سابتعد ١
### الجزء الأول: "البداية"
جلس سامر في غرفته، يعانق الصمت كما اعتاد في الأشهر الأخيرة. منذ أن عرف أن المرض قد استقر في جسده كزائر ثقيل لا ينوي الرحيل، تغيّر كل شيء. أصدقاؤه لم يعودوا يتواصلون معه كما في السابق، ليس لأنهم ابتعدوا بإرادتهم، بل هو من دفعهم بعيداً. اعتقد أنه يفعل الصواب، لكنه لم يكن متأكداً من ذلك بعد الآن.
نظر إلى الساعة على الحائط. دقاتها المستمرة ذكّرته بالوقت الذي يمر ببطء، وكأنه يعاند مرور الأيام. كل ثانية أصبحت أثقل عليه، كل دقيقة تمر تعني أنه يقترب أكثر من النهاية التي حاول تجاهلها في البداية، لكن لم يعد بإمكانه الهرب منها الآن.
لم يعد سامر يرغب في التواصل مع أحد. حتى عائلته لم تعرف الكثير عن حالته. لم يكن يريد أن يثقل كاهلهم بالخبر. كان يؤمن أنه إن أبعدهم عنه الآن، فلن يعانوا حينما يحين الوقت. هذا كان تبريره الوحيد. لكن الألم الذي شعر به في قلبه كان يخبره شيئاً آخر. كان يخبره أنه بحاجة إلى أحد، إلى شيء يعيده للحياة.
نهض من كرسيه واتجه نحو النافذة. أضاءت الشمس المدينة في هذا الصباح الخريفي. كانت الأشجار تتمايل برفق، وأوراقها الذهبية تتساقط بهدوء على الأرصفة. العالم يبدو طبيعياً، وكأن شيئاً لم يتغير، إلا أن داخله كان ينهار يوماً بعد يوم. الحياة تستمر بالخارج، أما هو، فقد توقف.
بعد أيام من العزلة، قرر سامر الخروج إلى الحديقة العامة القريبة من منزله. لم يكن يريد التفاعل مع أحد، فقط أراد أن يبتعد عن جدران غرفته الضيقة. جلس على أحد المقاعد الخشبية المطلة على البحيرة الاصطناعية الصغيرة، مراقباً البط وهو يسبح بهدوء.
بينما كان سامر غارقاً في أفكاره، سمع صوت خطوات خفيفة تقترب. رفع رأسه ببطء ليجد فتاة شابة تقف أمامه. كانت تحمل دفتراً صغيراً وأقلاماً، وكأنها كانت في وسط رسم شيء ما قبل أن تقرر التحدث إليه.
قالت بابتسامة لطيفة: "هل تمانع إذا جلست هنا؟"
نظر إليها للحظة، كان يفكر في أن يقول لها لا، لكنه اكتفى بهز رأسه بالموافقة دون أي كلمة. جلست الفتاة بجانبه بهدوء، وفتحت دفترها مرة أخرى لتكمل الرسم الذي كانت تعمل عليه. شعرت أنها لا تريد التحدث كثيراً، وهذا أعجب سامر. لم يكن بحاجة إلى الحديث الآن.
بعد دقائق من الصمت، نظرت إليه مرة أخرى وقالت بهدوء: "أنت تبدو شارد الذهن. هل كل شيء على ما يرام؟"
كانت كلماتها بسيطة، لكنها ضربت على وتر حساس. لم يكن سامر معتاداً على أن يسأله أحد عن حاله بهذه الطريقة المباشرة. لم يعرف كيف يرد، فقط اكتفى بالنظر إليها قليلاً قبل أن يقول: "أنا بخير."
هزت رأسها بتفهم، لكنها لم تكن مقتنعة. ثم ابتسمت مجدداً وقالت: "أنا ليلى، بالمناسبة."
رد سامر ببرود: "سامر."
ثم عاد الصمت يخيّم بينهما، لكن هذه المرة، كان صمتاً مريحاً على نحو غريب.
على الرغم من أن سامر لم يكن يريد التواصل مع أحد، إلا أن وجود ليلى بجانبه في تلك اللحظات أعطاه شعوراً غريباً، شعوراً بأنه ليس وحيداً تماماً. كان يعلم في داخله أنه لا ينبغي أن يقترب من أي شخص، خصوصاً الآن. لم يكن يريد أن يجرّ أحداً معه في هذه الرحلة المظلمة التي يسير فيها.
ولكن، هناك شيء في ليلى كان مختلفاً. شيئاً لم يستطع تحديده. كانت لطيفة بشكل لا يتطلب تبريراً، ووجودها كان خفيفاً وغير مُلحّ، مما جعله يشعر ببعض الراحة، رغم أنه كان يقاوم ذلك الشعور.
"لماذا تجلس هنا وحدك؟" سألته ليلى بعد لحظات، وكأنها لم تستطع تجاهل صمته بعد الآن.
رد سامر بهدوء: "أحياناً، الوحدة هي الخيار الأفضل."
نظرت إليه ليلى بتعجب: "أفضل لمن؟"
سكت سامر قليلاً، ثم قال بصوت منخفض: "للجميع."
في تلك اللحظة، شعرت ليلى بأن هناك شيئاً أكبر من مجرد رغبة في الوحدة يحيط بسامر، لكنها قررت ألا تضغط عليه. ابتسمت وقالت: "أحياناً، يكون لدينا أسبابنا الخاصة. ولكن، من الجيد أن تجد شخصاً يستمع."
ابتسم سامر ابتسامة خفيفة، أول ابتسامة يراها على وجهه منذ فترة طويلة.