نهاية تشبه البداية - الفصل السادس والأخير
ختام أوفونبورغ..
حين لا يعود الطريق هو الطريق، ولا القلب هو القلب…
بل كل شيء صار مرآة لما خبأناه طويلاً.
لم تكن مريم قد غادرت البهو بعد، لكنها لم تبقَ فيه تمامًا.
جلست بصمتٍ بين ظلال مصابيح خافتة، تمسح بكفها أطراف فنجانها البارد، وعقلها يبحر في ارتباك الكلمات، في ذلك الرجفان الذي سكن طرف ابتسامتها حين قال:
“لأرى إن كان بيننا ما يستحق الاستمرار.”
لم يكن وداعًا، ولا وعدًا، بل شيء أقرب إلى الشك الذي ينهض من تحت الرماد ليقول:
“هل ما زلتِ هناك؟”
في تلك الليلة، افترقا دون اتفاق.
هو انسحب بلطف، وهي لم تُطالبه بالبقاء.
كان في الجوّ فراغٌ معلّق، كأنهما تركا خلفهما بابًا مواربًا للقدر كي يمرّ مجددًا.
وكان المساء ينزف ضوءه الأخير على وجه بلدة أوفونبورغ حين عاد اللقاء مصادفة، وكأن القدر قد ضلّ طريقه، فاستدار نحو الباب نفسه مرتين.
مريم وخالد، مقعدان على رصيف مقهى هادئ، صمت يشبه اعترافاً مؤجلاً، وضوء خافت لا يكشف ما يجب أن يُخفى.
قال لها بابتسامة مضطربة:
“نسيت شيئاً لكِ في السيارة… انتظريني لحظات.”
وغادر.
لكنه لم يترك فقط ظلّه خلفه، بل نسي هاتفه على الطاولة،
هاتف يشبه قنبلة لا تُعلن موعد انفجارها.
وقبل أن يغيب في الأزقة، كانت مريم تنظر في الفراغ، تسرح في وجه كوب قهوتها الباردة، حين اهتزّ الجهاز أمامها.
رسالة من “عمر”:
“كيف حالك؟ متى راجع للوطن؟ عندنا سهرة في نهاية الأسبوع وأنت مدعو.”
أُرفقت الصورة… ولم تكن صورة لقاء أصدقاء، بل سهرة صاخبة، لا تحمل من الرجولة إلا القشرة.
تجمّدت أنفاسها.
ذلك هو عمر… زوجها.
أغمضت عينيها لثوانٍ، ثم أعادت الهاتف إلى مكانه، كأنها تعيد سكينًا إلى غمده بعد أن أدركت أن الطعنة جاءت ممن كانت تحرسه.
ولم تواجه خالد، ولم تسأله شيئًا.
كان الصمت ردًا كافيًا، والحقيقة أكثر وضوحًا من أن تُروى مرتين.
وبينما كانت تتهيأ للمغادرة، عاد خالد.
وفي يده…
صندوق صغير، لا يُشبه الهدايا.
وضعه على الطاولة بهدوء،
وقالت دون أن ترفع عينيها:
“كنت أظنّه هدية… لكنه أقرب لتابوت.
فيه بقايا أملٍ لم ينضج، ونهايات لم تجد بداية.”
نظرت إليه، ولم تفتح الصندوق.
لأنها أدركت أنه ليس لها.
بل لها أن تمضي… بلا حملٍ آخر.
مرّ شهر.
الآن، عادت مريم إلى الوطن… وإلى نفسها.
عادت دون خالد، ودون عمر، ودون أقنعة.
فقط امرأةٌ نزعت جلد الأدوار، وعرفت أن الحب ليس ما يُمنَح، بل ما لا يُضطرّك للاختباء من نفسك من أجله.
وأن الوفاء… ليس أن تبقى، بل أن لا تخون قلبك وأنت تبقى.
وأما سارة؟
فقد كانت بريئة، كما كانت دومًا.
لكن القلوب، حين تسكنها الظلال، تشكّ في النور.
“نهاية تشبه البداية”
كان الحُبُّ في أول الطريق نغمةً مرتجفة،
وكان في نهايته نشيداً مكسوراً.
وكانت البداية، وعداً بلا ذاكرة،
وكانت النهاية… ذاكرة بلا وعد.
ومريم…
لم تعد تبحث عن بداية جديدة،
بل عن نهاية تُشبهها.
نهاية لا تكون فاصلة،
بل فاصلاً بين ما ظنّت أنها عليه، وما استحالت إليه.
تماماً كالنور في المرآة: لا يُرى إلا حين يغيب.
لا أحد خرج كاملاً،
ولا أحد نجا بلا ندبة،
لكن الحقيقة كانت الكنز الوحيد
الذي لم يُكتم صوته إلى الأبد.

أنا لستُ مريم، ولا عمر، ولا خالد، ولا سارة.
لم أكن هناك حين تاهت الخطوات،
ولا حين تكسّرت النوايا تحت ضوء الغربة.
كل ما فعلته أنني وضعت أذني على صدر الحكاية،
وسمعت النبض.
ورُحت أنسج منه سطورًا، لا أزعم امتلاكها،
بل رويتها كما جاءتني:
نقيّة حينًا، مُشوّشة أحيانًا، وصادقة دائمًا،
كما تكون القلوب حين تضعف… ثم تصحو.
هذه الرواية لم تكن سوى مرآة…
عكست وجوهًا مرّت من هنا،
واختفت في ظلال البلدة البعيدة.
لكن صدى أصواتها… بقي.
وأنا، فقط كتبته.

اسم الموضوع : نهاية تشبه البداية - الفصل السادس والأخير
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء