تواصل معنا

"الموت ينظر إلينا من النافذة" قصة: بن علي لونيس... . . . . . رياح آخر الخريف تمسح طرقات المدينة الحزينة.. ما تبقى من أشجار ورثتها المدينة عن الكولون...

كاسيوبيا

❥غــجــريـة الــمــجــرة❥
مستشار الادارة
إنضم
14 أبريل 2023
المشاركات
47,659
مستوى التفاعل
54,362
الإقامة
مجرة أندروميدا
مجموع اﻻوسمة
20
الموت ينظر إلينا من النافذة قصة: بن علي لونيس

"الموت ينظر إلينا من النافذة"

قصة: بن علي لونيس...
.
.
.
.
.




silhouette-de-la-femme-et-lhomme-ancienne-fenetre-151691.jpg

رياح آخر الخريف تمسح طرقات المدينة الحزينة..

ما تبقى من أشجار ورثتها المدينة عن الكولون تعرّت بسرعة…

من هذا الذي ينظر إلينا من زجاج النافذة ؟

لم أر شيئا..

فتحتُ النافذة فدخلت ريح باردة ممزوجة بقطرات من الماء في

طور متقدم من التجمّد..لا شيء في الخارج غير وجه المدينة الحزين…

أصرّت أنها رأت أحدا ينظر إلينا من النافذة…

إنها قطة جارتنا، فكثيرا ما تنزل من الطابق العلوي لتصطاد الجرذان التي تخرج في هذا الوقت إلى الشارع بحثا عن قوتها.. لقد رأيتها ذات مرة بفرائها الرمادي تجلس القرفصاء في الشرفة. هل تتذكرين؟ لقد طلبت مني أن أشتري لك واحدة مثلها تؤنسك للساعات التي أغيب فيها عن المنزل…

لم تنم ليلتها إلا بعد أن أصرّت أن أبقى إلى جانبها، أمسّد على شعرها الذي يميل لونه إلى الحمرة بفعل ملوّنات الشعر التي أدمنت على استخدامها.. نامت مثل طفلة صغيرة ممسكة بيدي، وأنا لا أفارق وجهها الملائكي…

لقد صُدمت لما أخبرني طبيبها أنها تعاني من تورّمات في ثديها الأيمن…

أهو السرطان يا دكتور؟

ليس بعد.. لابد من إجراء فحوصات مكثفة للتأكد من طبيعة هذه الأورام، وفي انتظار النتائج أرجو أن تظل إلى جانبها، حاول قدر المستطاع أن تقوّي فيها ايمانها بالحياة…هذا ضروري جدا بالنسبة لها وفي هذه الأوقات بالذات…

كنتُ أريد أن أقول له: ماذا عني؟ من أين لي بتلك القوة؟

لا أحد في النافذة يا صغيرتي، نامي فأنا بجنبك، وإن شئت سأظل جالسا بالقرب منك مثل الملاك أحرسك من أي خطر يُهددك..

ثم تبتسم، وتغمس نفسها داخل وسادتها قبل أن تنطفئ مثل شمعة..

هل قلتُ أنها انطفأت؟

لا أريد أن أتذكر تلك الليلة..

كانت الرياح تعصف خارجا، والمدينة شبه غائبة في ظلمة متقدمة، لا يُسمع من دبيب الحياة إلاّ أبواب حديدية تعبث بها الرياح بعد أن نسي أصحابها إغلاقها بإحكام..

كنا ثلاثة:

أنا

هي

والموت

أيّ رفقة هذه التي تجمع عاشقين وثالثهما هو الموت؟ ليلتها لم تحسّ بالآلام، على الرغم من أنها امتنعت عن أخذ مهدئاتها.. كانت تنظر إليّ مثل الذي يريد أنه يرتوي من الماء قبل أن يقطع صحاري لا نهائية…كانت باردة مثل منحوتة برسلانية..كنتُ أرى في عينيها رحيلا باردا يُخفي كل الفرح الذي تلاشى في عز الحياة، واستحال إلى نصال حادة تمزّق هدوء الروح…قاومتُ كل الدموع التي لم أذرفها طيلة حياتي، كنتُ مثالا للرجل الذي لا يبكي، حتى أنّ والدتي كانت تقول لي: ألا تملك قلبا مثل البشر؟ يموت والدك ولا تبكيه؟

آه…

لو كانت الدموع تُشرى لاشتريتها بكل أموال الدنيا، إلاّ أنّ القلوب غرف سرية نحملها معنا لكن لا نملك كلّ مفاتيحها ..

لكن ليلتها شعرتُ برغبة جامحة للبكاء، أردتُ أن أصرخ بكل ما أوتيتُ من قوة، في وجه الموت لأطرده من الغرفة، فلا أحد طلب منه خدمة…

هناك من ينظر إلينا من خلف النافذة !!!

ارحل أيها الموت… فلما تنظر إلينا من خلف النافذة؟

أسدلتُ الستائر، حتى أخفي وجه المدينة وقد تلاشت تماما من الوجود.. وعدتُ مُسرعا إليها، فأمسكت بذراعي، وأحسستُ فعلا بضعفها، وقد أجهدت نفسها:

أرجوك حبيبي، أريدك إلى جانبي…أريد أن أرحل عن هذا العالم ويكون وجهك هو آخر ما أراه، أريد أن أحمل ذكراك إلى العالم الآخر، هناك قد أرتاح…


وصمتت، وصمتتُ أكثر، وكأنّ هرة جارتنا قد ابتلعت لساني عن آخره.. عجزتُ عن الكلام، فكلّ كلمة سأقولها ستخون حزني العميق، لأنّي لا أريد أن أنهار أمامها…

أحببتُك لأنك لا تنهار…

هل تتذكر يوم التقينا وكانت الجموع مشتتة بسبب القنابل المسيّلة للدموع..كان الجميع يهرب من رجال الشرطة التي تحولت إلى كلاب شرهة تريد أن تعضّ أي شخص يقف أمامها.. حينها تدافعت الجموع وسقطتُ على الأرض، ورأيتُ بأم عيني مجموعة من رجال الشرطة يسعون نحوي مدججين بعصيّهم، وكأنهم لم يرو من كل هذه الجماهير الغاضبة إلا فتاة نحيلة مثلي وقعت على الأرض.. وفجأة خرجت يد قوية من الفراغ ترفعني بقوة عظيمة إلى السماء…وبعدها لم أر إلاّ شرطيا طريحا على الأرض يتلوّى من الألم… كنتَ أنت…خرجت مثل بطل القصص الجميلة، جئت لأجلي، أرسلك الحكواتي لأجلي حتى تنقذني من براثن الموت، الفرق الوحيد أن الشرير هنا ليس تنينا أو غولا بل شرطيا…لقد بحثتُ عنك لأيام طويلة قبل أن أكتشف أنك تشتغل ميكانيكيا في الحيّ المجاور لحينا.. لم يهمني لحظتها شكلك بقدر ما أردتُ أن أعرف كل تلك القوة الداخلية التي أحسستُ بها كموجة بحرية تضرب بشدة على شواطئ القلب…ضحكتَ كثيرا، حتى تقاوم خجلا لم أره في غيرك….

لا أحد في النافذة.. وحتى تطمئني أكثر أسدلتُ الستائر.. والآن ارتاحي عزيزتي…نامي بهدوء، غدا سيكون الصباح جميلا..

فهِمت أنّي كنتُ أهرب من أحزاني الجائعة، وأتوارى خلف كلمات تحلم أكثر مما تعيش الواقع..

الحلم ضروري…لكن هل يشفي كل امراض الروح؟

هل قلتُ أنها انطفأت؟

أتذكر كيف صُعقت لما اكتشفت هوايتي…

ميكانيكي ويكتب الشعر؟

ضحكت طويلا…

قلتُ لها: سأصحح لك:

شاعر ويعمل ميكانيكي..

ماذا تكتب؟ ما أعرفه عن الشعراء أنهم يتغزلون بالنساء فقط..

قالتها بمسحة طفولية…

قد يكون الأمر كذلك.. وما العيب إن كان الشعراء يتغزلون بالنساء؟ هم أفضل من أن يتغزل بك أي متسكّع في الطريق..

متى تهدأ هذه الرياح؟ كأنها تعصف داخلي، والأبواب التي تصفق خارجا تعذبني مثل جلاد قاس الوجه والقلب…

مازال ينظر إلي…انظر إنه يقف بالقرب من خزانة الملابس..ألا تراه..عيونه كبيرة ومخيفة..

أخافتني كلماتها، من الخوف نعتقد بوجود أشياء خيالية..

إنه مشجب الملابس عزيزتي…

الحياة مشجب كل أحزاننا..قلتها بصوت خافت كمن يفشي أسرارا لا ينبغي أن يسمع بها أحد..قلتها حتى أواسي نفسي في حضرة هذا………..

لا تخافي عزيزتي..أنا إلى جنبك…

هل أعجبتك قصيدتي الأخيرة؟

كان شعرها يتطاير يعبث بها نسيم بحري، وكنا جالسين نحتسي أكوابا من الليمونادة المنعشة..كانت تمسك بالأوراق بأمومة واضحة، أنعشت رغبتي في الحياة..لا شيء أجمل من إمرأة جميلة تمسك بقصيدة….ثم قالت لي أنها لم تصدق إن كنتُ أنا من كتب كل هذا الكلام الجميل، لكنها كانت سعيدة كون نظرتها عن الشعراء قد تجسدت عندي أيضا

ألم أقل لك أن الشعراء لا يعرفون إلا التغزل بالنساء..ماكرون..لأنّهم يعرفون متى يرمون صنارة اللغة…

غفت قليلا، وكنتُ أسمع أنفاسها تخرج بصعوبة وكأنها تمر من مضيق صخري يعيق خروجها..مسدتُ بهدوء وبخفة على شعرها، وتحرك جسدها مثل جسد قطة صغيرة تحاول أن تغرق أكثر في دفئ الوسادة..ماذا يا ترى تحلم به؟ كم رغبتُ في فتح نافذة أحلامها لأتفقد أحلامها الكبيرة…

تشبهين رؤيا في رواية ( الكتاب الأسود )، هل تعريفين الرواية؟

هذا ما يجعلني لا أشبهك..لا أقرأ مثلك…عيب حضاري إن شئت، لكن من تكون رؤيا هذه؟

إمرأة لغز، تختفي عن زوجها دون سابق إنذار..الرواية تدور كلها حول هذا الغياب..

رواية عربية؟

بل تركية…رواية لأورهان باموك..كم أحترم هذا الروائي الذي أعاد للسرد سحره، بعد أن صرنا نقرأ حكايات فارغة…يجعلك تفكّر وتتأمّل في تشعبات الحياة وفي مصائر الشخصيات كما لو كانت حياتها تعنيك..


صدقني..أفضل الحياة على الرواية..أتعرف لماذا؟ لأني واقعية….

كيف سأصحح نظرتها؟

أتعرفين عزيزتي متى سأكتب رواية عنك؟

………؟

لما أكون واقعيا أكثر مع الحياة..

تتفلسف؟

أنفاسها تخرج مثل نسيم دافئ، تلامس مسامات جلدي المقشعر من تلك اللحظة…كم هي الحياة قاسية….إذ يبدو الفرح مجرد لحظة عابرة تزيد من قتامة الأحزان، نعيشه من أجل أن يكون للحزن عنفه…

آلو؟!!

مرحبا أستاذ كريم..

……..

عرفتُ أنّ الصوت المنبعث من السماعة هو صوت طبيبها، لقد وعدني بأنه سيكالمني بمجرد خروج التحاليل النهائية…كم دام صمتي لحظتها؟ قد يكون لقرون طويلة، مرّت علي كل صور الحياة التي عشتها والتي نسيتها واعتقدت أنها في غياهب الذاكرة..لحظتها من حيث لا أدري رأيتُ صورة والدي بعيونه المتقدة ذكورة، وهو ينظر إلى الفراغ، قد يكون هذا الفراغ هو أنا، تذكرتُ يوم وفاته…بعد سنوات طويلة من الغربة في فرنسا عاد مثل الطائر المهاجر ليموت في موطنه…عاد حاملا معه كل الإنكسارات والخيبات التي لم يتكلم عنها لأحد، لكني عرفتُ فيما بعد قصته..عاد لينطفئ مثل شمعة في شتاء العمر.. ذاك الرجل الذي كان سكان القرية يهابونه ينهار فجأة بسبب سرطان الرئة.. كنتُ أرى جسده الذي ينهشه المرض ويفترسه دون رحمة، إلا أنه رفض أن يتخلى عن السجارة والبيرا.. كان يقول لمن يجلس إلى جنبه: الحياة تُعاش مرة واحدة، ولما أموت رحمة ربي واسعة. تعجبتُ من منطقه دون أن تقدر السنون أن تضعف ايمانه بما يملكه من قناعة…لكنه استسلم للسرطان ساعات قليلة قبل أن يبزغ الصبح، وآخر كلمة قالها: لا تحزنوا علي…ثم انطفأ إلى الأبد…

أستاذ كريم….التحاليل بين يدي……يجب أن تعرف شيء..

تركته يتكلم وعقلي في مكان آخر، كنتُ أفكّر في المستقبل بشكل مريب…هل كنتُ أعرف تفاصيل ما سيقوله الطبيب على مسامعي…..

“إنه في مرحلة متطورة….أنا متأسف…”

في الصباح، رأيتها تبتسم، كما لو أنها رأت أحلاما جميلة، لحظتها أدركت أنها رحلت..


النهاية.....
 

جلينار

لِــيـدِي اَلْحُـــقُـولِ [مسؤلة عن قسم ادم وحوا]
ابداع وتميز
إنضم
18 مايو 2023
المشاركات
22,435
مستوى التفاعل
27,675
الإقامة
حقول التوليب
مجموع اﻻوسمة
11
الموت ينظر إلينا من النافذة قصة: بن علي لونيس
لي عودة 😍 انتظريني
 
Comment

هدوء

مستشار اداري
نائب المدير العام
إنضم
24 مارس 2022
المشاركات
26,255
مستوى التفاعل
30,371
مجموع اﻻوسمة
11
الموت ينظر إلينا من النافذة قصة: بن علي لونيس
قصة مؤثرة رغم مرضه العضال والذي
لم يعرف به احد مازال صامدا ..
شكررا لجمال القصة والمحتوى
 
Comment

كاسيوبيا

❥غــجــريـة الــمــجــرة❥
مستشار الادارة
إنضم
14 أبريل 2023
المشاركات
47,659
مستوى التفاعل
54,362
الإقامة
مجرة أندروميدا
مجموع اﻻوسمة
20
الموت ينظر إلينا من النافذة قصة: بن علي لونيس
قصة مؤثرة رغم مرضه العضال والذي
لم يعرف به احد مازال صامدا ..
شكررا لجمال القصة والمحتوى
الشكر لتواجدك الكريم💐
 
Comment
أعلى