الفتح الإسلامي لجزيرة صِقِلِّيَّة
الفتح الإسلامي لجزيرة صِقِلِّيَّة
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فهذا مُوجَزٌ لتاريخ الإسلام في البِقاع الواقعة في الدولة الإيطالية[1]، والمَعْدودة جُغرافيًا وسياسيًا في أقاليمها، وسوف نبدأ إن شاء الله تعالى بالحديث عن جزيرة صِقِلِّيَّة؛ نظرًا لطول مُكْث المسلمين هناك أكثر من أي مكان آخر في إيطاليا، بل لكونها المُنْطَلَق للفتح والغزو في بقية الأقاليم، والمدن الإيطالية.
جزيرة صِقِلِّيَّة:
أما جزيرة صِقِلِّيَّة، فهي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وأكبر أقاليم إيطاليا من حيث المساحة، ولا يفصلها عن شبه الجزيرة الإيطالية إلا مَضيق بحري رفيع، وتقع بين شبه جزيرة كالابريا - قلورية في المصادر العربية الإسلامية - في أقصى جنوب إيطاليا، وشبه جزيرة الرأس الطَّيِّب في تونس، وتقسم الجزيرة البحر المتوسط لقسمين: شرقي، وغربي، وهي إحدى حلقات الوصل الكبرى بين القارتين: الإفريقية، والأوروبية، بل بين دول الحَوْضَيْن: الشرقي، والغربي للبحر المتوسط، وقد أعطاها الموقع الجغرافي المذكور أهمية سياسية، واقتصادية، وعلمية كبرى[2]، وهي تتمتع حاليًا بنوع من الحُكْم الذَّاتِي في إطار تبعيتها السياسية لإيطاليا.
وقد غزاها المسلمون عِدَّة غزوات في العصر الأموي[3]، ثم العَبَّاسِي، إلى أن فتحها الأَغالِبة في ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأَغْلَب[4]، الوالي على القَيْروان من قِبَل المأمون العباسي، في السنة الثانية عشرة بعد المائتين من الهجرة، بقيادة الفقيه المجاهد أَسَد بن الفُرات رحمه الله تعالى[5].
وقد ظَلَّت بها عِدَّة مدن تحت سيطرة النَّصارى، لاسيما القِسْم الشَّرْقي الذي كانت تأتيه الإمدادات من أوروبا، وقَنَع بعضُ الولاة منهم بالجِزْيَة، واستمر ذلك إلى أن أحكم إبراهيم بن أحمد تاسع أمراء الأغالِبة[6] سيطرته عليها، ثم عادت السيطرة للنصارى في شرق الجزيرة، إلى أن سقطت دولة الأغالِبة في شمال إفريقية على يد العُبَيْديِّين الإسماعيلية الذين يُسَمَّون بالفاطميين[7] سنة ست وتسعين ومائتين.
لقد دخلت الجزيرة بسقوط الدولة الأَغْلَبِيَّة الأُم في شمال إفريقية في عصر من الفوضى والاضطراب دام ما يزيد على رُبْع القَرْن، وانتهى باستيلاء العُبَيْدِيِّين على الجزيرة بعد أن رفض أهلها لمُدَّة الدخول في طاعتهم، فقام عبيد الله المهدي بتولية والٍ جائر ضَجَّ أهلها منه، فأَحَلَّ مَحَلَّه مَثيلًا له، مما ألجأ بعضَ ضِعاف الإيمان من أهل الجزيرة إلى الاستنجاد بالروم، بل الالتحاق بالنصارى، والدخول في جُمْلَتهم؛ هَربًا من تَعَسُّف ولاة العُبَيْدِيِّين.[8]
وعلى إثر تلك الأحداث قام العُبَيْدِيِّون بتولية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكَلْبي، وخَلَفه أبناؤه من بعده، وكانوا من أَخْلَص أعوان العُبَيْدِيِّين، وظَلَّتْ الجزيرة بأيديهم مُدَّة طويلة؛ حيث تعاقب على حكمها منهم عشرة ولاة في مُدَّة خمس وتسعين سنة[9].
وقد وصف الدكتور إحسان عباس رحمه الله فترة حُكْم الكَلْبِيِّين لصِقِلِّيَّة بقوله[10]: شهدت في أثنائها تَقَدُّمًا في الحياة العمرانية، وفي العلوم، والآداب، كما شَهِدت جِهادهم المُسْتَمر في جنوب إيطاليا، وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة، وأَخْلَدَت صِقِلِّيَّة إلى الهدوء، وجَنَتْ من ذلك خَيْرَ الثِّمار، وكان من أسباب هذا الهدوء: انْشِغال الجُنْد في أكثر الأوقات بالحروب في جَنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صِقِلِّيَّة، واعتبار أنفسهم مُسْتَقِلِّين اسْتِقْلالًا داخليًا في شؤون الجزيرة.[11]
ـــــــــــــ
[1] انظر عن جغرافية إيطاليا، ونشأة دولتها الحديثة: دراسات في جغرافية أوروبا وحوض البحر المتوسط للدكتور محمد إبراهيم حسن (ص249 - 266).
[2] أدى الموقع الجغرافي المتميز للجزيرة إلى كثرة الصراعات السياسية عليها، وحِدَّة التَّجاذب بين القوى المتنازعة عليها، مما سَبَّب نُفور أهلها من الأجانب. انظر: جغرافية أوروبا الإقليمية لجودة حسنين ص598، والمسلمون تحت السيطرة الرأسمالية لمحمود شاكر ص25، وعنهما: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجدي بكر ص110، 111.
[3] بدأ ذلك الغزو على يد معاوية بن حُدَيْج رضي الله عنه ـ وهو مذكور في الصحابة ـ في زمان معاوية رضي الله عنه حينما أغزا جيشًا إلى صِقِلِّيَّة في مائتي مَرْكب، فسَبَوا، وغَنموا، وأقاموا نحو شهر. انظر: البيان المُغْرب في أخبار الأندلس و المَغْرب لابن عذاري (1/16، 17)، والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأبي العباس الناصري (1/133، 134)، وتاريخ ابن خلدون (1/253).
[4] كان إرسال زيادة الله للحملة بناء على طلب من صاحب صقلية. انظر تفصيل ذلك في: تاريخ ابن خلدون (4/198-199). وذكر أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص170) أن قائد أسطول صقلية البيزنطي أيو فيميوس ـ وجاء اسمه في المصارد العربية فيمي ـ قد أَسْلَمه للمسلمين بعد ثورة فاشلة قام بها، وهذا يؤيد ما ذكره ابن خلدون في الموضع الفائت وغيره من مؤرخي المسلمين، كما ذكر (ص229) إلى خروج حملة بحرية من طرطوشة بالأندلس سنة 829 م لمساعدة الأغالبة في فتح الجزيرة، لكنها سرعان ما انسحبت بعد تعرضها لهزيمة على يد أسطول بيزنطي، واعتبر أرشيبالد سقوط صقلية في أيدي الأغالبة بمثابة طَيٍّ لصفحة السيادة البيزنطية على البحر المتوسط، والتي سعى الأمويون طويلًا لنزعها من أيدي البيزنطيين، حتى حَصَّلها الأغالبة في شمال إفريقية.
[5] كان الروم يشنون الغارات من صقلية قبل فتحها على سواحل شمال إفريقية، فأغار عليهم المسلمون في حملات تأديبية، فاضطر قسطنطين بطريق صقلية إلى عقد الصلح مع إبراهيم بن الأغلب والي إفريقية، وكانت مدة هذا الصلح عشر سنوات. انظر: الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان ص17، وعنه الأقليات الإسلامية في أوروبا (ص113،112).
ويذهب أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص165) إلى أن ما طرأ على بيزنطة من ضعف في تلك الفترة هو الذي أغرى الأغالبة بالقيام بالعديد من الأعمال البحرية ضد أهداف تابعة لبيزنطة، وأوضح أن أسطول الأغالبة قد أغار على البلوبونيز، وساعد السلافيين في حصارهم لمدينة بتراس في عام 805 م، والموضعان المذكوران يقعان في اليونان، ولم يستبعد أرشيبالد أن يكون تلك الحَمْلة جزءًا من خطة عباسية عامة، هدفها الضغط على القسطنطينية برًا، وبحرًا؛ لأن ذلك الغزو قد انتهى بعقد اتفاقية بين بطريق صقلية، والأمير الأغلبي مدتها عشر سنوات، ثم جُدِّدت الاتفاقية لعشر سنوات أخرى سنة 813 م، لكنها كانت معدومة الأثر ـ على حد تعبيره ـ لأنها لم تمنع عرب شمال إفريقية من القيام بغارات ولو فاشلة على سردينيا عامي 813،812 م، وخسر العرب في الغارة الأخيرة منهما مائة سفينة، أغرقتها لهم العواصف قرب الجزيرة، واعتبر أرشيبالد ذلك الحدث دافعًا حَفَّز المسلمين في شمال إفريقية إلى مهاجمة صقلية سنة 820 م، فغنموا من هجومهم غنائم عظيمة، ثم كانت سردينية فريستهم ـ على حد تعبيره ـ في العام الذي يليه.
ومن الملاحظ أن كل تلك الوقائع كانت سابقة على فتح صقلية، الذي وافق انطلاقه عام 827 م، وتُوِّج بسقوط بَلِرْم سنة 831 م كما في المرجع المذكور آنفًا (ص213،212)، والذي يحوي تفاصيل كثيرة عن فتح الجزيرة (ص211-222)، وسيأتي ذكر الكثير منها وفقًا للتاريخ الهجري.
[6] حكم من سنة إحدى وستين ومائتين إلى سنة تسع وثمانين ومائتين من الهجرة.
[7] وهم ينْتَسِبون إلى الإسلام زُورًا، ولا خلاف بين أهل العلم في كُفْرهم، وبُطلان نسبتهم لإسماعيل بن جعفر الصادق رحمة الله عليه، ورضي الله عنه، وعن آبائه. انظر: التبصير في الدين للإسفراييني (ص38)، والملل والنحل للشهرستاني (1/190-196)، وتلبيس إبليس (ص92)، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (4/46،45)، (6/227،226)، (8/5،4)، وللشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى كتاب بعنوان [الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد].
[8] عَبَّر عن ذلك عبدُ العزيز الثَّعالبي رحمه الله تعالى بقوله: لما تغلب عبيد الله المهدي على إفريقية، وزال عنها حُكم بني الأغلب، كَرِهت الولايات الإسلامية في أوروبا أن تُقَدِّم طاعتها للمُتَغَلِّبين، فأجمع أصحاب الشأن فيها على إعلان الاستقلال، حتى يمتنع نَقْل الجيش من أوروبا إلى إفريقية، فبايعوا بالأمارة القائد أحمد بن زيادة الله بن قرهب، ثم ذكر الثعالبي ما وقع من أحداث عقب ذلك، ثم قال عن الوالي العُبَيْدِي الجائِر سالم بن أبي راشد وجَيْشه الكِتامِي: فكان دأبُهم الإفْحاش في الظلم وسَلْب الأموال، فانقبضت النفوس، وخارت الهِمَم عن التَّوَسُّع ـ أي في الفتح ـ حتى طمع فيهم رعاياهم الإيطاليون والفرنسيون.
وفي عهد أبي القاسم ابن عبيد الله المهدي عَيَّن لولاية أوروبا خليل بن إسحاق الطاغية، فقضى في الحكم أربعة أعوام ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يُسْمع بمثله، وجعل المسلمين يَفِرُّون أفواجًا أفواجًا إلى البلاد النَّصرانية، ويَتَنَصَّرون. انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص300).
ومن الواضح أن الثعالبي رحمه الله يستخدم تعبيرات حديثة للتعبير عن مَواطِن وطوائف قديمة، فيُدْخِل صِقِلِّيَّة في التعبير عن أوروبا، ويُعَبِّر عن أهلها بالأوروبيين، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الأجزاء من القارة الأوروبية كانت واقعة بالفعل تحت سلطان الأغالِبة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الحديث عن حُكم المسلمين لجنوب شبه الجزيرة الإيطالية.
وقد فَصَّل ابن خلدون في تاريخه (4/208،207) أخبار ولاة صقلية من قبل العُبَيْدِيِّين قبل الكَلْبِيِّين.
[9] الأسلوب الذي صاغ به الدكتور إحسان رحمه الله كتابه غير منضبط بضوابط الفهم الإسلامي لكثير من القضايا، وقد يُعَوِّل ـ مع نُبوغه في التاريخ ـ على مصادر غير موثوق بها، أو مجهولة، ومثال ذلك: نقله عن مخطوط مجهول الكاتب أن بني أبي الحسين قد دخلوا في المذهب الإسماعيلي.
[10] انظر: العرب في صقلية للدكتور إحسان عباس رحمه الله (ص45). وكان قد ذكر في الصفحة السابقة عليها أن أهل صقلية لم يحبوا أحدا ممن تولى عليهم من قبل الفاطميين مثلما أحبوا الولاة الكلبيين. وقد وصف ابن خلدون في تاريخه (4/210،209) غير واحد من ولاة الكلبيين بالعدل، وحُسْن السيرة، ومحبة أهل العلم، والاشتمال على الفضائل.
[11] انظر للمزيد عن أحوال صقلية من الفتح حتى السقوط: تاريخ ابن خلدون (4/198-211)، والرَّوْض المِعْطار للحِمْيَري (366-368)، والواسطة في معرفة أحوال مالطة لأحمد فارس الشدياق (ص67)، وتاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط لشكيب أرسلان (296-302)، وأطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس (ص180،179)، (ص291-294)، والمسلمون في أوروبا وأمريكا للدكتور على المنتصر الكتاني (ص155)، ومعالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (269-285)، والأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص111-116). وللدكتور إحسان عباس رحمه الله كتاب بعنوان العرب في صقلية، وهناك العديد من المصنفات التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي لصقلية، منها: المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا لمؤلفه أحمد توفيق المدني، وهو من مصادر الزركلي الرئيسة في كتاب الأعلام، وكتاب بعنوان الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان، وكتاب بعنوان المسلمون في فرنسا وإيطاليا للدكتور إبراهيم طرخان.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/21753/#ixzz51SRWKK3j
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فهذا مُوجَزٌ لتاريخ الإسلام في البِقاع الواقعة في الدولة الإيطالية[1]، والمَعْدودة جُغرافيًا وسياسيًا في أقاليمها، وسوف نبدأ إن شاء الله تعالى بالحديث عن جزيرة صِقِلِّيَّة؛ نظرًا لطول مُكْث المسلمين هناك أكثر من أي مكان آخر في إيطاليا، بل لكونها المُنْطَلَق للفتح والغزو في بقية الأقاليم، والمدن الإيطالية.
جزيرة صِقِلِّيَّة:
أما جزيرة صِقِلِّيَّة، فهي أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وأكبر أقاليم إيطاليا من حيث المساحة، ولا يفصلها عن شبه الجزيرة الإيطالية إلا مَضيق بحري رفيع، وتقع بين شبه جزيرة كالابريا - قلورية في المصادر العربية الإسلامية - في أقصى جنوب إيطاليا، وشبه جزيرة الرأس الطَّيِّب في تونس، وتقسم الجزيرة البحر المتوسط لقسمين: شرقي، وغربي، وهي إحدى حلقات الوصل الكبرى بين القارتين: الإفريقية، والأوروبية، بل بين دول الحَوْضَيْن: الشرقي، والغربي للبحر المتوسط، وقد أعطاها الموقع الجغرافي المذكور أهمية سياسية، واقتصادية، وعلمية كبرى[2]، وهي تتمتع حاليًا بنوع من الحُكْم الذَّاتِي في إطار تبعيتها السياسية لإيطاليا.
وقد غزاها المسلمون عِدَّة غزوات في العصر الأموي[3]، ثم العَبَّاسِي، إلى أن فتحها الأَغالِبة في ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأَغْلَب[4]، الوالي على القَيْروان من قِبَل المأمون العباسي، في السنة الثانية عشرة بعد المائتين من الهجرة، بقيادة الفقيه المجاهد أَسَد بن الفُرات رحمه الله تعالى[5].
وقد ظَلَّت بها عِدَّة مدن تحت سيطرة النَّصارى، لاسيما القِسْم الشَّرْقي الذي كانت تأتيه الإمدادات من أوروبا، وقَنَع بعضُ الولاة منهم بالجِزْيَة، واستمر ذلك إلى أن أحكم إبراهيم بن أحمد تاسع أمراء الأغالِبة[6] سيطرته عليها، ثم عادت السيطرة للنصارى في شرق الجزيرة، إلى أن سقطت دولة الأغالِبة في شمال إفريقية على يد العُبَيْديِّين الإسماعيلية الذين يُسَمَّون بالفاطميين[7] سنة ست وتسعين ومائتين.
لقد دخلت الجزيرة بسقوط الدولة الأَغْلَبِيَّة الأُم في شمال إفريقية في عصر من الفوضى والاضطراب دام ما يزيد على رُبْع القَرْن، وانتهى باستيلاء العُبَيْدِيِّين على الجزيرة بعد أن رفض أهلها لمُدَّة الدخول في طاعتهم، فقام عبيد الله المهدي بتولية والٍ جائر ضَجَّ أهلها منه، فأَحَلَّ مَحَلَّه مَثيلًا له، مما ألجأ بعضَ ضِعاف الإيمان من أهل الجزيرة إلى الاستنجاد بالروم، بل الالتحاق بالنصارى، والدخول في جُمْلَتهم؛ هَربًا من تَعَسُّف ولاة العُبَيْدِيِّين.[8]
وعلى إثر تلك الأحداث قام العُبَيْدِيِّون بتولية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكَلْبي، وخَلَفه أبناؤه من بعده، وكانوا من أَخْلَص أعوان العُبَيْدِيِّين، وظَلَّتْ الجزيرة بأيديهم مُدَّة طويلة؛ حيث تعاقب على حكمها منهم عشرة ولاة في مُدَّة خمس وتسعين سنة[9].
وقد وصف الدكتور إحسان عباس رحمه الله فترة حُكْم الكَلْبِيِّين لصِقِلِّيَّة بقوله[10]: شهدت في أثنائها تَقَدُّمًا في الحياة العمرانية، وفي العلوم، والآداب، كما شَهِدت جِهادهم المُسْتَمر في جنوب إيطاليا، وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة، وأَخْلَدَت صِقِلِّيَّة إلى الهدوء، وجَنَتْ من ذلك خَيْرَ الثِّمار، وكان من أسباب هذا الهدوء: انْشِغال الجُنْد في أكثر الأوقات بالحروب في جَنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صِقِلِّيَّة، واعتبار أنفسهم مُسْتَقِلِّين اسْتِقْلالًا داخليًا في شؤون الجزيرة.[11]
ـــــــــــــ
[1] انظر عن جغرافية إيطاليا، ونشأة دولتها الحديثة: دراسات في جغرافية أوروبا وحوض البحر المتوسط للدكتور محمد إبراهيم حسن (ص249 - 266).
[2] أدى الموقع الجغرافي المتميز للجزيرة إلى كثرة الصراعات السياسية عليها، وحِدَّة التَّجاذب بين القوى المتنازعة عليها، مما سَبَّب نُفور أهلها من الأجانب. انظر: جغرافية أوروبا الإقليمية لجودة حسنين ص598، والمسلمون تحت السيطرة الرأسمالية لمحمود شاكر ص25، وعنهما: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجدي بكر ص110، 111.
[3] بدأ ذلك الغزو على يد معاوية بن حُدَيْج رضي الله عنه ـ وهو مذكور في الصحابة ـ في زمان معاوية رضي الله عنه حينما أغزا جيشًا إلى صِقِلِّيَّة في مائتي مَرْكب، فسَبَوا، وغَنموا، وأقاموا نحو شهر. انظر: البيان المُغْرب في أخبار الأندلس و المَغْرب لابن عذاري (1/16، 17)، والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأبي العباس الناصري (1/133، 134)، وتاريخ ابن خلدون (1/253).
[4] كان إرسال زيادة الله للحملة بناء على طلب من صاحب صقلية. انظر تفصيل ذلك في: تاريخ ابن خلدون (4/198-199). وذكر أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص170) أن قائد أسطول صقلية البيزنطي أيو فيميوس ـ وجاء اسمه في المصارد العربية فيمي ـ قد أَسْلَمه للمسلمين بعد ثورة فاشلة قام بها، وهذا يؤيد ما ذكره ابن خلدون في الموضع الفائت وغيره من مؤرخي المسلمين، كما ذكر (ص229) إلى خروج حملة بحرية من طرطوشة بالأندلس سنة 829 م لمساعدة الأغالبة في فتح الجزيرة، لكنها سرعان ما انسحبت بعد تعرضها لهزيمة على يد أسطول بيزنطي، واعتبر أرشيبالد سقوط صقلية في أيدي الأغالبة بمثابة طَيٍّ لصفحة السيادة البيزنطية على البحر المتوسط، والتي سعى الأمويون طويلًا لنزعها من أيدي البيزنطيين، حتى حَصَّلها الأغالبة في شمال إفريقية.
[5] كان الروم يشنون الغارات من صقلية قبل فتحها على سواحل شمال إفريقية، فأغار عليهم المسلمون في حملات تأديبية، فاضطر قسطنطين بطريق صقلية إلى عقد الصلح مع إبراهيم بن الأغلب والي إفريقية، وكانت مدة هذا الصلح عشر سنوات. انظر: الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان ص17، وعنه الأقليات الإسلامية في أوروبا (ص113،112).
ويذهب أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (500-1100م) (ص165) إلى أن ما طرأ على بيزنطة من ضعف في تلك الفترة هو الذي أغرى الأغالبة بالقيام بالعديد من الأعمال البحرية ضد أهداف تابعة لبيزنطة، وأوضح أن أسطول الأغالبة قد أغار على البلوبونيز، وساعد السلافيين في حصارهم لمدينة بتراس في عام 805 م، والموضعان المذكوران يقعان في اليونان، ولم يستبعد أرشيبالد أن يكون تلك الحَمْلة جزءًا من خطة عباسية عامة، هدفها الضغط على القسطنطينية برًا، وبحرًا؛ لأن ذلك الغزو قد انتهى بعقد اتفاقية بين بطريق صقلية، والأمير الأغلبي مدتها عشر سنوات، ثم جُدِّدت الاتفاقية لعشر سنوات أخرى سنة 813 م، لكنها كانت معدومة الأثر ـ على حد تعبيره ـ لأنها لم تمنع عرب شمال إفريقية من القيام بغارات ولو فاشلة على سردينيا عامي 813،812 م، وخسر العرب في الغارة الأخيرة منهما مائة سفينة، أغرقتها لهم العواصف قرب الجزيرة، واعتبر أرشيبالد ذلك الحدث دافعًا حَفَّز المسلمين في شمال إفريقية إلى مهاجمة صقلية سنة 820 م، فغنموا من هجومهم غنائم عظيمة، ثم كانت سردينية فريستهم ـ على حد تعبيره ـ في العام الذي يليه.
ومن الملاحظ أن كل تلك الوقائع كانت سابقة على فتح صقلية، الذي وافق انطلاقه عام 827 م، وتُوِّج بسقوط بَلِرْم سنة 831 م كما في المرجع المذكور آنفًا (ص213،212)، والذي يحوي تفاصيل كثيرة عن فتح الجزيرة (ص211-222)، وسيأتي ذكر الكثير منها وفقًا للتاريخ الهجري.
[6] حكم من سنة إحدى وستين ومائتين إلى سنة تسع وثمانين ومائتين من الهجرة.
[7] وهم ينْتَسِبون إلى الإسلام زُورًا، ولا خلاف بين أهل العلم في كُفْرهم، وبُطلان نسبتهم لإسماعيل بن جعفر الصادق رحمة الله عليه، ورضي الله عنه، وعن آبائه. انظر: التبصير في الدين للإسفراييني (ص38)، والملل والنحل للشهرستاني (1/190-196)، وتلبيس إبليس (ص92)، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (4/46،45)، (6/227،226)، (8/5،4)، وللشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى كتاب بعنوان [الإسماعيلية القدامى تاريخ وعقائد].
[8] عَبَّر عن ذلك عبدُ العزيز الثَّعالبي رحمه الله تعالى بقوله: لما تغلب عبيد الله المهدي على إفريقية، وزال عنها حُكم بني الأغلب، كَرِهت الولايات الإسلامية في أوروبا أن تُقَدِّم طاعتها للمُتَغَلِّبين، فأجمع أصحاب الشأن فيها على إعلان الاستقلال، حتى يمتنع نَقْل الجيش من أوروبا إلى إفريقية، فبايعوا بالأمارة القائد أحمد بن زيادة الله بن قرهب، ثم ذكر الثعالبي ما وقع من أحداث عقب ذلك، ثم قال عن الوالي العُبَيْدِي الجائِر سالم بن أبي راشد وجَيْشه الكِتامِي: فكان دأبُهم الإفْحاش في الظلم وسَلْب الأموال، فانقبضت النفوس، وخارت الهِمَم عن التَّوَسُّع ـ أي في الفتح ـ حتى طمع فيهم رعاياهم الإيطاليون والفرنسيون.
وفي عهد أبي القاسم ابن عبيد الله المهدي عَيَّن لولاية أوروبا خليل بن إسحاق الطاغية، فقضى في الحكم أربعة أعوام ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يُسْمع بمثله، وجعل المسلمين يَفِرُّون أفواجًا أفواجًا إلى البلاد النَّصرانية، ويَتَنَصَّرون. انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص300).
ومن الواضح أن الثعالبي رحمه الله يستخدم تعبيرات حديثة للتعبير عن مَواطِن وطوائف قديمة، فيُدْخِل صِقِلِّيَّة في التعبير عن أوروبا، ويُعَبِّر عن أهلها بالأوروبيين، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الأجزاء من القارة الأوروبية كانت واقعة بالفعل تحت سلطان الأغالِبة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عند الحديث عن حُكم المسلمين لجنوب شبه الجزيرة الإيطالية.
وقد فَصَّل ابن خلدون في تاريخه (4/208،207) أخبار ولاة صقلية من قبل العُبَيْدِيِّين قبل الكَلْبِيِّين.
[9] الأسلوب الذي صاغ به الدكتور إحسان رحمه الله كتابه غير منضبط بضوابط الفهم الإسلامي لكثير من القضايا، وقد يُعَوِّل ـ مع نُبوغه في التاريخ ـ على مصادر غير موثوق بها، أو مجهولة، ومثال ذلك: نقله عن مخطوط مجهول الكاتب أن بني أبي الحسين قد دخلوا في المذهب الإسماعيلي.
[10] انظر: العرب في صقلية للدكتور إحسان عباس رحمه الله (ص45). وكان قد ذكر في الصفحة السابقة عليها أن أهل صقلية لم يحبوا أحدا ممن تولى عليهم من قبل الفاطميين مثلما أحبوا الولاة الكلبيين. وقد وصف ابن خلدون في تاريخه (4/210،209) غير واحد من ولاة الكلبيين بالعدل، وحُسْن السيرة، ومحبة أهل العلم، والاشتمال على الفضائل.
[11] انظر للمزيد عن أحوال صقلية من الفتح حتى السقوط: تاريخ ابن خلدون (4/198-211)، والرَّوْض المِعْطار للحِمْيَري (366-368)، والواسطة في معرفة أحوال مالطة لأحمد فارس الشدياق (ص67)، وتاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط لشكيب أرسلان (296-302)، وأطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس (ص180،179)، (ص291-294)، والمسلمون في أوروبا وأمريكا للدكتور على المنتصر الكتاني (ص155)، ومعالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لمحمود سعيد عمران (269-285)، والأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص111-116). وللدكتور إحسان عباس رحمه الله كتاب بعنوان العرب في صقلية، وهناك العديد من المصنفات التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي لصقلية، منها: المسلمون في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا لمؤلفه أحمد توفيق المدني، وهو من مصادر الزركلي الرئيسة في كتاب الأعلام، وكتاب بعنوان الحضارة الإسلامية في صقلية وجنوب إيطاليا لعبد المنعم رسلان، وكتاب بعنوان المسلمون في فرنسا وإيطاليا للدكتور إبراهيم طرخان.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/21753/#ixzz51SRWKK3j
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : الفتح الإسلامي لجزيرة صِقِلِّيَّة
|
المصدر : قسم الحروب و المعارك