حضارة الأنباط
إنهم بدو رحّل، قدموا من الجزيرة العربية، واستقروا في الأردن الحالي بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. وحوالي سنة 312 ق. م. أصبحوا يحتلون
بلاد الأدوميين الواقعة بين وادي الحسا (زراد) وخليج العقبة (إيلة)؛ وقاوموا أنتيغون، أحد خلفاء الإسكندر.
أدت سيطرة الأنباط على الطرق التجارية إلى تنامي ثروتهم . فخلال العصر الهلّنستي، شكلت البتراء مخزن الأنباط وملجأهم المنيع،
وأصبحت عاصمة لمملكة تمتد - في القرن الأول ق.م.- من سيناء إلى الحجاز (مدائن صالح/ الهجرة) وإلى جنوب سوريا، حتى أن الأنباط أصبحوا
لفترة قصيرة أسياد دمشق. وضمّت مملكتهم مناطق زراعية ومراعي. لم يكن لمملكتهم حدود واضحة، لكنها شملت جلّ أراضي الأردن الحالي، باستثناء الشمال الغربي
المملكة النبطية فرضت نفسها كقوة إقليمية أجبرت الدول المجاورة والرومان على أن يحسبوا حسابها. لقد فرضوا سيطرتهم على الشرق الأدنى،
وأسسوا سنة 64 قبل الميلاد ولاية سوريا التي انضمت إليها المدن العشر: الديكابوليس؛ لكن هذه الأخيرة سرعان ماانحازت إلى جانب روما.
بعد ذلك، يبدو أن جنوب البلاد فقد أهميته : إذ يحتمل أن آخر ملك نبطي، وهو رب إيل الثاني (70-106 م.)، قد جعل بصرى عاصمته. ثم قام الإمبراطور تراجان في
النهاية بضمّ المملكة عسكرياً سنة 106 م. وأسس الولاية العربية الرومانية.
4مع حلول العصر الهلّنستي، كان الأنباط قد حققوا بالفعل شهرة بنشاطاتهم التجارية. كانوا أسياداً لطرق النقب وسيناء، وصدروا بضائعهم إلى الإسكندرية
وغزة (وهي السوق الرئيسية لعاصمتهم البتراء). شملت صادراتهم مواد من أراضيهم، مثل القار من البحر الميت، والذي كان يستعمل في مصر للتحنيط
وجلفطة السفن، وسلع الرفاهية (البخور، والصمغ، والبلسم، والتوابل) التي كانت تأتي براً وبحراً من بلاد العرب السعيدة (اليمن) ومن الخليج العربي
والمحيط الهندي. هذه المنتجات كانت مطلوبة في جميع أنحاء العالم المتوسطي. وتوجد مؤشرات على وصول التجار الأنباط حتى أقصى الغرب (شكل III.7).
سيطر الأنباط على تجارة القوافل على امتداد الطرق الموجودة في الجزيرة العربية، وعلى تجارة البحر الأحمر، بفضل عدة موانيء، من ضمنها أيلة (العقبة) ولوكي كومي.
تميزت هذه الطرق بالمتاجرة بسلع حِرفية مميزة: خزف ملون، وقناديل؛ وقطع نقدية فضية وبرونزية؛ وأشكال هندسية خاصة مستعارة من البطالمة،
مثل تيجان الأعمدة المعروفة بالنبطية
6أدّت السيطرة الرومانية على مصر منذ عهد أغسطس إلى انحطاط النشاط البحري النبطي. وسرعان ما فقدت البتراء هيمنتها، كمركز لتجارة القوافل، لصالح تدمُر.
7تقع البتراء في جوف جرف وعر من الحجر الرملي، يمكن الوصول إليه فقط عبر مسالك رِجلية، وممر ضيق حفرته مياه السيول المتدفقة في وادي موسى:
السيق. تقع البتراء بعيدا عن محاور الطرق الرئيسية المتمثلة بوادي عربة وطريق الملوك. ما زالت استكشافات الموقع محدودة للغاية: فحدود المدينة
وتوزيع الفضاءات تظل صعبة التحديد، كذلك الأمر بالنسبة لتواريخ التجهيزات الأقدم التي تلي العصر الحجري القديم. نشاهد على القمة المسطحة لأم البيارة،
التي تهيمن على المدينة القديمة، سكناً أدومياً يعود للقرن السابع أو السادس ق.م.، وفي عدة مناطق توجد بقايا محتملة من العصر الهلّنستي المتقدّم،
وأماكن عبادة في الكهوف، وتجهيزات موروثة عن نمط حياة الرحّل، مثل "مصائد الماء"، التي قد تكون نبطية. في هذا الحصن الطبيعي،
كان من السهل حماية المساكن والثروات المتراكمة بفضل تجارة القوافل
عندما ازدهرت البتراء خلال القرن الأول الميلادي، لم تعد الموارد المائية المحدودة تكفي، لذا توجب القيام بتجهيزات ضخمة لجلب الماء من عدة ينابيع من الجوار،
وإعادة هيكلة المدينة على ضفتي وادي موسى. ارتدت البتراء بمسرحها، وصفّ الأعمدة المحاط بمبانٍ عملاقة ومنازل فخمة، هيئة حاضرة هلّنستية ذات
معالم متميزة، مثل الصروح المنقوشة في الحجر الرملي، والمقابر، والخزنة، ومجموعة "المقابر الملكية"، و"الدير". لكن الأنباط برهنوا أيضا على قدرتهم
على التحكم في بيئة صعبة من خلال توطين السكان وتطوير الزراعة في المنطقة، بالأخص وادي موسى والبيضا؛ وهي أنشطة تواصلت خلال العصرين الروماني والبيزنطي،
وعززت حياة المدينة وبقاءها لفترة طويلة (شكل III.10).
Agrandir Original (jpeg, 184k)
9يقوم البناء في قلب المدينة العتيقة، في نهاية شارع الأعمدة الذي يمثل الطريق الرئيسي، وهو يعتبر المعبد الأهم في البتراء؛ ولعله كان مكرساً للإله النبطي العظيم: ذي الشرى. يحتوي القصر على ساحة طويلة مبلطة باتجاه شرق-غرب، ومعبد هائل مكعب الشكل ومفتوح على الشمال، لم ينقب فيه تنقيباً كاملاً بعد، ولكن تمّت دراسته من زاوية هندسية (Francois Larche). كانت الأعمدة الأربعة في واجهته تدعم جملونا مثلث الشكل. في الداخل تنفتح حجرة التماثيل المستطيلة على ثلاث قاعات متجاورة: يُرجّح أن القاعة الأولى قد احتوت على الصنم. وأحاط رواق معمّد بالجدار الخارجي المغطى بزخارف جصّية متوجة
10منذ سنة 1999 تنقب في الموقع بعثة أثرية فرنسية، وتدرس المنطقة المقدسة المرتبطة بالمعبد، «التمنوس». ويبدو أن عدة منشآت واضحة،
من ضمنها المذبح الكبير، قد بنيت أثناء إنشاء المعبد، خلال مرحلة إعادة تجهيز هامة يعود تاريخها إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد أو بداية القرن الأول
بعد الميلاد، كمعظم المباني الكبيرة في وسط المدينة. وبعد الغزو الروماني في القرن الثاني، أعيدت هيكلة المعبد ببناء بوابة بثلاث كوى وجدار خلفي غني بالزخارف؛
والذي استخدم كمعلم ملكي روماني، وانهار في العصر الروماني المتأخر، بينما بقي المعبد قائما. كشفت التنقيبات عن مساكن بيزنطية بنيت على الأطلال،
وبقايا منازل تعود للعصر الهلّنستي، وهي الشاهد الأقدم على الوجود النبطي في هذا القطاع (شكل III.11).
بلاد الأدوميين الواقعة بين وادي الحسا (زراد) وخليج العقبة (إيلة)؛ وقاوموا أنتيغون، أحد خلفاء الإسكندر.
أدت سيطرة الأنباط على الطرق التجارية إلى تنامي ثروتهم . فخلال العصر الهلّنستي، شكلت البتراء مخزن الأنباط وملجأهم المنيع،
وأصبحت عاصمة لمملكة تمتد - في القرن الأول ق.م.- من سيناء إلى الحجاز (مدائن صالح/ الهجرة) وإلى جنوب سوريا، حتى أن الأنباط أصبحوا
لفترة قصيرة أسياد دمشق. وضمّت مملكتهم مناطق زراعية ومراعي. لم يكن لمملكتهم حدود واضحة، لكنها شملت جلّ أراضي الأردن الحالي، باستثناء الشمال الغربي
المملكة النبطية فرضت نفسها كقوة إقليمية أجبرت الدول المجاورة والرومان على أن يحسبوا حسابها. لقد فرضوا سيطرتهم على الشرق الأدنى،
وأسسوا سنة 64 قبل الميلاد ولاية سوريا التي انضمت إليها المدن العشر: الديكابوليس؛ لكن هذه الأخيرة سرعان ماانحازت إلى جانب روما.
بعد ذلك، يبدو أن جنوب البلاد فقد أهميته : إذ يحتمل أن آخر ملك نبطي، وهو رب إيل الثاني (70-106 م.)، قد جعل بصرى عاصمته. ثم قام الإمبراطور تراجان في
النهاية بضمّ المملكة عسكرياً سنة 106 م. وأسس الولاية العربية الرومانية.
طرق القوافل والطرق البحرية
4مع حلول العصر الهلّنستي، كان الأنباط قد حققوا بالفعل شهرة بنشاطاتهم التجارية. كانوا أسياداً لطرق النقب وسيناء، وصدروا بضائعهم إلى الإسكندرية
وغزة (وهي السوق الرئيسية لعاصمتهم البتراء). شملت صادراتهم مواد من أراضيهم، مثل القار من البحر الميت، والذي كان يستعمل في مصر للتحنيط
وجلفطة السفن، وسلع الرفاهية (البخور، والصمغ، والبلسم، والتوابل) التي كانت تأتي براً وبحراً من بلاد العرب السعيدة (اليمن) ومن الخليج العربي
والمحيط الهندي. هذه المنتجات كانت مطلوبة في جميع أنحاء العالم المتوسطي. وتوجد مؤشرات على وصول التجار الأنباط حتى أقصى الغرب (شكل III.7).
سيطر الأنباط على تجارة القوافل على امتداد الطرق الموجودة في الجزيرة العربية، وعلى تجارة البحر الأحمر، بفضل عدة موانيء، من ضمنها أيلة (العقبة) ولوكي كومي.
تميزت هذه الطرق بالمتاجرة بسلع حِرفية مميزة: خزف ملون، وقناديل؛ وقطع نقدية فضية وبرونزية؛ وأشكال هندسية خاصة مستعارة من البطالمة،
مثل تيجان الأعمدة المعروفة بالنبطية
6أدّت السيطرة الرومانية على مصر منذ عهد أغسطس إلى انحطاط النشاط البحري النبطي. وسرعان ما فقدت البتراء هيمنتها، كمركز لتجارة القوافل، لصالح تدمُر.
البتراء
7تقع البتراء في جوف جرف وعر من الحجر الرملي، يمكن الوصول إليه فقط عبر مسالك رِجلية، وممر ضيق حفرته مياه السيول المتدفقة في وادي موسى:
السيق. تقع البتراء بعيدا عن محاور الطرق الرئيسية المتمثلة بوادي عربة وطريق الملوك. ما زالت استكشافات الموقع محدودة للغاية: فحدود المدينة
وتوزيع الفضاءات تظل صعبة التحديد، كذلك الأمر بالنسبة لتواريخ التجهيزات الأقدم التي تلي العصر الحجري القديم. نشاهد على القمة المسطحة لأم البيارة،
التي تهيمن على المدينة القديمة، سكناً أدومياً يعود للقرن السابع أو السادس ق.م.، وفي عدة مناطق توجد بقايا محتملة من العصر الهلّنستي المتقدّم،
وأماكن عبادة في الكهوف، وتجهيزات موروثة عن نمط حياة الرحّل، مثل "مصائد الماء"، التي قد تكون نبطية. في هذا الحصن الطبيعي،
كان من السهل حماية المساكن والثروات المتراكمة بفضل تجارة القوافل
عندما ازدهرت البتراء خلال القرن الأول الميلادي، لم تعد الموارد المائية المحدودة تكفي، لذا توجب القيام بتجهيزات ضخمة لجلب الماء من عدة ينابيع من الجوار،
وإعادة هيكلة المدينة على ضفتي وادي موسى. ارتدت البتراء بمسرحها، وصفّ الأعمدة المحاط بمبانٍ عملاقة ومنازل فخمة، هيئة حاضرة هلّنستية ذات
معالم متميزة، مثل الصروح المنقوشة في الحجر الرملي، والمقابر، والخزنة، ومجموعة "المقابر الملكية"، و"الدير". لكن الأنباط برهنوا أيضا على قدرتهم
على التحكم في بيئة صعبة من خلال توطين السكان وتطوير الزراعة في المنطقة، بالأخص وادي موسى والبيضا؛ وهي أنشطة تواصلت خلال العصرين الروماني والبيزنطي،
وعززت حياة المدينة وبقاءها لفترة طويلة (شكل III.10).
Agrandir Original (jpeg, 184k)
معبد قصر البنت
9يقوم البناء في قلب المدينة العتيقة، في نهاية شارع الأعمدة الذي يمثل الطريق الرئيسي، وهو يعتبر المعبد الأهم في البتراء؛ ولعله كان مكرساً للإله النبطي العظيم: ذي الشرى. يحتوي القصر على ساحة طويلة مبلطة باتجاه شرق-غرب، ومعبد هائل مكعب الشكل ومفتوح على الشمال، لم ينقب فيه تنقيباً كاملاً بعد، ولكن تمّت دراسته من زاوية هندسية (Francois Larche). كانت الأعمدة الأربعة في واجهته تدعم جملونا مثلث الشكل. في الداخل تنفتح حجرة التماثيل المستطيلة على ثلاث قاعات متجاورة: يُرجّح أن القاعة الأولى قد احتوت على الصنم. وأحاط رواق معمّد بالجدار الخارجي المغطى بزخارف جصّية متوجة
10منذ سنة 1999 تنقب في الموقع بعثة أثرية فرنسية، وتدرس المنطقة المقدسة المرتبطة بالمعبد، «التمنوس». ويبدو أن عدة منشآت واضحة،
من ضمنها المذبح الكبير، قد بنيت أثناء إنشاء المعبد، خلال مرحلة إعادة تجهيز هامة يعود تاريخها إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد أو بداية القرن الأول
بعد الميلاد، كمعظم المباني الكبيرة في وسط المدينة. وبعد الغزو الروماني في القرن الثاني، أعيدت هيكلة المعبد ببناء بوابة بثلاث كوى وجدار خلفي غني بالزخارف؛
والذي استخدم كمعلم ملكي روماني، وانهار في العصر الروماني المتأخر، بينما بقي المعبد قائما. كشفت التنقيبات عن مساكن بيزنطية بنيت على الأطلال،
وبقايا منازل تعود للعصر الهلّنستي، وهي الشاهد الأقدم على الوجود النبطي في هذا القطاع (شكل III.11).
اسم الموضوع : حضارة الأنباط
|
المصدر : حضارات الدول العربية قبل الاسلام