مشاهدة المرفق 174126
الفصل الأول – المقطع الأول
إلى من يقرأ هذه الرسالة بعد زمنٍ طويل،
هكذا أبدأ، كمن يفتح بابًا على ماضٍ لم يُطوَ بعد، وكأن الزمان حين يتجسّد في الكلمات يصبح أوفى من البشر وأكثر عنادًا من الجبال.
لقد تعلّمت أن اقتحامات القدر في الدروب الهادئة ليست كالرعد حين يعلن نفسه، بل هي كظلٍّ عابر يزيح ستارة الصمت عن وجه البيت، فيملأه ضجيجًا غريبًا لا يعرف الساكنون كيف يفسّرونه. كنتُ أراها أشبه بثوبٍ مترامي الأطراف، نمسك بطرفه فإذا بأطرافٍ أخرى تفلت من بين أصابعنا، لتذكّرنا أن الحياة لا تُضبط بيدٍ واحدة.
ذلك اليوم، السابع عشر من أيلول، لم يكن رقمًا على ورق تقويم، بل كان سطرًا محفورًا في مسار حياتي، نقطةً فاصلة بين ما كنت وما غدوت، لا لأنني اخترت، بل لأن الأقدار صاغت القصة على هذا الوجه.
كنتُ أهبط الدرج مع حلول المساء، متّجهةً إلى المقهى القريب، كما لو أن خطواتي تعرف الطريق أكثر مما تعرفه روحي. المقهى لم يكن مجرد مكانٍ لاحتساء القهوة، بل كان طقسًا، بروتوكولًا يوميًا أمارسه منذ أن سكنتُ هذا الحي الصامت. حيٌّ يشبه ديرًا معلّقًا على كتف الزمن: لا أطفال فيه، لا صخب، لا ضحكاتٍ مبعثرة في الأزقة، فقط بيوت لعجائز هجرتهم أصوات أولادهم إلى مدنٍ بعيدة، وبيوت أخرى موصدة كأنها تحفظ أسرارًا لا تريد أن تُروى.
أذكر أنني قبل أربعة أشهر فقط، حين زارتني يلما، جاءتني بخبرٍ مفاجئ، وجب عليّ أن أغادر البيت الذي أسكنه، لأن إخوتي من أبي قرروا بيعه. لم أجادلها؛ كنت أعلم في قرارة نفسي أن أبي لم يترك لي شيئًا يقي عُري الأيام. لقد كان يفضل أبناءه الذكور عليّ، وكنت أقبل ذلك صامتة، كأنني خُطّت في دفتر القدر على هذا النحو.
بحثت عن مأوى يناسبني، حتى لم أجد إلا هذه الشقة الغريبة بشروطها الأغرب: أن يكون الساكن شابًا لا فتاة. فالحيّ، أو من يديره، كان يخشى أن تُخدش صورة النظام الاجتماعي لديهم بامرأة تعيش بينهم وحدها. لم يكن الأمر صعبًا عليّ، فقد نشأت في بيتٍ كله ذكور، حتى أن رائحة الأنوثة قد تلاشت مني، وغدت غريبة على أنفي كما على الآخرين. مثلت الصمت، وتقمّصت دور الخرساء، حتى خُيّل لي أن صوتي نُسي كما تُنسى أغنية قديمة لم يعد أحد يتذكر لحنها.
كانت الشقة ضيّقة، جدرانها باهتة اللون كأنها شاخت قبل أوانها، لكن نافذتها المطلة على الزقاق الضيق منحتني عزاءً صغيرًا. كنت أراقب من خلالها حركة القطط أكثر مما أراقب البشر؛ فهي الكائنات الوحيدة التي لم تهجر هذا الحيّ. بعض الليالي، كنت أسمع حفيف خطوات على السطح، أو ارتطام بابٍ في بيتٍ مهجور، فأرتجف قليلاً، ثم أواسي نفسي بأن الوحدة ليست دائمًا فراغًا، بل قد تكون حضورًا خفيًا يراقبنا بصمت.
حين دخلتُ المقهى تلك الليلة، لفحتني رائحة البنّ والدخان كعاصفة صغيرة من دفءٍ مألوف. كان المقهى أشبه بمسرح، أدواره محددة سلفًا: النادل بوجهه المتعب الذي لا يتغيّر، روّاد قلائل يجلسون في صمتٍ مطبق، وصوت مذياع قديم يذيع أغانٍ من زمنٍ أبعد مما نتصور. جلستُ إلى طاولتي المعتادة، طاولة خشبية في زاوية لا يزورها أحد سواي، فجاء النادل بنفس الدقة التي اعتدت عليها، واضعًا فنجان القهوة أمامي وقطعة الكعك، ثم دسّ في يدي كتابًا عتيقًا اعتاد أن يقدّمه لي.
كان الكتاب رفيقًا قديماً، مُهترئ الأطراف لكنه يملك تلك المسحة من الجلال التي لا تمنحها السنين إلا لما يستحق البقاء. كم مرة تخيّلت أن أيدٍ كثيرة مرّت على صفحاته، أن أرواحًا مجهولة قرأت هذه الكلمات نفسها، ربما بعيونٍ دامعة، أو مبتسمة، أو حتى مترددة. الكتب، على خلاف البشر، تعرف كيف تحتفظ بأسرار قرّائها دون أن تفشيها.
فتحت الكتاب، وشرعت أتصفحه ببطءٍ يليق بمقام الأشياء القديمة، حتى بلغت الصفحة السابعة عشرة. كانت الصفحة غريبة، منتفخة بعض الشيء، كأنها تبتلع سرًا أو تخبئ نفسًا محتجزًا. مررت أصابعي على أطرافها فشعرت بشق صغير يكاد لا يُرى. وضعت سيجارتي على الطاولة، أبعدت القهوة، وأخرجت مبرد أظافري الصغير. بدأت أفتحه برويّة، حتى انشقّ الغلاف الورقي وكشف عن ورقة بلونٍ مختلف، كأنها غُرست هناك في زمنٍ آخر.
رفعتها، فإذا بها فارغة. ابتسمتُ في نفسي، وقلت: يا لهم من أذكياء، أرادوا أن يشدّوا انتباهي بورقة بيضاء. لكنها لم تكن بيضاء تمامًا؛ كان على أطرافها أثرٌ باهت، كظلّ كتابة مُحيت بعناية، كأن أحدهم أراد أن يترك شيئًا ويخفيه في الوقت نفسه. ترددت لحظة، ثم دسستها في حقيبتي الصغيرة، وكأنني أخشى أن يلمحها أحد.
أعدت الكتاب إلى الطاولة، أكملت فنجان قهوتي، ثم نهضت حاملةً علبة سجائري، قداحتي، الرسالة البيضاء، وقطعة الكعك التي قررت أن أتركها لبيتي. لم ألتفت إلى النادل، لكنني كنت أشعر أن عينيه تتبعانني، وكأن المقهى نفسه لم يكن مجرد مكان، بل عينًا واسعة تسجّل كل حركةٍ أقوم بها.
عدتُ أدراجي في الأزقة الصامتة. الليل هناك كان أثقل من المعتاد، كأنه يضغط على صدري بحجرٍ بارد. خطواتي بدت بلا نهاية، أو لعلني أنا التي فقدت القدرة على عدّها. كنت أسمع صدى أقدامي يتردد بين الجدران العالية، وفي كل مرة يعلو الصدى، يخيل لي أن أحدهم يخطو ورائي. التفتُّ أكثر من مرة، فلم أرَ إلا الظلال المتشابكة على الأرصفة.
وحين وصلت إلى شقتي، وضعت الورقة على المنضدة، وأعددت فنجانًا آخر من القهوة. جلست أمامها، أنظر إليها كما ينظر المرء إلى مرآة جديدة يخشى أن تكشف له ما لم يتوقع رؤيته. مرّ الوقت بطيئًا، كأنه لا يريد أن يزحزح تلك اللحظة. كنت أسمع دقات الساعة على الحائط كأنها مطرقة تضرب في رأسي.
تساءلت: لماذا يترك أحدهم ورقة فارغة بين صفحات كتاب؟ هل هي رسالة لم تكتب بعد؟ أم رسالة كتبت ومسحت؟ وهل يمكن للبياض أن يكون أبلغ من الحبر؟ شعرت أنني أمام لغز صغير، لكنه يفتح أبوابًا واسعة على فراغٍ أكبر.
أطفأت النور، وأبقيت مصباح الطاولة مضاءً، وجعلت الورقة تحت عينيّ حتى وأنا أحتسي قهوتي. كانت كجسدٍ مسجّى على خشبة انتظار، بلا ملامح، لكن ثقله لا يُحتمل. لم أدرِ أن تلك اللحظة البسيطة ستكون حدًّا فاصلاً بين عالمين.
وتفاصيل تبعث الفضول لكل فصل قادم
استمتعت بهذا الفصل