نهاية تشبه البداية - الفصل الرابع
صباحٌ غريب في أوفونبورغ.
استفاقت مريم على ضوء خافت يتسلّل من خلف الستائر، لا يُعلن الصباح بقدر ما يعتذر عن قدومه. كان الضوء كأنّه يزحف على أطراف الغرفة، يحاول ألا يوقظ من قرروا الهرب من النهار.
الغرفة ساكنة، لا صوت فيها سوى أنفاس سارة، ناعمة، هادئة، كأنها ما زالت في وطنها، حيث لا رسائل تُربك القلب ولا ظلال تعبر الزجاج.
نهضت مريم ببطء، شعرها متشابك كأفكارها، خطت نحو النافذة وسحبت الستارة، فإذا بالغابة تمتد أمامها، كثيفة، باهتة تحت ضوءٍ رمادي، كأنها رسم قديم طمسته يدُ الزمن.
الأشجار واقفة بصمت، والضباب ينساب بينها بهدوء مُريب، لا يحمل معه إلا تساؤلًا مبهمًا.
لم يكن المنظر مخيفًا، لكنّه كذلك لم يمنحها سكينة. كان شبيهًا بها: جميل من بعيد، مُربك من الداخل.
عادت بنظرها إلى الغرفة.
الحقيبة في الزاوية، السترة على المقعد، الهاتف ساكن على الطاولة.
كل شيء كما تركته، إلا قلبها… فقد حمله الليل إلى مكان آخر.
اقتربت من الهاتف.
الرسالة ما تزال هناك:
“أنا في البلدة. غدًا نلتقي. كل شيء سيكون كما يجب.”
قرأت الكلمات مرارًا، ولم تجد فيها ذلك الشغف ، خالد الذي عرفته. كأنّه اختفى، وترك وراءه قشرة من الكلمات الجافة.
سألها قلبها:
هل ما كان بينهما اشتعالٌ حقيقي، أم مجرّد وهجٍ صنعته وحدها؟
هل أحبّت رجلًا من لحم ودم، أم فكرةً مثاليةً صنعتها لتنجو من عمر؟
صوت سارة قطع سيلها الصامت:
– “صباح الخير… ما بكِ؟ وجهك لا يُبشّر بيوم عادي. فنجان قهوة؟”
أومأت مريم دون أن تنطق.
ربما كانت القهوة مجرّد ذريعة لتأجيل التفكير.
نزلا إلى صالة الفندق.
المكان أنيق، هادئ، الضوء يغسل الأرضية بنقوشٍ ذهبية ناعمة.
جلسَتا قرب الزجاج، والموظفة تقدّمت منهما بلطف.
طلبت سارة قهوةً بالحليب، أما مريم فاختارتها سوداء… كما تشعر.
صمتت مريم، تراقب المارة في بهو الفندق، تحاول أن تجد في الوجوه ملامح مألوفة، أو طمأنينة ضائعة.
لكن شيئًا ما خارج الصورة بدأ يقترب من وعيها.
رفعت عينيها نحو زاوية الصالة.
رجل يجلس هناك، يرتدي معطفًا رماديًا، رأسه مائل كمن يراقب دون أن يُظهر ذلك.
شعرت بشيء يتحرّك في صدرها.
ليس فيه ما يثير الريبة… لكنّه ليس غريبًا تمامًا.
قالت سارة، وهي تعبث بملعقتها:
– “ما بكِ؟”
- لم تجب.
كأنّ اللغة تراجعت إلى الخلف، وتركَت لها الغصة تتكلم.
أعادت النظر…
الكرسي فارغ.
علبة سجائر فوق الطاولة، كما لو أن صاحبها لم يكن هناك .
قالت لها سارة بصوت خافت انتي بدأتي تشكي في نفسك، قالتها بأبتسامة وضحكة مكتومة.
انكمشت في جلستها، شعرت بفراغٍ ينهش صدرها، وسألت نفسها:
هل تعبتُ من الانتظار؟ أم أن هذه البلدة تعرف كيف تنكأ الذاكرة؟
رفعت فنجانها، شربت ما تبقّى من قهوتها، ثم قالت بهدوءٍ لا يُشبه هدوءها:
– “فلنصعد.”
في المصعد، كانت مريم تبتلع الصمت، كأنّها تتهيّأ للغد…
لغدٍ لن يكون عاديًا، لأنّه قد يُعيد تشكيل كلّ ما ظنّت أنّها عرفته.
حين دخلت الغرفة، ألقت نظرة على هاتفها.
لا إشعارات. لا رسائل.
فقط ذلك الصمت الثقيل…
الصمت الذي يسبق الحقيقة، أو ما يشبهها.
تمدّدت على السرير، دون أن تخلع معطفها.
الضوء يلامس وجهها برفق، كأنّه يُحاول أن يعزيها.
في داخلها، كان سؤال واحد يتردّد كأغنية قديمة، لا تُطرب، بل تُنهك:
هل ما أنا عليه الآن هو الحب… أم خيبة مؤجّلة؟
ثم، همست لنفسها بصوتٍ بالكاد سمعته:
– “سأقابله… وسأمضي كما لو أنني ما زلت أملك نفسي.”
همست، لكنها شعرت في أعماقها كأنها تُسقط شيئًا لا يُستعاد، كأنها تبارك قرارًا تعرف أنه ليس نقيًا… لكنه أسهل من الوحدة.
أغمضت عينيها.
لكن الغرفة لم تنم.
ولا البلدة.
ولا مريم
نهاية الفصل الرابع.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : نهاية تشبه البداية - الفصل الرابع
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء
نعم، لا قيمة للحب دون فعل، لكن أحياناً… حتى الفعل يكون قناعاً آخر!
هل خالد ظلّ لرغبة، أم امتداد لوهم؟
وهل مريم تهرب من أحدهم أم من نفسها؟
الخطايا حين تتشابه، لا تعني بالضرورة أن الأرواح متطابقة، أليس كذلك؟
ابقِ قريبة… ففي الفصل الخامس قد تصحو مريم، أو تغفو للأبد.