رواية «لَهْو الهَجَارِس»
خَوَافِقٌ مُذْنِبة،
زَارَهَا المَوتُ المُفجِعة
هَل يُغْفَرُ الخَطَايا؟
أمِ الجَحيِمُ مصِير
مَا البُنُوذُ فِي حُكْمِ غَابٍ؟
وَحاكِم الغَابِ
أَسَدٌ مُتَعَطِشٌ لِدِمَاءٍ؟
وَالوَزِيرُ
ذِئبٌ لِلرَعِيَّةِ مُفْتَرِسٌ!
وَقَاضِ العَدلِ فِيهِ
هَجَارِسٌ لِلمَوتِ حَاكِم
ثُمَّ قَتِيلُهُ وَجْبَتُه!
«01»
ضباب يخنق أنفاس المدينة، وصمت يكسره ضجيج اشباح على أرصفة الطريق تتمايل كالسكارى في وحشة الفجر الضبابي الكئيب دون أن تُرى من جنس البشر.
رغم أنها الفجر، لكن لا يثبت ذلك سوى عقارب الساعة؛ فيكاد الناظر لوحشة السماء يقسم بأن الليل لازال قائما بما فيه من غيوم سوداء تذبح أنوار النهار.
جيمس... رجل أعمال ذو وجه بشوش أمام شاشات تلفاز بين عينيه براءة كبراءة الاطفال، وفي خفائه شر مستطير والظلام والشيطان.
له قصر عند حافة المدينة يكاد يكون في الخارج، مِنطقة بعيدة عن السكّان ولا ملامح فيه لحياة سوى ملامح الشر والأشباح.
وما يميّز موقع القصر العتيق، الغابة التي ابتدائها من حافة الطريق ثم يتوغل إلى العميق إلى البعيد. حيث فيه يعيش من الذئاب والمفترسات ما يعيش.
في يوم عطلته، كعادته المعتادة جيمس ركب سيارته محددا وجهته إلى مناطق الصيد،
بعد ان اجتاز بوابة القصر زاد من سرعة السيارة كما يحب، فرغم أنه عجوز بلغ من السنين سنينا والأرقام قد اهترأ كأوراق عتيقة،. لكنه لازال في قلبه قلب الشباب من ممارسة لهواياته وحبه للهو الحياة
في طريق شبه خالي من السيارات المارة، اقترب من المنعطف الذي يقود إلى الغابة، فعليه ضغط ببطء على المكابح يخفض من سرعة السيارة، لكن كان للسيارة رأي أخر، وكأن المكابح في فراغ ووجوده لـ لا شيء، فحاول مرات أخرى به يرفع قدمه ويضغط بقوة مرارا وتكرارا، والسيارة فقط مستمرة في سرعتها العالية دون توقّف أو ابطاء،
جيمس، أصابه شيء من الارتباك وكثيرٌ من الهلع، وفي ذروة جنون الاحداث وصخب نبض قلبه انحرفت السيارة عند المنعطف الثاني عن الطريق فتوغل إلى الغابة، وبسرعة السيارة العالية ولأرض الترابي الدبق فقط كانت وجهة السيارة نحو الأشجار، فارتطمت بشجرة بجانب السيارة ما تسبب بانقلاب السيارة وارتطام سقفها بشجرة أخرى ما عصره بين حديد السيارة وينهش عظامه بقوة ضغطتها، وما كانت إلا لحظات حتى غرق في ظلام والموت لاح له واقعا من خيال مع أدمع تراقصت على أجفانه من الألم والوحدة المريرة،...
متوغلا في قلب المدينة، عند مصانع بالية عتيقة، يملأ المكان شاحنات الكبيرة وخلف تلكم الشاحنات يُجرى صفقات لشياطين خبيثة مات القلب بين ضلوعهم وتشوهت ملامح الإنسانية في انعكاسات عيونهم
شاهدا للشر، يوجين أوقف سيارته السوداء الفارهة، على بعد مسافة من اناس مريبين ذوو لباس رسمية تبدو عليهم الحذر والخطر، نظر للحسناء التي بجانبه
- اذا ايتها الطبيبة كلير الهدف أمام عينيك، الانتقام،... بين كفّيك الأن إن شئتِ قبضتِ عليه وعصرتيه حتى أزهقت ذاك الروح الآثِم الخبيث.
بريبة لا تفارق نظرات عينيها، تتابع ملامح وجه يوجين، ما كانت تسعى له لسنين قد صار بين يديها، ولم يعد بينه وبينها إلا كلمة القبول منها لعرضه المغري،.
لكن...
ولأنه عرض مغري سهل المنال زرع في قلبها الهواجس والأوهام، عن مؤامرات قد يكون يحيكها صاحب العيون العسلية الجالس بجانبها خلف مقود السيارة، سألت تتابع باحتراف قسمات وجهه تبحث فيه عن أمارات المكر أو الكذب، رغم أنه ذو وجه وسيم مزيّن ببراءة الأطفال، لكن ليست هي من سيخدعها الوجه الوسيم
- كيف لي أن اعهد بأمنيات قلبي لمجرم يتربص حتى بقربى دمائه ولا يراعي القوانين ولا يبالي بسطوة الضمير، وكيف أتمن خائن يغدر بأخيه حياتي وانتقامي؟!
استكان نظراته من كلماتها الجريئة أمامه، صمت غلّف المكان فزاد ثقله على نفس كلير، مع ضبابية الاجواء والمجرمين الذين يحيطون بها في هذه اللحظة.
يوجين وضع ذراعيه على مقود السيارة بعينيه يراقب ذلك الأخ الشيطاني الخبيث، فهمس وقد لمع في عينيه حزن دفين لم يفلح بإخفائه عن نظرات كلير المتربصة لكل حركة منه
- إذا ما كان على حد نصل سيف موطئ القدم لنا،... لا جدوى من محاولة تجنّب الألم، إن بقينا واقفين أو سرنا الطريق في كلتا الحالتين لن نسلم من الأذى،... لكن ماذا إن كان بإمكاننا كسر السيف اللعين؟ حتى لو سقطنا، حتى لو كان الهلاك لنا، إن كان كذلك، فلما لا يكون هذا الهلاك مصيرنا سوية إذا!.
عقدت حاجبيها مستغربة أي الطلاسم به يهذي، هل له اخاه كالسيف القاطع؟، رغم أن لها عن هذه العائلة الكثير من العلوم، لكن كيف لها أن تفسر طلاسم مشاعرهم الغريبة أو عقد كلماتهم التي تحمل تحت كل حرف ألف معنى وألف من الألم.
سألت في رغبة منها لرفع كل حصونها والتأكد من انعدام الثغرات، بكلمات هجومية تارة، وتارة أخرى دفاعية. وكأنها قطة وقعت في عرين الوحش،
- سيد يوجين،... لما أنا؟ لا أجد أي سبب مقنع لما تفعل؟!! نعم كاي قتل أخي، لكن هل أخي هو الوحيد ضحيته؟ آ ليس من بين اقارب ضحاياه من يرغب في الانتقام سواي؟ بل كيف حكمت أني أرغب في الانتقام؟!
اعتدل بجلسته، ثم وضع يده على جيب معطفه أخرج منها صورة فوتوغرافية امسكها بين اصبعيه السبابة والوسطى ومدّها لها
تحدث وهو يسند ظهره على المقعد
- هذا... لأنك تشبهين زوجته القتيلة أيتها الطبيبة. الشبه بينكما،... غريب جدا وأنا واثق بأنك ستهدمين كل حصونه لو اتقنت دورك واستغللت جيدا شبهك بزوجته السابقة.
عينيها الزمردتين جامدتين على قاتل أخيها، بأصابعها النحيلة ذات البياض الناصع أعادت شعرها الاسود الحريري خلف اذنها،
نظرت الي يوجين الذي كان ينتظر ردها بصبر جميل فتحدثت بمساومة محاولة الحصول على بعض من القوة والرأي بين يديها
- سأكون عونا لك، لكن... لن استغل مهنتي او اقتل ضميري لأجل حروب الانتقام سيد يوجين.
امال شفتيه بضجر أن ما قالت لم ينل إعجابه ولا رضاه، ثم تحدث وهو يعتدل بجلسته محضّرا نفسه لقيادة السيارة
- الحياة، بحاجة للتضحية أحيانا لتستمر أيها الطبيبة، لا يشترط بالضحية أن يكون دماً او فراق، بل الضمير،. والبراءة وكل المشاعر الجميلة التي تحتضن القلب بغشاء زجاجي رقيق، فالزجاج غير قادر على الحماية من الرصاص عزيزتي .
زادت في عقدة حاجبيها، من فلسفته المزعجة في الحياة
هو صعب المراس... ويحيطه هالة من الشرّ مخيفة بالتأكيد، لا يستطيع اخفائها تحت قناع وسامته ومهنته النبيلة.
نظر إليها متأملا عينيها، فكتمت انفاسها بضيق من نظراته الغامضة، فمهما حاولت تفشل في فك ألغازه.
أكمل ما يريد قوله، يترقب ردة فعلها لكل كلمة ينطق بها
- الانتقام رهان، ثمنها حياتك، ما أعنيه أيتها الطبيبة، إن أردت الانتقام، قد تلطخين يديك في بحر من الدماء، قد... تستخدمين شهادتك للخدع والمكر لتحقيق مرادك، لسنا نعيش بعالم جميل كما تتوهمين، عالمنا مظلم أكثر مما قد تتصورين.
حسنا،... هي قريبة جدا من غايتها الأن، لكن هذا الثعلب الذي صبغ وجهه في الوان البراءة وخادع الكلمات به يتغنى مغيّرا للحقائق بأسلوبه الساحر الملتوي، كيف لها أن تثق به؟ هي قريبة جدا،... تكاد الوصول لمبتغاها لكن هذه مخاطرة أكبر مما تستطيع له. تعلم بأنها ستُغضِب الكثير في هذا القرار، لكن ليست مستعدة بعد لخوض مثل هذا الجنون.
- أنا لن أكون قاتلة. ليس على الأقل بهدف سخيف كالانتقام.
لرفضها الواضح ما عاد من فائدة للمواصلة في هذه المهزلة، لن يترجّها بالتأكيد، لكن تحدث وهو يحرك السيارة مستعدا للخروج من المكان الذي كان يقع عليه إلى الشارع العام
الآمر فقط، اشبه بعملية جراحية بين ضلوع الحياة
في العملية الجراحية ما أعلمه أيها الجراح يوجين أنك تسعى لإنقاذ المريض لا لقتله!
نعم... ولإنقاذ المريض اذا كنتُ وجدّتُ ورما خبيثا، سأستأصله بالتأكيد،.... وهذا هو المقصد أيتها الطبيبة فما كاي إلا ورم خبيث التصق بين ضلوع الحياة مهلكا الوجود، فيجب استئصاله، ليستمر نبض الحياة....
كلمات في قمة الابداع بنسج مبررات للقتل وتدمير حياة أدمي، لكن...
لا تزال تجهل الكثير وتستغرب، وتستريب الحال، فما كانت تتخيل ذات يوم أن قد يأتي لها أحد أفراد الأسرة ويمسك يدها معينا اياها للتوغل في هذه العائلة لتدميرها وفضح خبائث الاسرار التي في أعماقها
- أنت غريب،... هل أنت الشر أم الخير؟
اوقف السيارة على الإشارة الحمراء، نظر إليها ثم تحدث باتزان وسكون
- ما هو الخير؟ وما هو الشر؟، كيف نحكم لأي صنف ننتمي! ما الكلمات الضدية إلا من فلسفة الحياة، ولكل شخص زاوية منها يرى الملامح ويطلق عليه أحكامه المتطرفة.
اكمل الطريق بعد أن اضاء الأخضر في اشارة المرور.
بسكون وهدوء ينتظر منها الجواب، وهو الصبور في الصمت جميل الكلام شاملة المعان، ما يجعلها في حيرة من أمرها، هي لم تكن يوما قريبة منه، فلا تدري أتلين لسحر مبرراته فتلبّي دعوته لطبق الانتقام الشهي، أم تبقى صامدة أمام هذا الثعلب الماكر الذي يجيد تزيين القبيح ببضع كلمات ملتوية خادعة
اطبقت الصمت...
تعلم به لازال يحاول كسبها فقط ما يؤرقها، هل هو أهل للثقة؟ تدمير هذه العائلة شأنها، لكن الدخول إليها عبر ثعلب ماكر فكيف تضمن سلامتها وعيناه سيراقبانها دوما وحتما؟!
صمت لم تقطعه وهو احترمها رغم نظراته المتكررة نحوها بين الفينة والأخرى يترقب معالم وجهها في محاولة لالتقاط بعض من مشاعرها.
لها... هدفه ليس واضحا بل يشتتها، فأي شيء يجعل من الأخ ينصب الكمائن لأخيه؟ ، وأي ماض مجهول مخبأ خلف هذا الجمود! ، يوجين رغم انه انتقل للمشفى الذي تعمل فيه منذ اكثر من عام ألا انه قليل الكلام، لا يختلط بأي من زملائه، اسمه ال نورثن مكسب كبير للمشفى، ولهذا المدير يغض الطرف عن كثير من اخطائه واهماله، يوجين... الطبيب المعروف في المشفى كاملة باستهتاره وعناده والنرجسية التي تقطر منه تقطير، ابتسمت وهي تلتهم ملامح وجهه بعينيها خلسة منه باستراقها النظرات إليه فهذا اليوجين له من الوسامة نصيب وحظ كبير، عيناه عسليتان منهكتان بأخضر طفيف، شعره بني داكن اللون حريري طويل الخصلات بشيء يسير ، وله لحية خفيفة محددة بخفة دون مبالغة يزيده رجولة ووسامة، اضافة الى بشرته البيضاء المائلة للسمرة بعض الشيء، يعطيه جاذبية ملفتة للنظر، ابعدت نظراتها عنه تتابع الطريق، لكنها تذكرت أمرا، فأخرجت هاتفها، بين جهات الاتصال اختارت رقما ثم بخفة ويسر ارسلت رسالة محاولة أن لا يرى يوجين ما ترسل ولمن، وهو لم يكن بالمتطفل لينظر.
لكن تزامن وصول رسالة لهاتفها مع ايقافه السيارة في مرأب المشفى، ترجلت من السيارة وقبل أن تغلق الباب وهو ينتظر منها ذلك، نظرت إلى الرسالة الواردة، كشرت بضجر ثم دسّت هاتفها في حقيبتها، مالت بجسدها إلى الامام لتنخفض على مستوى السيارة ويدها مستقر على الباب، فحدثته بسؤال
اجابة قاطعة حازمة لا محال للنقاش اجابها يوجين قاطعا كلامها.
كشرت بضجر ولم تستسغ فعله، لكنه لن يكون هو إن لم يظهر غلاظته. فهو يوجين النرجسي الأناني، فما بقيت من حلّ امامها وخاصة بعد ما وصلها من رد أن تستغل الفرصة فأظهرت له موافقتها مرغمة.
ابتعدت عن السيارة ثم ضربت الباب بقوة مظهرة له جزء من غبنتها.
لكن، ما كل ما تفعله إلا لإسكات صوت الخوف الذي يرن اجراسه مستنفرة بحالة طوارئ يبعثر تنظيم انفاسها ويضطرب لها نبض فؤادها.
أما يوجين، رغم أنه كما يجب أن يكون الأن يجب عليه التواجد في مكتبه الخاص في المشفى، لكنه قرر وأخذها لنفسه حتى دون أن يخبر المدير اليوم إجازته...
حسنا في الواقع ان اجازاته لا تكاد تنتهي ، ولو أن طبيبا غيره كان لطُرد منذ زمن طويل للاستهتار الحاصل في الالتزامات.
ولكن يوجين شيء خاص بالنسبة للمدير، إذ أن فقط وجود اسم أل نورثن بقائمة اطباء المشفى. يجعل من المشفى ذات مجد.
اخذ هاتفه من الشاحن، ثم اتصل بمحبوبته التي هي مخطوبته اعلن ذلك مباشرة في التلفاز دون أن يترك أي إمكانيات للعائلة برفضها لسبب مكانتها الاجتماعية، وبعد ثورة عارمة في الإعلام بخبر وسيم آل نورثن الذي اختار شريكته فتاة من العامة بل وأن منحها اللقب حتى دون أن يتم الزواج ومراسمها رسميا فصارت تلقب بالسيدة نورثن.
أجابت له،
حرك سيارته من المرأب بصمت انتظرته
بعد أن خرج للشارع عاد إليها يتحدث معها وعيناه على الطريق ومن يسمع نغمة صوته عند حديثه معها يعلم مقدار ما يكنه من حب لها، فبعد كل شيء هي الحقيقة الوحيدة في حياته المليئة بالأكاذيب والأقنعة.
أين أجد الحبيبة؟
ما الأمر يوجين؟...
اجابت بنبرة بها الكثير من الارتباك فسأل يوجين وعقدة مستغربة تشكّلت بين حاجبيه
يعلم بها حين الكذب يتلون بين اطراف لسانها متراقصة على حروفها. لكن قرر تجاهل الأمر بما أنها لجأت للكذب، فسأل بجدية وقد وصل الى المنعطف الذي يقود الى الطريق العام المؤذّي لقصر العائلة
رفع حاجب مستنكرا كلامها لكنه وقرر مرة أخرى تجاهل حركاتها والذي كان يعني طرد غير مباشر، وهو النرجسي المغرور يوجين آل نورثن كيف له الرضى بالإهانة! ، فقط أغلق الخط في وجهها دون أن يطيل في الكلام وقد أثقل صدره بالحق تصرفها الغير اللائق معه، من كَذبها إلى طرده
ليس بالمتسلط، لكن كل ما يطلبه حياة يعانقها الحقيقة دون اللجوء إلى الأكاذيب تنهد بضجر، وقد تعكّر فرحته لنصر على الابواب يترقّبه، وعلى ذكر النصر تذكر والده جيمس كبير عائلة نورثن، فسأل والعقدة عادت لموقعها بين حاجبيه
- ماذا حصل مع العجوز؟ اتمنى فقط أن يسقط وينتهي ببساطة، دون ازعاج، ووجع رأس. ...
توقف عند بوابة القصر ينتظر أن يفتح له الحرّاس الباب بينهما هو كعادته الكسولة اتكأ على المقود ودموع النعاس يلمعن عند منحدرات أجفانه...
ايزابيلا في الأريكة في قصر آل نورثن، تجلس، وبشيء من الارتباك تفرك اصابعها بكفّها وحزن يزين ملامحها الناعمة، وكثير من الخوف يتراقص بين أوتار فؤادها، كذبة تفوهت بها لخاطبها لكنها تندمت كل الندم، رغم أنه الأن يجب أن يكون في المشفى لكن بما انه كان ينوي لقائها قد يكون عائد للقصر! ، رفعت نظرها لهذا الوغد الحقير الذي يجلس أمامها على الطاولة يناظرها
تحدث إليها بسؤال حزين كاذب وهو يعلم الأن ما ورطت نفسها به فإذ في الأغلب أن يوجين في الطريق
- اخي المسكين، ليت لو علم أن مخطوبته في القصر سرّا عنه، اتسأل ما الذي قد يدفع فتاة للكذب على خطيبها؟
عضت على شفتها السفلى بقهر من ادعائه البراءة وقد لامست في حروفه الشرّ
- أنت تتدعي وكأنك لا تعلم، دعني وشأني وكفاك أذية لأخيك ولي.
رفع يده على شعرها بعثره ثم تحدث مدّعيا الجهل ممثلا بإتقان للبراءة
- ما الذي تقولينه ايزابيلا، جين أخي الصغير كيف لي أن أؤذيه!
ابعدت يده عن شعرها الذهبي، ولحركتها تناثر خصلاته على كتفيها وظهرها بنعومة مغرية، تحدثت وعينيها تناظر عينيه بحقد وقهر
- أيها الثعلب الماكر...
قطعت جملتها على دخول يوجين الذي قد سمع جزء من كلماتها، وقف حيث لا يراه دانيال بصمت وسكون، رغم أن أعين ايزابيلا كان عليها، اشار بسبابته لفمه مشيرا لها أن تلتزم السكوت، فنظرت ايزابيلا نحو دانيال وقد تبدلت نظراتها إلى الخوف تخشى أن ينطق دانيال كلمة ما ويوجين خلفه. وبالفعل تحدث دانيال وهو يتابع بعينيه ملامحها الهادئة بأصلها والمرتعبة باصطناعها
- انفصلي عن يوجين ايزابيلا، قومي بإهانته على الإعلام واهذري كرامته حينه فقط سأسلمك التسجيل الذي تريدينه.
رفع يوجين حاجبا مستنكرا لهذا التهديد الصريح من دانيال لإيزابيلا ، توجه ببصره من دانيال نحو ايزابيلا التي تناظره وقد اصفرّت لون وجهها لسماعه شيء من أسرارها، ولنظراتها التفت دانيال ابتسم عندما وجد يوجين خلفه، لم يتكلم ينتظر ليرى إلى أي مدى سمع من حوارهما قبل أن يتهوّر
يوجين، ليس بمجنون ليواجه دانيال مباشرة فدانيال كتلة من المكر والخداع، يجيد الكذب أكثر من الصدق بنفسه وعليه هو فقط ارتدى قناع الجهالة والهدوء ثم تقدم بكسل ورمى نفسه على الأريكة
لم يجبها فقط مغمض عينيه بسكون وصوت التلفاز بصوت المذيعة ينساب لمسمعه وهو يترقب فيه الخبر، أمال شفته بضجر من تأخر الخبر، إذ يجب أن يظهر الأن او على الأقل أن يتحدثوا عن الأمر، لو أن جيمس حقا خرج باستخدام سيارته إذا يجب أن يكون مرّ على الحادث أكثر من ساعتين!
خرج من غفوته على صوت ايزابيلا المنادي به
- جين... العصير الذي طلبتَه
اعتدل بجلسته، لفته دانيال الذي لا زال جالسا على الطاولة المتوسطة للصالة فتحدث بضجر
- لما لم تذهب إلى عملك؟
اجاب دانيال وقد اطمأن قلبه بأن يوجين لم يسمع شيئا
- اليوم استراحة في الشركة، السؤال لك جين، فمنذ متى والسبت عطلة للأطباء؟
لم يجب يوجين، اخذ العصير ثم شربه دفعة واحدة، للصمت قرر دانيال الذهاب فلو جلس مع هذا اليوجين ساعة سيصاب بالاكتئاب حتما
وما أن غادر دانيال حتى اعتدل بجلسته يوجين ثم سأل سؤال واحد ونظرات عينيه يصيب فؤادها بالقلق وكأن كل أسرارها كتاب بين يديه واضح بيانه
سؤاله في المرة الثانية كان مليء بالغضب والحروف شديدة كزفرات لهيب نيران
لم تجبه فقط التزمت الصمت، هل تخبره بكل شيء؟ لكن حينه تعرفه جيدا سيتورط بما لا نهاية له، فيوجين بعيد في عينيها عن الاجرام وعوالمه، لكن إن علم بهذا التسجيل... فحتما أولا دون تفاهم سيردي بدانيال،
تابع بنظراته عينيها متربص بهما، وجد فقط الانكار، وحزن والكثير من الكذب، تحدث بأسى وقد ضاق ذرعا بجنونها هذه الأيام حتى الزفاف قامت بتأجيله! كل شيء عنها له بات غريب؟ تحدث متسائلا ولا تزال عينيه يناظران عينيها التي تحاول كسر نظراتهما لألا تتلاقيا مع عينيه اللذان يلفظان النار في هدوء عاصف متناقض
- ما الذي أصابك بيلّا؟، أنا... ما عدت أعرفك!
لم تجب له، فقرر ترك ذا المسألة على كل حال لن يفيد الكلام معها، هي فقط تزداد عنادا وغموضا مع الوقت، وتفقد البراءة التي كانت سببا في وقوعه بغرامها
تحدث...
- سأغيب عن المدينة لفترة من الزمن، سأكون في مزرعة مارك
فتحدثت باعتراض ليس لمارك فمارك لها من المقرّبين لكن خشية عليهما هما الاثنان، فهذه الصداقة سيودي بهما إلى أعماق الجحيم،
- ألم يحذرك السيد جيمس من التسكع معه
ابتسم وهو يتذكر ما فعله بسيارة جيمس في ليلة امس من تعطيل المكابح
فليذهب الى الجحيم
انه والدك جين
بعد صمت ثقيل اجاب وهو يتمدد على الأريكة في استعداد لأخذ غفوة قبل أن يتّجه لمزرعة مارك
- روي انسلوردي، والد مارك قُتل قبل أكثر من خمسة وعشرين عام بيلّا، إن كان جيمس لديه أحقاد باقية في قلبه ماهي إلا من جنون في عقله إذا.
من بعد نطقه الحرف الأخير عمّ سكون يمزّق هدوئه صوت المذيعة في التلفاز تلقي الأخبار بصوت بدت ضبابية لمسمع يوجين الذي كان بين الوعي واللاوعي يحارب النعاس منتظرا الخبر فيقاومه النعاس فارضا النوم لجسده الذي لا يكاد يذوق شيئا من راحته، لكن هذا الصراع انتهى وخرج وعيه منه منتصرا على صوت المذيعة وهي تقرأ الخبر الذي طال له انتظاره
" اصابة رجل الأعمال الشهير جيمس ال نورثن بحادثة سير يعتقد انها مدبرة، نقل السيد جيمس نورثن الى المشفى وكشفت التحقيقات الأولية ان مكابح سيارة الضحية قد تم التلاعب بها، ولا زال التحقيق جاريا، ويفاد بأن حالة سيد نورثن حرجة وحياته في خطر"
- يا إلهي سيد جيمس
قالت إيزابيلا مندهشة وهي ترى حال والد خاطبها الذي يحتل التلفاز هذه المرة، غارقا بدمائه
نهض يوجين معتدلا على الأريكة وقهر زاد في قلبه لكون جيمس لا زال حيّا، لكنّه أخفى شعور الاحباط وزرع شيء من الأمل في قلبه بأن حالته خطرة فما فقده الحياة إلا مسألة وقت لا أكثر.
اخذ مفاتيح سيارته ثم نهض من مكانه، اخذ يسير بهدوء نحو سيارته لحقت به ايزابيلا التي تستغرب هدوئه وسكونه، لكنها تجاهلت الأمر فقط توقفت على صوت يوجين
تركها وغادر هو، كعادته بتهور وجنون يقود سيارته
تجمعت الدموع في محجر عينيها يزيدان البريق لزرقة عينيها
ولقلة حيلتها فلم تجده سوى كلمة انزلقت من شفتيها ينطق حروفها لسانها بعلوّ صوتها
- أحــــــــــــــــــمــــــــــــــــــق
كعادة الصحافة وضجيجها ملأوا مدخل المشفى وبكاميراتهم يترقبون أي من أفراد العائلة لينالوا شيء من اخبار جيمس أو ليتلقطوا هنا أو هناك قولا أو فعلا بخصوص هذه العائلة الثرية الغامضة.
في داخل المشفى وقد مرّ الكثير من الوقت والإخوة الثلاثة عند باب غرفة العمليات، جلس يوجين على كرسي المشفى، منهك القوة وعلى ما يبدو أن لا أحد سيخرج قريبا ليبشره بموت العجوز جيمس، تحدث بهمس لأخيه الأكبر كاي
- سأعود إلى القصر، أنا متعب ولا طاقة لي لمزيد من الانتظار
نظر إليه كاي لحاله فالأعمى لا يخفى عليه تعب يوجين، هل هو مرض أم فقط إجهاد؟ والثاني هو الأصح في الأغلب، فيوجين يعود للقصر في كثير من الأوقات بعد منتصف الليل ويغادر كثيرا ما حتى قبل بزوغ الفجر. فأي نوم هو يحظى به؟ فأومأ كاي ليوجين بالموافقة ثم تحدث له بهمس
نطق باقتضاب يوجين ثم غادر المشفى، وقف مجبرا بسبب ازعاج الصحافة له فأجاب على سؤالهم باقتضاب شديد والغضب واضح البيان في حروفه الشديدة
- ابي،... سيد آل نورثن وعماده الأكثر صلابة رجل قوي وسيتخطى هذا بالتأكيد، كما تخطى العواصف الذي قبل هذا وكان أشد، وفقط... إن كان الأمر كما ورد تقريرا من الشرطة أنها حادثة مدبّرة فالجاني حتما سيدفع الثمن.
تجاوز الصحافة، ركب سيارته يقودها بنفسه وفقط ما أن اغلق باب سيارته حتى تمتم وهو يقوم بتشغيل السيارة
- إلا فقط أن هذه عاصفة لن تهدأ قبل أن تفني آل نورثن وتمحيه من الوجود،....
بينما يقود سيارته انحنى باستهتار غير مبال لمخاطر الطريق، أخرج علبه من السم قد أعدّه لذا الغرض، يقلّبه بين اصابع يده ويده الأخرى على مقود السيارة، همس وفي عينيه يتابع الطريق الشبه الفارغ من السيارات
- الدور عليك، أمي العزيزة البائسة،... سأنهي تعاستك إلى الأبد.
اوقف سيارته عند المدخل الداخلي للقصر، وضع السمّ في جيب قميصه يناظر القصر من الخارج، يتابع الظلام المحاط بهذا القصر وأن اغلب أنواره قد انطفأت، ترجل من السيارة ثم رمى المفاتيح إلى الحارس الذي يجب أن يكون سائقه الخاص لكن مهمته منذ سنوات فقط أخذ السيارة من امام المدخل إلى مرأب القصر.
وحشة الصمت في القصر يثير في القلب الهواجس، رغم أن الشمس لا تزال ساطعة في نورها المخفيّ خلف الغيوم السوداء القاتمة لكن إن نظر ناظر لداخل هذا القصر سيظنه المساء أو عتمة الليل لما يثير في النفس من اجواء الظلام بها يخدع العينين.
صعد الى الطابق الثاني الذي يضم فقط جناحي الاب جيمس والام كريستن التي هي الزوجة الثالثة لجيمس بعد موت زوجته الاولى والزوجة الثانية، كريستن هي فقط والدة ليوجين اصغر ابناء آل نورثن.
طرق باب جناحها وعندما لم يجبه أحد فتح الباب، سار بخطواته الصامتة متجاوزا الغرفة ثم اتجه إلى غرفة النوم وجدها كما عادتها منذ ان عرفها واقفة على الشرفة حزينة ذابلة، ابتسم بسخرية من حالها البائسة، وهذه تسمّي نفسها أنها على قيد الحياة.
في غرفتها أخذ كأسا من الماء ثم دسّ فيه السم،...
فتح الدرج ومنها أخرج علاجها ثم تقدم بهدوء منها وقال لها برقة مزيّفة وحنان كاذب يدّعيه بقلق حقير على ضحية هو الجاني عليه
- سيكون بخير،... لا تقلقي امي
التفتت اليه كريستن تناظره بعيون ذابلة لا أثر فيه لحنان أو أي مشاعر سوى كره يستطيع بوضوح رؤيته فكيف لها أن تخفيه والحزن قد سلبها الطاقة لتتحكم بإخفاء مشاعرها من اظهاره
يقترب منها بسكون خطواته، وعيناه يفترسان ملامح وجهها الذابلة منتقلا إلى عينيها السوداوين الواسعين المثقلتين بالحزن الشديد. وإلى شعرها الأسود الذي خلّلها الكثير من البياض، وصولا إلى سمرتها الفاتنة لكن... الحزن والمرض قد جعلا منها كعجوز مئة سنة رغم كونها لا تزال في الاربعينيات من العمر، بعد أن وصل إليها، مدّ لها كأس الماء المسموم، وبيده الأخرى العلاج المخصوص لمرضها
اشاحت بنظرها عنه ثم اتجهت ووقفت عند سور الشرفة بصمت لم تنطق حرفا، ولم تأخذ الكأس من يده فتحدث يوجين وقد اثار غيظه تصرفها المليء بالنفور منه
- خذي علاجك أقلا والدتي، سيخفف عنك الألم والحزن.
لم ينتظر جوابها وتقدم إليها اكثر، وضع بين كفها العلاج، ينتظر منها اخذه، نظرت إليه كريستين، لا تطيق قربه، فوجوده يذكّرها بسنين العذاب الماضية.
لكنّها وضعت العلاج في فمها، فهذا العلاج يساعدها على تخفيف حزنها وتسكين هول الذكريات وهلوساته عنها، ثم أخذت الماء من يد يوجين وشربت منه رشفة واثنتان لتساعد في مرور العلاج بيسر إلى معدتها.
اخذ يوجين كأس الماء من يدها ثم قال وقد تبدل نظراته وظهر الحقد الدفين في ملامحه، فعلى كلمات معلّمه أن هذا السمّ مفعوله فوري يظهر فقط بعد ثوان من الوصول للجسم فيتلف الأحشاء وخلال دقائق قليلة يردي قتيلا
- ارقدي بسلام ايتها الأم المزيفة،... هل وجودي يثقل عليك إلى هذه الدرجة؟ لا تقلقي لن تريني بعد اليوم، لأنك ستغادرين إلى حيث ابنك الحقيقي كريستن.
عقدت حاجبيها مستغربة كلامه، والسم بدأ مفعوله بظهور علاماته عليها، والألم بدأ يغزو جسدها، اصابها الدوار وكادت أن تقع ارضا لكن يوجين مد ذراعيه وامسكها قبل ان تسقط، ووضعت يدها على كتفه متشبثتا به تصارع الألم الذي يزهق روحها والدم بدأت تلفظه من فمها تريد الرجاء ليسكت عنها الألم فلا تستطيع، تناظر ملامح وجهه القاسية والجامدة يراقب بهدوء هلاكها
فقط استطاعت القول ونار السم يحرق حروفها فتخرج متعثرة على أطراف لسانها متقطعة بتركيبها
- أنت ... تعلم؟
تسارع أنفاسها مضطربة واشتد،
قلبها لجنون نبضها يزيد الألم، وكل خلية في جسدها مستنفرة تحترق بنيران السم،
فتحت فمها وما عاد لها من احتمال لألم السم الذي تحول لسكرات الموت فصارت تنازعه ترجو السبيل لصوتها إلى حنجرتها فيسعفها من يخلّصها عن هذا الألم، فقط هذا الواقف والذي يحملها بين ذراعيه، لكن شيئا فشيئا غاب عنها الحياة والألم لتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه ولارتخاء جسدها سقط الكأس من بين يدي يوجين فتزامن تناثرها على الأرض شظايا مع همس يوجين لكريستين
- كل شيء... والحرب الذي لم يصل لنهايته منذ ثلاث عقود سأضع له الختام، كريستن...