن يكون اختيارًا ووعيًا، وأن الهوية ليست مجرد حضور في العالم الخارجي، بل إدراك داخلي لما نحتفظ به لأنفسنا. كما تقول سيمون دي بوفوار: "الهوية تتشكل في العلاقة مع الآخر، لكنها أيضًا تتكشف في اللحظات التي نكون فيها وحدنا"


قصه وسرد جميل ولي عوده للفصل الثاني
 
Comment

sitemap      sitemap

أعلى