تواصل معنا

كانت هناك دائمًا، في الخلفية، تتحرك بين الغرف كما لو أنها جزء من صمتها. صوت خطواتها الناعمة يعبر البلاط البارد، همهمة خافتة تنساب مع ترتيب الأشياء، وكأنها،...

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
56,416
مستوى التفاعل
25,193
مجموع اﻻوسمة
26
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....

Picsart_25-03-22_05-15-45-643.jpg

كانت هناك دائمًا، في الخلفية، تتحرك بين الغرف كما لو أنها جزء من صمتها. صوت خطواتها الناعمة يعبر البلاط البارد، همهمة خافتة تنساب مع ترتيب الأشياء، وكأنها، دون أن تدري، ترتبهم أيضًا—أفكارهم، ذكرياتهم، طريقتهم في الوجود. لم يشعروا بذلك يومًا، لم يعرفوا أنها تفعل، لكنها ظلت تفعل، حتى إذا ما كبروا، تركوا، مضوا نحو حياة أخرى، لم يعودوا يسألون، لم يعودوا ينتبهون. ومع ذلك، لا تزال هناك، تنتظر. لا أحد يعلم من تنتظر، لكنها تنتظر، كأن الزمن نفسه يدور حولها، وليس العكس، كأنه طفل صغير يلعب عند قدميها، يتشبث بثوبها، لكنه لا يحمل لها شيئًا سوى المزيد من الانتظار.

رائحتها... ليست مجرد عطر أو صابون أو قهوة صباحية، بل ذاكرة عالقة بين الجدران، مزيجٌ من الحليب الدافئ والمطر الأول، من يدين كانتا تمسحان على الرؤوس بخفة، فتترك أثرًا لا يُمحى. حكاياتها لم تكن قصصًا، بل نسيج من الكلمات التي تهمس بها للعالم، تتركها في الهواء كأنها طيف صوت، يعرفه من عرفها، ويتلاشى في غيابهم. لكنها لم تختفِ، بقيت تحيط بهم، تحميهم دون أن يدركوا، كما يحتضن البحر سمكة لا تعي أنها تسبح فيه.

والآن؟ الآن هي وحدها. تفتح النوافذ ببطء، تراقب المارة كما لو أن أحدهم قد يلتفت إليها، يرفع يده، يبتسم كما كان يفعل قديمًا. تحاول أن تتذكر: هل كانت هناك ضحكات؟ أم أنها مجرد صدى صنعه الفراغ؟ تقف في المطبخ، تقلب ملعقة في كوب شاي لم تعد تشربه، فقط تحركه، تدور، تدور، كما يدور كل شيء حولها. كما تدور الذكريات حول نفسها، بلا بداية ولا نهاية، مثل حلم يتكرر كل ليلة لكنه لا يُروى أبدًا.

في العتمة، تسمع صوت أنفاسها، بطيئة، مألوفة، كما لو أن جسدها صار جزءًا من هذا البيت، قطعة أثاث قديمة لم تعد تلاحظ وجودها. تغمض عينيها، لكنها لا تنام فورًا، لأن النوم، مثل الذكريات، يأتي متأخرًا، يأتي حين يتوقف الانتظار. ولكن متى يتوقف الانتظار؟ وهل يتوقف حقًا، أم أنه يصبح جزءًا من المرء، مثل ظل لا يُفارق صاحبه؟

في مكانٍ ما، يرنّ هاتف. شاشة صغيرة تضيء باسمها. أصابع تتردد للحظة، ثم تضغط على الزر الأحمر. "ليس الآن... لاحقًا... غدًا ربما." في نفس اللحظة، في سريرها، تتحرك يدها في الفراغ، تبحث عن شيء لم يعد هناك، ربما لم يكن هناك أصلًا، لكن القلب يصرّ على البحث عنه.

لا شيء، فقط الليل، فقط الصمت، فقط حبٌّ لم يُسمع صداه، ولم يُنسَ بعد.

لكن انتظار من؟ لمن؟ هل ينتظر الحبُ من يعيده إلى الحياة، أم ينتظر فقط أن يُنسى؟ أن يتلاشى ببطء، مثل ظل شجرة يطول عند المغيب حتى يذوب في العتمة؟ لا إجابة، لا أحد ليسألها، لا أحد ليجيب.

تمضي بخطواتها الهادئة في المنزل، تفتح خزانة صغيرة، تمرر أصابعها فوق الملابس القديمة. كأن ملمسها يفتح بابًا في الزمن، بابًا لا أحد سواه يستطيع العودة منه. تضع الملابس في مكانها، تغلق الخزانة، تعود إلى المطبخ، إلى الكوب الذي لم تشربه، تحرك الملعقة مرة أخرى. تدور، تدور، كما لو أن الدوران وحده يمنح الأشياء معنى.

ثم، في الخارج، صوت خطوات.

يتوقف قلبها لوهلة. هل عاد أحد؟ هل التفت الزمن، أخيرًا، وعاد إليها بشيء من ماضيها؟ لكن قبل أن تنظر حتى، تعرف الجواب. إنها ليست الخطوات التي تنتظرها.

إنها مجرد أصوات أخرى، في شارع يمتلئ بالأبناء الذين عادوا إلى بيوت أخرى، لأمهات أخريات، ليكرروا نفس المشهد، نفس الحب، نفس الانتظار.

تقف للحظة، تتنفس ببطء، تنظر إلى المرآة في الصالة، تتأمل وجهها. لم يعد كما كان، لكن فيه شيئًا لم يتغير—تلك العاطفة العتيقة، ذلك الحب الخام، الذي لم يُستهلك بعد.

تبتسم، نصف ابتسامة، كما لو أنها تصالح الزمن أخيرًا. ربما سيتصلون غدًا، ربما سيأتون الأسبوع القادم، ربما... ربما.

تطفئ النور، تصعد إلى غرفتها، تتمدد على السرير، يداها فوق صدرها كمن يحتضن شيئًا غير مرئي، شيئًا كان هنا يومًا، وسيظل هنا، حتى لو لم يره أحد.

وفي الفجر، تستيقظ كما اعتادت، قبل الجميع. كما لو أن الضوء خُلق ليوقظها وحدها.

تمشي بهدوء نحو المطبخ، تشعل الموقد، تضع الماء ليسخن، بينما الهواء يمتلئ برائحة القهوة الطازجة. لم تكن بحاجة إلى منبه، فجسدها يعرف الإيقاع جيدًا—أن تكون أول من يستيقظ، أن تبدأ اليوم قبل الجميع، أن تهيئ العالم لمن تحب، حتى لو لم يعودوا هنا.

تجلس أمام الطاولة. الصباحات لم تعد كما كانت، لكن القهوة لا تزال كما هي، تحتفظ بحرارتها، برائحتها، بطمأنينة الأشياء التي لا تخون.

تأخذ رشفة، تغمض عينيها، وتترك للحب أن ينتظر يومًا آخر.

وفي ذلك الصباح، لم يكن هناك شيء مختلف—نفس الروتين، نفس الرائحة الدافئة للقهوة، نفس الهدوء الذي يملأ المكان. لكنها، لسبب ما، شعرت بشيء غريب في الهواء، كأن البيت يحبس أنفاسه، كأن الزمن توقف للحظة، يترقب.

ثم… رنّ جرس الباب.

رفعت رأسها ببطء، كأنها تخشى أن يكون مجرد وهم آخر صنعه الانتظار. لكنها سمعت الصوت مجددًا—حقيقيًا، واضحًا، يوقظ شيئًا في داخلها كان على وشك أن ينام للأبد.

نهضت، بخطوات مترددة، لم تتسرع، كأنها تخشى أن ينكسر هذا الحلم إن تحركت بسرعة. وحين فتحت الباب… رأتهم.

وقفوا هناك، أمامها، وجوههم مألوفة رغم السنوات، أصواتهم تحمل نغمة لم تنسها أبدًا، لكن أكثر ما لامس قلبها كان العيون—العيون التي عادت تبحث عنها، كما كانت تفعل يومًا، قبل أن يأخذهم العمر بعيدًا.

لم تعرف ماذا تقول. فقط نظرت إليهم، ثم، دون أن تفكر، فتحت ذراعيها. وفي لحظة، وجدوا أنفسهم يحتضنونها كما لو أن الزمن لم يفرقهم يومًا، كما لو أنهم لم يبتعدوا أبدًا.

في الداخل، كان كل شيء كما تركته، كأن البيت كان ينتظرهم أيضًا. جلست معهم حول الطاولة، القهوة التي أعدّتها منذ الصباح لا تزال دافئة، مثل قلبها، مثل هذه اللحظة التي كانت تعتقد أنها لن تأتي أبدًا.

ضحكات، أصوات متداخلة، أسئلة لا تنتظر إجابات، أيدٍ تمتد لتلمسها، لتتأكد أنها هنا، أنها ليست مجرد ذكرى.

وفي تلك الليلة، حين أطفأت الأنوار وصعدت إلى غرفتها، لم يكن هناك فراغ بجانبها، لم يكن هناك صمت ثقيل يخنق المكان.

كان هناك صوت أنفاس هادئة في الغرف المجاورة.

وكان هناك قلب، لأول مرة منذ زمن، ينام دون انتظار.
 
إنضم
26 فبراير 2025
المشاركات
11,977
مستوى التفاعل
1,925
مجموع اﻻوسمة
4
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....
مشاهدة المرفق 151566
كانت هناك دائمًا، في الخلفية، تتحرك بين الغرف كما لو أنها جزء من صمتها. صوت خطواتها الناعمة يعبر البلاط البارد، همهمة خافتة تنساب مع ترتيب الأشياء، وكأنها، دون أن تدري، ترتبهم أيضًا—أفكارهم، ذكرياتهم، طريقتهم في الوجود. لم يشعروا بذلك يومًا، لم يعرفوا أنها تفعل، لكنها ظلت تفعل، حتى إذا ما كبروا، تركوا، مضوا نحو حياة أخرى، لم يعودوا يسألون، لم يعودوا ينتبهون. ومع ذلك، لا تزال هناك، تنتظر. لا أحد يعلم من تنتظر، لكنها تنتظر، كأن الزمن نفسه يدور حولها، وليس العكس، كأنه طفل صغير يلعب عند قدميها، يتشبث بثوبها، لكنه لا يحمل لها شيئًا سوى المزيد من الانتظار.

رائحتها... ليست مجرد عطر أو صابون أو قهوة صباحية، بل ذاكرة عالقة بين الجدران، مزيجٌ من الحليب الدافئ والمطر الأول، من يدين كانتا تمسحان على الرؤوس بخفة، فتترك أثرًا لا يُمحى. حكاياتها لم تكن قصصًا، بل نسيج من الكلمات التي تهمس بها للعالم، تتركها في الهواء كأنها طيف صوت، يعرفه من عرفها، ويتلاشى في غيابهم. لكنها لم تختفِ، بقيت تحيط بهم، تحميهم دون أن يدركوا، كما يحتضن البحر سمكة لا تعي أنها تسبح فيه.

والآن؟ الآن هي وحدها. تفتح النوافذ ببطء، تراقب المارة كما لو أن أحدهم قد يلتفت إليها، يرفع يده، يبتسم كما كان يفعل قديمًا. تحاول أن تتذكر: هل كانت هناك ضحكات؟ أم أنها مجرد صدى صنعه الفراغ؟ تقف في المطبخ، تقلب ملعقة في كوب شاي لم تعد تشربه، فقط تحركه، تدور، تدور، كما يدور كل شيء حولها. كما تدور الذكريات حول نفسها، بلا بداية ولا نهاية، مثل حلم يتكرر كل ليلة لكنه لا يُروى أبدًا.

في العتمة، تسمع صوت أنفاسها، بطيئة، مألوفة، كما لو أن جسدها صار جزءًا من هذا البيت، قطعة أثاث قديمة لم تعد تلاحظ وجودها. تغمض عينيها، لكنها لا تنام فورًا، لأن النوم، مثل الذكريات، يأتي متأخرًا، يأتي حين يتوقف الانتظار. ولكن متى يتوقف الانتظار؟ وهل يتوقف حقًا، أم أنه يصبح جزءًا من المرء، مثل ظل لا يُفارق صاحبه؟

في مكانٍ ما، يرنّ هاتف. شاشة صغيرة تضيء باسمها. أصابع تتردد للحظة، ثم تضغط على الزر الأحمر. "ليس الآن... لاحقًا... غدًا ربما." في نفس اللحظة، في سريرها، تتحرك يدها في الفراغ، تبحث عن شيء لم يعد هناك، ربما لم يكن هناك أصلًا، لكن القلب يصرّ على البحث عنه.

لا شيء، فقط الليل، فقط الصمت، فقط حبٌّ لم يُسمع صداه، ولم يُنسَ بعد.

لكن انتظار من؟ لمن؟ هل ينتظر الحبُ من يعيده إلى الحياة، أم ينتظر فقط أن يُنسى؟ أن يتلاشى ببطء، مثل ظل شجرة يطول عند المغيب حتى يذوب في العتمة؟ لا إجابة، لا أحد ليسألها، لا أحد ليجيب.

تمضي بخطواتها الهادئة في المنزل، تفتح خزانة صغيرة، تمرر أصابعها فوق الملابس القديمة. كأن ملمسها يفتح بابًا في الزمن، بابًا لا أحد سواه يستطيع العودة منه. تضع الملابس في مكانها، تغلق الخزانة، تعود إلى المطبخ، إلى الكوب الذي لم تشربه، تحرك الملعقة مرة أخرى. تدور، تدور، كما لو أن الدوران وحده يمنح الأشياء معنى.

ثم، في الخارج، صوت خطوات.

يتوقف قلبها لوهلة. هل عاد أحد؟ هل التفت الزمن، أخيرًا، وعاد إليها بشيء من ماضيها؟ لكن قبل أن تنظر حتى، تعرف الجواب. إنها ليست الخطوات التي تنتظرها.

إنها مجرد أصوات أخرى، في شارع يمتلئ بالأبناء الذين عادوا إلى بيوت أخرى، لأمهات أخريات، ليكرروا نفس المشهد، نفس الحب، نفس الانتظار.

تقف للحظة، تتنفس ببطء، تنظر إلى المرآة في الصالة، تتأمل وجهها. لم يعد كما كان، لكن فيه شيئًا لم يتغير—تلك العاطفة العتيقة، ذلك الحب الخام، الذي لم يُستهلك بعد.

تبتسم، نصف ابتسامة، كما لو أنها تصالح الزمن أخيرًا. ربما سيتصلون غدًا، ربما سيأتون الأسبوع القادم، ربما... ربما.

تطفئ النور، تصعد إلى غرفتها، تتمدد على السرير، يداها فوق صدرها كمن يحتضن شيئًا غير مرئي، شيئًا كان هنا يومًا، وسيظل هنا، حتى لو لم يره أحد.

وفي الفجر، تستيقظ كما اعتادت، قبل الجميع. كما لو أن الضوء خُلق ليوقظها وحدها.

تمشي بهدوء نحو المطبخ، تشعل الموقد، تضع الماء ليسخن، بينما الهواء يمتلئ برائحة القهوة الطازجة. لم تكن بحاجة إلى منبه، فجسدها يعرف الإيقاع جيدًا—أن تكون أول من يستيقظ، أن تبدأ اليوم قبل الجميع، أن تهيئ العالم لمن تحب، حتى لو لم يعودوا هنا.

تجلس أمام الطاولة. الصباحات لم تعد كما كانت، لكن القهوة لا تزال كما هي، تحتفظ بحرارتها، برائحتها، بطمأنينة الأشياء التي لا تخون.

تأخذ رشفة، تغمض عينيها، وتترك للحب أن ينتظر يومًا آخر.

وفي ذلك الصباح، لم يكن هناك شيء مختلف—نفس الروتين، نفس الرائحة الدافئة للقهوة، نفس الهدوء الذي يملأ المكان. لكنها، لسبب ما، شعرت بشيء غريب في الهواء، كأن البيت يحبس أنفاسه، كأن الزمن توقف للحظة، يترقب.

ثم… رنّ جرس الباب.

رفعت رأسها ببطء، كأنها تخشى أن يكون مجرد وهم آخر صنعه الانتظار. لكنها سمعت الصوت مجددًا—حقيقيًا، واضحًا، يوقظ شيئًا في داخلها كان على وشك أن ينام للأبد.

نهضت، بخطوات مترددة، لم تتسرع، كأنها تخشى أن ينكسر هذا الحلم إن تحركت بسرعة. وحين فتحت الباب… رأتهم.

وقفوا هناك، أمامها، وجوههم مألوفة رغم السنوات، أصواتهم تحمل نغمة لم تنسها أبدًا، لكن أكثر ما لامس قلبها كان العيون—العيون التي عادت تبحث عنها، كما كانت تفعل يومًا، قبل أن يأخذهم العمر بعيدًا.

لم تعرف ماذا تقول. فقط نظرت إليهم، ثم، دون أن تفكر، فتحت ذراعيها. وفي لحظة، وجدوا أنفسهم يحتضنونها كما لو أن الزمن لم يفرقهم يومًا، كما لو أنهم لم يبتعدوا أبدًا.

في الداخل، كان كل شيء كما تركته، كأن البيت كان ينتظرهم أيضًا. جلست معهم حول الطاولة، القهوة التي أعدّتها منذ الصباح لا تزال دافئة، مثل قلبها، مثل هذه اللحظة التي كانت تعتقد أنها لن تأتي أبدًا.

ضحكات، أصوات متداخلة، أسئلة لا تنتظر إجابات، أيدٍ تمتد لتلمسها، لتتأكد أنها هنا، أنها ليست مجرد ذكرى.

وفي تلك الليلة، حين أطفأت الأنوار وصعدت إلى غرفتها، لم يكن هناك فراغ بجانبها، لم يكن هناك صمت ثقيل يخنق المكان.

كان هناك صوت أنفاس هادئة في الغرف المجاورة.

وكان هناك قلب، لأول مرة منذ زمن، ينام دون انتظار.

صديقتي العزيزه
مشاهدة المرفق 151566
كانت هناك دائمًا، في الخلفية، تتحرك بين الغرف كما لو أنها جزء من صمتها. صوت خطواتها الناعمة يعبر البلاط البارد، همهمة خافتة تنساب مع ترتيب الأشياء، وكأنها، دون أن تدري، ترتبهم أيضًا—أفكارهم، ذكرياتهم، طريقتهم في الوجود. لم يشعروا بذلك يومًا، لم يعرفوا أنها تفعل، لكنها ظلت تفعل، حتى إذا ما كبروا، تركوا، مضوا نحو حياة أخرى، لم يعودوا يسألون، لم يعودوا ينتبهون. ومع ذلك، لا تزال هناك، تنتظر. لا أحد يعلم من تنتظر، لكنها تنتظر، كأن الزمن نفسه يدور حولها، وليس العكس، كأنه طفل صغير يلعب عند قدميها، يتشبث بثوبها، لكنه لا يحمل لها شيئًا سوى المزيد من الانتظار.

رائحتها... ليست مجرد عطر أو صابون أو قهوة صباحية، بل ذاكرة عالقة بين الجدران، مزيجٌ من الحليب الدافئ والمطر الأول، من يدين كانتا تمسحان على الرؤوس بخفة، فتترك أثرًا لا يُمحى. حكاياتها لم تكن قصصًا، بل نسيج من الكلمات التي تهمس بها للعالم، تتركها في الهواء كأنها طيف صوت، يعرفه من عرفها، ويتلاشى في غيابهم. لكنها لم تختفِ، بقيت تحيط بهم، تحميهم دون أن يدركوا، كما يحتضن البحر سمكة لا تعي أنها تسبح فيه.

والآن؟ الآن هي وحدها. تفتح النوافذ ببطء، تراقب المارة كما لو أن أحدهم قد يلتفت إليها، يرفع يده، يبتسم كما كان يفعل قديمًا. تحاول أن تتذكر: هل كانت هناك ضحكات؟ أم أنها مجرد صدى صنعه الفراغ؟ تقف في المطبخ، تقلب ملعقة في كوب شاي لم تعد تشربه، فقط تحركه، تدور، تدور، كما يدور كل شيء حولها. كما تدور الذكريات حول نفسها، بلا بداية ولا نهاية، مثل حلم يتكرر كل ليلة لكنه لا يُروى أبدًا.

في العتمة، تسمع صوت أنفاسها، بطيئة، مألوفة، كما لو أن جسدها صار جزءًا من هذا البيت، قطعة أثاث قديمة لم تعد تلاحظ وجودها. تغمض عينيها، لكنها لا تنام فورًا، لأن النوم، مثل الذكريات، يأتي متأخرًا، يأتي حين يتوقف الانتظار. ولكن متى يتوقف الانتظار؟ وهل يتوقف حقًا، أم أنه يصبح جزءًا من المرء، مثل ظل لا يُفارق صاحبه؟

في مكانٍ ما، يرنّ هاتف. شاشة صغيرة تضيء باسمها. أصابع تتردد للحظة، ثم تضغط على الزر الأحمر. "ليس الآن... لاحقًا... غدًا ربما." في نفس اللحظة، في سريرها، تتحرك يدها في الفراغ، تبحث عن شيء لم يعد هناك، ربما لم يكن هناك أصلًا، لكن القلب يصرّ على البحث عنه.

لا شيء، فقط الليل، فقط الصمت، فقط حبٌّ لم يُسمع صداه، ولم يُنسَ بعد.

لكن انتظار من؟ لمن؟ هل ينتظر الحبُ من يعيده إلى الحياة، أم ينتظر فقط أن يُنسى؟ أن يتلاشى ببطء، مثل ظل شجرة يطول عند المغيب حتى يذوب في العتمة؟ لا إجابة، لا أحد ليسألها، لا أحد ليجيب.

تمضي بخطواتها الهادئة في المنزل، تفتح خزانة صغيرة، تمرر أصابعها فوق الملابس القديمة. كأن ملمسها يفتح بابًا في الزمن، بابًا لا أحد سواه يستطيع العودة منه. تضع الملابس في مكانها، تغلق الخزانة، تعود إلى المطبخ، إلى الكوب الذي لم تشربه، تحرك الملعقة مرة أخرى. تدور، تدور، كما لو أن الدوران وحده يمنح الأشياء معنى.

ثم، في الخارج، صوت خطوات.

يتوقف قلبها لوهلة. هل عاد أحد؟ هل التفت الزمن، أخيرًا، وعاد إليها بشيء من ماضيها؟ لكن قبل أن تنظر حتى، تعرف الجواب. إنها ليست الخطوات التي تنتظرها.

إنها مجرد أصوات أخرى، في شارع يمتلئ بالأبناء الذين عادوا إلى بيوت أخرى، لأمهات أخريات، ليكرروا نفس المشهد، نفس الحب، نفس الانتظار.

تقف للحظة، تتنفس ببطء، تنظر إلى المرآة في الصالة، تتأمل وجهها. لم يعد كما كان، لكن فيه شيئًا لم يتغير—تلك العاطفة العتيقة، ذلك الحب الخام، الذي لم يُستهلك بعد.

تبتسم، نصف ابتسامة، كما لو أنها تصالح الزمن أخيرًا. ربما سيتصلون غدًا، ربما سيأتون الأسبوع القادم، ربما... ربما.

تطفئ النور، تصعد إلى غرفتها، تتمدد على السرير، يداها فوق صدرها كمن يحتضن شيئًا غير مرئي، شيئًا كان هنا يومًا، وسيظل هنا، حتى لو لم يره أحد.

وفي الفجر، تستيقظ كما اعتادت، قبل الجميع. كما لو أن الضوء خُلق ليوقظها وحدها.

تمشي بهدوء نحو المطبخ، تشعل الموقد، تضع الماء ليسخن، بينما الهواء يمتلئ برائحة القهوة الطازجة. لم تكن بحاجة إلى منبه، فجسدها يعرف الإيقاع جيدًا—أن تكون أول من يستيقظ، أن تبدأ اليوم قبل الجميع، أن تهيئ العالم لمن تحب، حتى لو لم يعودوا هنا.

تجلس أمام الطاولة. الصباحات لم تعد كما كانت، لكن القهوة لا تزال كما هي، تحتفظ بحرارتها، برائحتها، بطمأنينة الأشياء التي لا تخون.

تأخذ رشفة، تغمض عينيها، وتترك للحب أن ينتظر يومًا آخر.

وفي ذلك الصباح، لم يكن هناك شيء مختلف—نفس الروتين، نفس الرائحة الدافئة للقهوة، نفس الهدوء الذي يملأ المكان. لكنها، لسبب ما، شعرت بشيء غريب في الهواء، كأن البيت يحبس أنفاسه، كأن الزمن توقف للحظة، يترقب.

ثم… رنّ جرس الباب.

رفعت رأسها ببطء، كأنها تخشى أن يكون مجرد وهم آخر صنعه الانتظار. لكنها سمعت الصوت مجددًا—حقيقيًا، واضحًا، يوقظ شيئًا في داخلها كان على وشك أن ينام للأبد.

نهضت، بخطوات مترددة، لم تتسرع، كأنها تخشى أن ينكسر هذا الحلم إن تحركت بسرعة. وحين فتحت الباب… رأتهم.

وقفوا هناك، أمامها، وجوههم مألوفة رغم السنوات، أصواتهم تحمل نغمة لم تنسها أبدًا، لكن أكثر ما لامس قلبها كان العيون—العيون التي عادت تبحث عنها، كما كانت تفعل يومًا، قبل أن يأخذهم العمر بعيدًا.

لم تعرف ماذا تقول. فقط نظرت إليهم، ثم، دون أن تفكر، فتحت ذراعيها. وفي لحظة، وجدوا أنفسهم يحتضنونها كما لو أن الزمن لم يفرقهم يومًا، كما لو أنهم لم يبتعدوا أبدًا.

في الداخل، كان كل شيء كما تركته، كأن البيت كان ينتظرهم أيضًا. جلست معهم حول الطاولة، القهوة التي أعدّتها منذ الصباح لا تزال دافئة، مثل قلبها، مثل هذه اللحظة التي كانت تعتقد أنها لن تأتي أبدًا.

ضحكات، أصوات متداخلة، أسئلة لا تنتظر إجابات، أيدٍ تمتد لتلمسها، لتتأكد أنها هنا، أنها ليست مجرد ذكرى.

وفي تلك الليلة، حين أطفأت الأنوار وصعدت إلى غرفتها، لم يكن هناك فراغ بجانبها، لم يكن هناك صمت ثقيل يخنق المكان.

كان هناك صوت أنفاس هادئة في الغرف المجاورة.

وكان هناك قلب، لأول مرة منذ زمن، ينام دون انتظار.

صديقتي العزيزه ..
الجوري ..
كلما قرأت أحرفك أشعر أنها تحاكي شيء
بدواخلنا تلامس أوتار قلوبنا تتغلغلنا من
مساماتنا لتستوطن منا الشغاف ..
لا أعرف لم يحصل معي هذا الأمر هنا ..
أقرأ قصتك وفي ذات الوقت أنظر إليها
وكأنها لوحه فنيه رسمتها أنامل رسام
مبدع متمكن من فنه خد الحرفنه ..
هكذا انت دائما متميزه ومبدعه ومتالقه
في نزفك للحروف ..
شهادتي بك مجروحه لكنها حقيقه وهي
أنك متفرده حد الاستثناء ..
تقبلي مني أعطر وأرق تحاياي
ترافقها لسموك الكريم قلائد الفل والياسمين

🌹🌹🌹🌹🌹
 
Comment

ندى الورد

سيَدِة آلُقصرٍ
المدير العام
إنضم
17 مايو 2021
المشاركات
95,572
مستوى التفاعل
90,442
الإقامة
من المدينة المنورة
مجموع اﻻوسمة
30
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....
تصدقي جوري وانا اقرأ قصتك
كل سطر فيها كانت امي امامي
كنا معها تربينا ولعبنا وضحكنا وبكينا
وكانت لنا الوطن وكلٍ ذهب لحياته
وكانت تنظرنا دوما وتترقب مجيئنا
وتدعو لنا وكانت عندها يقين ان نكون
دوما بجانبها مهما ابعدتنا الظروف
لك اسلوب جميل جوري ووصف حي
مااجملك راائعة ودي لك ووردي
 
Comment

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
56,416
مستوى التفاعل
25,193
مجموع اﻻوسمة
26
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....
صديقتي العزيزه


صديقتي العزيزه ..
الجوري ..
كلما قرأت أحرفك أشعر أنها تحاكي شيء
بدواخلنا تلامس أوتار قلوبنا تتغلغلنا من
مساماتنا لتستوطن منا الشغاف ..
لا أعرف لم يحصل معي هذا الأمر هنا ..
أقرأ قصتك وفي ذات الوقت أنظر إليها
وكأنها لوحه فنيه رسمتها أنامل رسام
مبدع متمكن من فنه خد الحرفنه ..
هكذا انت دائما متميزه ومبدعه ومتالقه
في نزفك للحروف ..
شهادتي بك مجروحه لكنها حقيقه وهي
أنك متفرده حد الاستثناء ..
تقبلي مني أعطر وأرق تحاياي
ترافقها لسموك الكريم قلائد الفل والياسمين

🌹🌹🌹🌹🌹
هي تلمسني وتلمس قلبي قبل ان اضعها بين يديكم بكيت عندما وصل الأبناء وبكيت عندما كانت خائفه ان يكون وهما نحن نكتب ونضع نبضنا داخل ما نكتب فيلتقي بنبض من يقرأ
صديقي الغالي انت تعلم أن حضورك دائما يجلب السعادة لقلبي
دام حضورك ابداا
 
Comment

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
56,416
مستوى التفاعل
25,193
مجموع اﻻوسمة
26
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....
تصدقي جوري وانا اقرأ قصتك
كل سطر فيها كانت امي امامي
كنا معها تربينا ولعبنا وضحكنا وبكينا
وكانت لنا الوطن وكلٍ ذهب لحياته
وكانت تنظرنا دوما وتترقب مجيئنا
وتدعو لنا وكانت عندها يقين ان نكون
دوما بجانبها مهما ابعدتنا الظروف
لك اسلوب جميل جوري ووصف حي
مااجملك راائعة ودي لك ووردي
جميل ان نلمس قلوب الآخرين بكلمة فعبره
والاجمل ان يكون لما نكتب وجهه نظر يراها الاخرون كما نراها
رحم الله والدتك غاليتي واسكنها فسيح جناته
 
2 Comments
ندى الورد
ندى الورد commented
امين يااروح الروح ويخلي ماماتك ويحفظها
 
الجوري
الجوري commented

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
56,416
مستوى التفاعل
25,193
مجموع اﻻوسمة
26
حين يهمس الزمن ....فعالية العابة للام ....
المجموع: 19 (الأعضاء: 3, الزوار: 16)

سعيدة لأنكم بدأتم تقرأون حروفي
ممتنه جدااا
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى