أعرفُ رجلًا بمزاجٍ غريب...
يجمع شتاته أمام دورق قهوة،
ويعيد ترتيب بيت عقله بين أنفاس سيجارة.
هنا... تكون نقطة ضعفه:
ما بين الدورق والأنفاس.
في هذه الجزئية من الوقت،
بإمكان أيّ أحد أن يأخذه إلى الصحراء ليصطاد السمك،
أو أن يقطف البن من شجرة ياسمين.
أتخيله كل صباح يدخل غرف المنزل،
يفتح الباب تلو الباب،
ويأخذ القطعة تلو الأخرى،
كلّها موضوعة بعناية في مكانٍ مخفي.
ليس لأنه يخاف سرقة ما يُخفي،
لكنّ لشتاته عادة غريبة:
الزحف ليلًا إلى بيوت الجيران.
ليس تطفّلًا،
بل شغفٌ بالمعرفة…
ما الذي يحدث خلف الأبواب الموصدة؟
أيّ أفكار تمر؟
وأيّ حكاية تُروى؟
الحفاظ على الترتيب هو الأهم في سلّم أولوياته عند التجميع،
فهو رجلٌ منظّمٌ جدًا:
لا قطعة تعلو أخرى،
ولا قطعة تأخذ مكان أخرى.
أراه يخرج إلى منازل الجيران،
يستعيد أماناته منهم.
تخيُّلُ الموقف يجعلني أضحك…
لا تغضب،
أنت تُرغمني على الضحك عنوةً،
وأنا أراك تطرق الأبواب وتقول:
"عفوًا… لدي جزء عندكم، تكرّموا بإرجاعه."
نظرات فتيات الجيران فعلًا قاتلة:
تلك ترى فيه فارس الأحلام،
الذي تحلم به ليلًا موصولًا بالنهار.
وتلك تراه الرجل الهمام، بالفرس الأبيض المقدام،
سينتشِلها من بئرٍ أوله حاء وآخره حرمان.
وأمّ تلك تراه عريسًا مناسبًا لابنتها،
وإن لم تفلح… فأختها موجودة!
المهم أن لا تظفر به ابنة زوجها،
تلك الصهباء بعيونها الخضراء.
وتلك ترى فيه تربةً خصبة لتنبت أطفالها.
كثيرات هنّ…
فهو يسكن في حيٍّ كلُّ الرجال فيه فارّون،
كالمرغمين على الخدمة العسكرية،
لكنهم مستنكفون،
هاربون ليجلبوا الأرزاق،
لتستمتع النساء،
ويبتعن ما يردن،
ويرتحن من كثرة القيل والقال والمقارنات.
يتناول من تلك جزءًا،
ومن تلك جزءًا،
وأيديهنّ تغطّي الأفواه،
حتى لا يرى ضحكتهن،
أو بشاعة أسنانهن،
أو رائحة فم إحداهن.
وعند هذه الجزئية،
ينظر إلى نفسه:
حافيَ القدمين، بلباس النوم،
شعره غير مرتّب،
وفرشاة أسنانه تتدلّى من جيبه.
يستيقظ؛
فيعتذر من السماء لأنه خرق قوانين اللّباقة،
ويعود للمنزل يحمل الكثير الكثير،
والأصوات تلاحقه:
"أتريد مساعدة؟
أتريد أن آتي؟"
فينفض أذنه،
فلهنّ أصوات نشاز.
ولا تعليق على صوته،
ولو كان كهزيم الرعد في ليلة سكون.
يصنع قهوته،
وكل شيء يقفز حوله،
وهو يحاول ألّا يحرق أصابعه.
ويصرخ كما مربية الحضانة:
"اجلسوا، قاتلكم الله!
اهدؤوا!"
لكن لا أحد يستمع…
فهم خرجوا من رأسه،
ليبيتوا ليلتهم في بيوت الجيران،
والربّ وحده يعلم ما حدث هناك…
لا إفصاح ولا اعتراف.
ليتنهد وقد طفح الكيل،
ويهُدّدهم بقداحته وسيجارته.
ما إن يشعلها،
ويسحب النفس الأول —
القبلة الأولى التي تحيل كلّ الضوضاء هدوءًا —
حتى تصل رسالتها،
وابتسامتها،
وهمسها...
ليترتّب كل شيء،
ويتجمّع بأجمل صورة.
فيبتسم...
وتلك ابتسامة المنتصر،
الذي حافظ على نفسه فوق صهوة الجواد،
ولم يكبّ أبدًا.
بل نزل ليُقبّل شمس صباحه،
ويرتشف صباح قهوته…
من همس قهوتها.
بس ارروق وجاري القرراءة