في كل قصة من قصصي هذه، تجدون نوافذ مفتوحة على عوالم لا تنتهي، حيث تلتقي الفكرة بالوجع، والفرح بالأسى، في تناغمٍ غريب، يتيح للقارئ أن يبحر في أعماق الذات البشرية. هنا، لا توجد حدود بين الواقع والخيال، بين الزمان والمكان، وإنما نجد أنفسنا في مشهد دائم الحركة، حيث تتشابك الأفكار والمشاعر كما تتشابك أيدينا في الظلام.
كنتُ، في يومٍ ما، أظن أن الرواية وحدها قادرة على سبر أغوار الروح، ولكنني اكتشفت أن القصة القصيرة هي لوحة سحرية، تسجل لحظات الحيرة والفقد، اللحظات التي تنبض بالحياة في أصغر تفاصيلها. إنها تلك اللحظات التي تتناثر فيها الأحلام في الزمان والمكان، والتي لا نستطيع الإمساك بها سوى بالكلمات.
قد تتساءلون: لماذا القصص؟ ولماذا الآن؟ الإجابة تكمن في أن الحياة نفسها لا تكتمل إلا بالكلمات. كلماتنا التي تخرج من أعماقنا لتشكل ذواتنا، وتُخاطب تلك الأرواح الأخرى التي تتأمل معاناتنا وتفاصيلنا الصغيرة. لم يكن هذا الكتاب سوى محاولة للتعبير عن لحظات تمردنا الصامت، عن تلك الظلال التي تطاردنا بين العيون والقلوب.
أدعوك، عزيزي القارئ، أن تمضي معي في هذا الدرب الذي أُصغي فيه إلى همسات الأيام وأصوات الليل، حيث كل قصة هي سطر من رواية حياةٍ قد تكون جزءًا منك أو جزءًا من أحدهم. هناك، في مكانٍ بعيد عن الأعين، تُكتب هذه القصص لتُقرأ، ولك أن تجد فيها ما يشبهك، أو ما تود أن يكون.
تهيئة
هنا حيث أتذكر أول حرف كتبتُه، كان يشبه الهمسة الأولى التي تندفع في قلب الليل، تطير كطيف، ثم تتناثر أفكارًا تشبه الضوء في الزمان والمكان. كان يبدو صعبًا في البداية، كأن عقلي محبوس في متاهة الكلمات، يفكر في الرواية الطويلة التي كنت قد عهدت بها ذات مرة. لكن شيئًا ما بداخلي كان يدفعني للاستمرار، هكذا ببساطة، دون أن أعي كيف بدأ الأمر. وكان ذلك الكاتب الذي قال لي: "لم لا تجربي كتابة قصة؟". لم يكن يعلم حينها أنه فتح لي نافذة جديدة على عالمٍ كنت أجهل أنني قادرة على الوصول إليه.
الفكرة، ثم النص، ثم الفكرة الثانية، وجميعها توالت بسرعة، وكأنني كنت أكتب السطور التي تحملني بعيدًا عن أعباء الأفكار الطويلة. شيءٌ ما بداخلي كان ينمو، يشدني إلى هذا النوع من الكتابة، الكتابة التي تتناثر كالأحلام بين يدي، والتي كنت أظن أنني لن أقدر على خلقها يومًا. ثم جاءت اللحظة الحاسمة في التاسع من فبراير. كان التحدي، كما قال لي الأستاذ: "تقدرين أن تصنعي مجموعة قصصية خلال شهر. أنتِ تكتبين، مهما حدث، وأنتِ لا تعرفين حدودك."
وفي تلك اللحظة، شعرت وكأنني أسير على حافة زمنٍ آخر، بعيد عن تقاليد الرواية الكبيرة. كانت الكتابة تنساب من بين يدي دون جهد، وكأنني لستُ سوى مرآة تعكس أفكارَ الآخرين، وإن كان ذلك عن غير وعي. اليوم، وبعد شهرين، أرى نفسي أضحك على الزمن الذي أخذته لتكملتها، ولكنني سعيدٌ جدًا بهذا الإنجاز. نعم، شهران كاملان، ولكنها كانت رحلة تعلمت فيها الكثير. فالروايات لم تكن كما توقعتها، والقصة القصيرة لم تكن أقل من الحلم الذي تحقق.
أستاذي، شكراً لك على كل كلمة زرعتَها في قلبي. لقد علمتني ألا أتوقف عند حدود نفسي، أن أكتب حينما يُطلب مني ذلك، وأن أستقبل قلمي بأيدٍ مفتوحة وأفكارٍ غنية. لا أظن أنني كنت سأصل إلى هنا لولا نصائحك، التي كانت مثل ضوءٍ في ليلٍ طويل.
برغم أن نسمات نيسان باتت تداعب تبرعم أشجار المشمش وتهمس لأشجار الكرز، إلا أن الأنفاس التي تحيط بالمكان أشبه بأنفاس الصيف وسكون الخريف. الأجساد التي تمر أمام عيني متعبة، تلهث بصمت، باحثة عن سكون لم تقدر أن ترتقي سلم السكون. بعضها يقاوم رغبات تكاد تفر من مقلتيه، وأخرى تحاول أن تخفي رغباتها تحت ثنايا ملابسها، وكانت الأكمام واشية عنها. وتلك التي ظنت ببعض عدم الاكتراث أنها نجت، فوجدت نفسها أكثر من ظهر عليها ما أظهرت عدم وجوده. أشحت بنظري مبتعدة عما يتنفس حولي.
أشبه كثيرًا تلك الراهبات اللاتي هربن من هموم العائلة ليحظين ببعض المكانة. كانت أمي تصفهن دائمًا بالمنافقات، ولا تجد فرصة إلا وضحت وجهة نظرها. كانت تصفهن بالكاذبات، حتى أنها في كل مرة كانت تجلس في منطقة الاعترافات وتشتم وتعتذر وتندم وتتوب بين يدي الراهب وتخرج، لتعيد الكرة مجددًا. سألتها يومًا منذ سنوات: "لماذا تذهبين إلى الكنيسة وتعتذرين؟ أنتِ مسلمة يا أمي!"، لترد وهي تحاول نزع الدهون العالقة على المقلاة بعد كل جولة بالمطبخ وجولة ملاكمة مع أعمامك الجشعين: "احتاج أن أخرج بعض غضبي وسخطي على أبيك الذي لم يفهم أنهم سيأكلوننا عند رحيله. لم يستمع إليَّ إلى أن رحل وبدأ أعمامك، كما العقبان، يحومون حولنا بحجة "إبنة أخيهم" وحجة "أني مازلت زهرة يانعة." لتضحك وتلقي بالمقلاة وهي تشتمها. "لا يعلمون أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لذا أذهب لأفرغ بعض غضبي عند من لا يعرفني، وبينه وبين ربه ميثاق الكتم."
كانت لها وجهة نظر، فأعمامي كما العقبان يحومون حولها. فهي كانت أجمل من نسائهم جميعًا. لم تكن ابنة القرية أصلاً، بل ابنة المدينة. تزوجها أبي وعاد إلى القرية يومًا، ليقع جدي في منتصف القبر لشدة الغضب. أراهن أنه لم يرها وهي تضع سيجارتها في فمها، وتسحب أنفاسها بروية. أقسم لو صبر قليلاً وأجل غضبه لطلب من والدي أن يزوجه حماته.
تساءلت يومًا بصوت مرتفع بحضور صديقة لي كانت تجلس على أدراج منزلنا بإحدى أمسيات شهر أيلول: "هل تعرفين ما الذي يحدث عندما يلتقي جسدان غريبان؟" أجابتني بعد صمت مبتسمة بحذر: "يحدث شيء لا يمكن وصفه، مزيد من الشوق، ومزيد من البحث عن توازن بين الوجود والعدم." أذكر أنني نظرت لها بنظرة بلهاء، ونظرت إليّ بنظرة الخبثاء، ووكزتني: "أثر بكِ أيلول، أيا فتاة"، وأطلقت ضحكتها، كانت مثيرة للقرف صراحة. أسنانها غير سوية وتضع أحمر شفاه بلون أحمر صارخ، رغم سمرتها القوية. قلت في عقلي: "أنا الغبية التي تسأل هذه المأفونة، التي لا تعلم من الحياة إلا المسلسلات المكسيكية، التي لا ترى منها إلا بضع لقطات عند مرورها من باب الحلاق."
أقطن في قرية أو بلدة تعد من المناطق النائية. لا هاتف إلا بدار البلدية، ولا تلفاز إلا عند الحلاق والمقهى. نعيش حقبة أظن أنها حقبة ما قبل التاريخ. العالم يتقدم ونحن نراوح أماكننا. نخاف أن نخطو. أشبه الفتيات من عمري مكتسية بالفضول الجامد أو المستتر. أراقب العالم من بعيد، لكن دائمًا لدي الكثير يدور بداخلي، أسئلة لم أجد لها جوابًا بعد، أمور كثيرة غامضة بلا إجابة. والحقيقة لا تأتي كاملة أبدًا، بل كل إجابة تحمل معها سؤالًا جديدًا، أو خيارًا مختلفًا.
ولكل الأسباب السابقة، قررت أن أبقى بعيدة عن واقعي، لأنه لا شيء يشبع رغبتي في هذا المكان الذي أنا فيه، في عالم مليء بالأسرار والظلال. كنت أقرأ كثيرًا عن ثقافات وأديان وأعراق مختلفة. كانت بضع نسخ من كتب مهرية بأوراق صفراء، تتناقلها الأيدي دون أن يعلم رجال الدين من الطرفين المسلم والمسيحي، فهم أجمعوا أن هذه الكتب تفسد الفتيات، فأصبحت محرمة. كنت قارئة نهمة واكتشفت أن هناك مرحلة معينة من العمر تصبح فيها الأنثى كائنًا مقدسًا. وكان هذا سرًّا أريد أن أعيشه. لذلك قررت ألا أتجاوز مرحلة الطفولة. في تلك المرحلة، كنت أبحث عن نفسي في الكتب أكثر من الناس.
الفضول كان يرميني بين صفحات صفراء وأماكن مغطاة بالأتربة، ولكن لم يكن يهمني، فأنا لدي شغف لا يمكن إطفاؤه، وكان قلبي وعقلي يحملان داخلهما خيوطًا من الأسئلة التي تتناثر على أطراف أيامي. وكلما مر الوقت، كان سؤالي يكبر: "كيف يُمكن للمرأة أن تكون مجرد كائن مقدس؟ هل هو اختيار؟ أم هو قدر تحكمه فصول الزمن؟"
في تلك الفترة قررت أن أبقى في تلك المرحلة. أظن أنني كنت أخشى المجازفة. كنت أعتقد أنني أستطيع أن أحبس نفسي في تلك المرحلة التي لا أحتاج فيها إلى الإجابة، أن أظل الفتاة التي لم تكبر، التي لا يُطلب منها شيء سوى أن تكون، مجرد أن تكون فقط لا يهم ماذا. كنت أظن أن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على قدسيتي، لأظل تلك الفتاة البريئة التي لم تتلوث بشهوات الحياة أو رغبات الآخرين.
لكن مع مرور الوقت، بدأت تتسلل إلى قلبي أفكار لا يمكن تجاهلها، وأحيانًا كنت شبه موقنة بأن تلك القدسية التي صنعتها حول نفسي بدأت تتحطم تدريجيًا، كلما قابلت أشخاصًا يملكون الحقيقة في عيونهم، يغمضون بمجرد مروري. كانوا يدفعونني للتساؤل: هل القدسية التي أحطت نفسي بها مازالت أم انتهت؟ كنت أشبه بمن يقف على شاطئ البحر بحذائه والموج بخفة يبلله، لا يعلم أن البلل وصل إلى قدميه، فهو لديه يقين أنه محمي.
لكن هذه السلسلة الواهنة من القدسية آن أوانها لتنكسر. خرجت لأجلس على حافة النهر في إحدى الأمسيات. هي عادة لدينا، فلا تلفاز يسلينا كفتيات، لذا فالخروج هو السبيل لتبديد الملل. في ذلك اليوم وتلك الأمسية والجلسة، شعرت بشيء غريب يتسرب إلى قلبي، كان مثل تيار دافئ يمر عبر جسدي. كان شعورًا بأنني قد أصبحت مستعدة أخيرًا للانتقال إلى مرحلة جديدة، مرحلة لا تقتصر على الفهم الساكن للعالم، بل على تجربة الحياة بكل جوانبها، بما في ذلك تلك اللحظات المحرمة التي طالما ابتعدت عنها، وخجلت منها. هنا كسرت سلسلة القدسية التي لففتها حول عنقي. مجرد التغير بالشعور الداخلي كان بداية لهذا الحدث.
لكن كيف أبدأ؟ كيف أترك خلفي تلك القدسية التي فرضتها على نفسي؟ كيف أتجاوز فكرة أنه يجب أن أبقى "المقدسة"، التي لا يُسمح لها بالخطأ؟ كان قلبي يردد بين طياته سؤالًا واحدًا: "ماذا لو كان الحُب أو الارتباط هو الجسر الوحيد الذي يربطني بالعالم الذي طالما خشيت اقتحامه؟"
لم أكن أعرف الإجابة بعد، لكن شيئًا ما في أعماقي كان يخبرني أن عليَّ أن أبدأ في فك قيودي، أن أسمح لنفسي بالتحليق بعيدًا عن تلك الفكرة الثابتة التي لطالما حجزت روحي داخل قفص من الخوف والانتظار. وكنت أعلم على يقين، بأن كل رحلة لا بد أن تبدأ بخطوة، حتى لو كانت تلك الخطوة تدفع إلى العيش في مناطق لا أعرفها، لكني بحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.
تستمر حياتي في التفكك والتركيب، وضعها أقرب إلى قطع الليغو. كلما ركبناها بشكل ما، نرى أن الأفضل لو نركبها بآخر، وهكذا تستمر عملية فك وتركيب. تذكرني بصنبور المياه الذي في أول البلدة، صدئ بلون نحاسي، ماسورة طويلة بنهايتها. كلما كان يفتح، كان يسعل كالمصاب بالسل، ويخرج من جوفه بصاق بلون الدم، المرة تلو الأخرى. كان أهل القرية، كلما استبدلوه، جاءهم هاجس أن بركة المياه عن البلدة ستنقطع، لذا لا يمر يوم إلا ويعاد الصنبور القديم. في محاولة لفهم ما يدور بأذهانهم، وجدت أنهم بنفس وضعيتي. القدسية هي الأعلى بسلم الحياة، وإن حاولوا الاستغناء عنها عادوا إليها، رغم الصدأ. في محاولة الفهم والبحث عن الحقيقة التي تلامس القلب، بينما أواصل السعي للحرية في عالم يعج بالتساؤلات والأحلام المتناثرة.
ومع مرور الأيام، بدأ التخلي تدريجيًا عن الأطر التي كنت قد أوجدتها لنفسي. رغم كل اللحظات التي تجعلني في حالة اضطراب، أو قلق، أو حتى شك، لكن يقيني أن هذا ما يجب أن يحدث كان يدفعني للمضي. قررت أن أتخلص منها، أشبه كثيرًا تلك الدودة التي بنت حولها شرنقة، وعند الموعد بدأت تفض بكارتها لتخرج بجناحين لتحلق. شعرت بأن هناك شيئًا في الحياة يجب أن أجرّبه، شيئًا أبعد من فكرة الطهارة المزعومة التي عشتها طوال سنوات.
كيف تفض بكارة القدسية؟ هذا ما لم أكن أعلم كيف سيحدث. في مكان ناء كهذا، لا يسمع به إلا أصوات النساء صباحًا وهن يتهامسن عن إحداهن، وأصوات ثغاء الماعز. حقل ونميمة هو كل ما أحصل عليه هنا.
ولكن في يوم عند النهر، مكان الجلوس شبه اليومي بعد جلوسي بعدة دقائق وانتظاري لصديقتي، مر من المكان شاب كان يحمل حقيبة على ظهره. وكان يحمل في عينيه شيئًا من البراءة، لكن بداخل عينيه كان هناك عاطفة أو شيئ غامض. لم يكن من عادة الرجال أن يمروا من هذه الجهة من النهر لأنها مخصصة لنساء البلدة، لكن هذا غريب عنا. كان طويلًا بوجه دائري، وشعر تتساقط خصلاته على عينيه، أنف حاد وشفاه تتكور عندما يتحدث وتتجمع كأنها تريد من يقبلها. أشحت بنظري عنه، وقلت: "لا يُسمح للرجال بالتواجد هنا." بعض النساء تستحم بالنهر. رد بصوت رفيع كأنه سرق من أحد شخصيات رواية توم سوير لأحد أطفال المدرسة: "أحاول أن أصل لمركز البلدة." أشرت بإصبعي: "توجه إلى هناك، ستكون بالقرب من مبنى البلدية." نظر إليّ بنظرة تثير الفضول، وقال: "هل جربتِ أن تكوني أنتِ دون قيد؟ أن تكوني حرة من كل تلك الأفكار التي تُسجنين بها؟" التفت له فقد باغتني بسؤاله، ولكنه كان قد بدأ يخطو مبتعدًا عن المكان.
سألته: "كيف هذا أيها الغريب؟"
أجاب وهو يخطو بابتسامة غامضة أراهن أنه كان يضعها: "أنتِ تعرفين الإجابة، هي في داخلك، ولكنك تخافين من أن تخرجيها إلى النور."
تلك الكلمات كانت كالسهم الذي أصاب قلبي. شعرت بضيق في نفسي ووخز خفيف في صدري، وكأن قلبي بدأ ينبض بشدة. هل أنا خائفة؟ كنت أهز رأسي منكِرة، ولكن في أعماقي، كان الخوف يسيطر عليّ. لم الخوف؟ لا أعلم، ولكن اجتاحني شعور يشبه تنميل الأرجل حين نجلس القرفصاء لفترة طويلة.
في تلك اللحظة، قررت أن أبدأ رحلتي نحو التحرر، أو بمعنى أدق، رحلتي لاكتشاف نفسي. قررت أن أتجاوز أفكاري التي طالما قيدتني في مكانٍ واحد، وأن أسمح لنفسي بأن أعيش الحياة بكل ما فيها من مخاوف وأشواق. كنت أعلم أن التحرر لا يعني الفوضى، بل يعني أن أكون صادقة مع نفسي أولًا، وأن أعترف بما أشعر به، دون خجل أو خوف.
مرت الأيام، وكلما تقدمت في هذه الرحلة، كنت أكتشف جوانب جديدة عن نفسي، جوانب بعيدة جدًا عن تلك القيود التي وضعت نفسي بها. تعلمت أن الحب ليس دائمًا محضًا من طهارة كما كنت أظن، بل هو خليط من المشاعر المعقدة التي تأخذك إلى أماكن لم تكن تعرفها من قبل. بداية المعرفة كانت صدمة بالنسبة لي. سألت أمي يومًا: "أكنت تحبين والدي؟" لتجيب: "كان رجلًا في حياتي، انتهت متعتي كامرأة برحيله." فقلت وأنا أسأل: "وأنتِ تحبينني؟" كان جوابها سريعًا: "أنتِ حبيبتي ونبضي الذي أحيى به." هنا أدركت أن طهارة الحب مدنسة بأكاذيب لنصل إلى ما يريحنا.
برحلتي نحو فهم نفسي أو التحرر من قيودي، كنت أقف أحيانًا أمام مرآتي. مرآة مكسورة من طرفها الأيمن، مصابة ببقع في الوسط باهتة. الصورة عند النهر كانت أفضل، ولكن كنت أقف وأنظر إلى نفسي. كنت أرى تغيرات واضحة ليس في جسدي، فهذه كانت ومازالت تتغير كلما تقدمت بالعمر. كانت التغيرات في عينين ونظرتيهما إليّ. أصبحت أحب نفسي وجسدي وأتقبل كل جزء مني، حتى تلك التي كنت أخشى أن ألمسها.
وبالرغم من أنني كنت ما زلت في بداية الطريق نحو الفهم، إلا أنني كنت أعلم أن الحياة كنهر قريتنا المتدفق. عليّ أن أترك نفسي ليجرفني تياره. فهذه فقط البداية، والبداية خطوة، نحاول التوازن بها دون خوف، كالطفل في بداية المشي، خائف لكن يريد أن يفعل.
وتستمر الأيام، لتروي لي قصصًا جديدة عن الحب والحرية، عن الآلام والأفراح، عن رحلة طويلة لن تنتهي إلا عندما أجد نفسي تمامًا، بدون أي قيد.
ومع مرور الوقت، بدأت أشعر بأن تلك الجدران التي طالما بنيتها حول نفسي أصبحت هشة، تتساقط واحدة تلو الأخرى. لم يعد هناك شيء يُخيفني، لا الماضي الذي طالما حملته على أكتافي كحقيبة ثقيلة، ولا المستقبل الذي كان يلوح في الأفق كغيمة مجهولة. بدأت أسير في الشوارع كما لو أن السماء أصبحت أكثر وضوحًا، والأرض تحت قدميّ أكثر استقرارًا. لم أعد تلك الطفلة التي تخفي تحت ملابسها الكثير من التساؤلات.
وفي أحد الأيام، بينما كنت أتجول في مركز القرية، صادفت شخصًا جديدًا. شابًا كان يحمل في عينيه تلك اللمعة التي أذكرها، نفس الفضول الذي كان يملأ قلبي عندما بدأت رحلتي. ابتسم لي ابتسامة بسيطة، وأحسست أنني تعرفت إليه بطريقة ما، رغم أن لقائي به كان عابرًا. لم يكن حديثي معه طويلًا، لكن هناك شيئًا ما في هذه اللحظة جعلني أشعر بشيء عميق يتسلل إلى داخلي. كانت تلك المرة الأولى منذ فترة طويلة التي أشعر فيها بالاتصال الحقيقي مع شخص آخر، دون أن تكون هناك قيود أو توقعات مسبقة. اللقاء كان عابرًا لشخصية مجهولة بالنسبة لي، ولكن كأنه كان مبرمجًا ليريني أين وصلت برحلتي.
بمرور الأيام، تعلمت تقبل الآخر، وتقبل تقلبات الآخرين. تعلمت أن أمي تحتاج أن تذهب للراهب وتجلس للاعتراف رغم أنها مسلمة. أدركت أن الهاتف بدار البلدية لم يكن مجرد هاتف، بل كان بداية وجود الهواتف بمنازلنا. كان مجتمعي يحتاج للوقت ليتأقلم مع الحلّة الجديدة، مثلي أنا حين خرجت من قدسيتي إلى تحرري وفهمي لذاتي. أصبح لدينا حافلة، وصبي يوزع الجرائد، ومكتبة بكتب كثيرة وجديدة، وتلفاز في كل بيت. تعلمت أن صنبور المياه السائل لن يتغير، فهو مقدس أكثر من كل أهل البلدة. وتلك النميمة الصباحية مع رائحة أكواب القهوة والضحكات الخجلة مرة، ومرة أخرى وقحة، لن تتغير. تقبلها كان جزءًا من تقبلي لجسدي ونفسي.
بلقائي الأخير مع صديقتي في قاعة البلدية عندما كانت توقع عقد زواجها، غمزتها وقلت: "بم تشعرين أيتها السمراء؟" ابتسمت بشفاهها المطلية باللون الأحمر الصارخ المعتاد، همست: "أخيرًا سأتخلى عن هذا اللون الذي يخضب فمي." وضحكت بخجل. قد لا أكون قد فهمت ما تقصد، ولكن أشكر الرب أنني سأتخلص من هذا التلوث البصري الذي رافقني لسنوات...