تواصل معنا

يوميات رجل ....الحلقة الرابعة.... الحرف الذي يُشبهك أعدتُ تسخين القهوة مرّتين. لم تكن المسألة في الحرارة، بل في اللحظة المناسبة لشربها. القهوة، حين تنتظر،...

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
61,552
مستوى التفاعل
25,384
مجموع اﻻوسمة
26
يوميات رجل ....2....

يوميات رجل ....الحلقة الرابعة....
الحرف الذي يُشبهك

أعدتُ تسخين القهوة مرّتين.
لم تكن المسألة في الحرارة، بل في اللحظة المناسبة لشربها.
القهوة، حين تنتظر، تكون أحنّ من الناس.
لكن الناس لا ينتظرون.
أو… لا يعرفون كيف.

رنّ الهاتف.
ليست رسالة صوتية هذه المرة، بل اتصال.
إنها هي…
المرأة التي تكتب، وتحبني، وتحاول أن تفهمني عبر الحروف.

أجبتُ، بصوتٍ فيه ارتجاف خفيف:

– "أهلًا."
قالت:

– "كنت أكتب، وتوقفت فجأة. قلت أتصل. يمكن أنت السبب."
ضحكتُ.
ليس على العبارة، بل على توقيتها.

قالت:

– "هل يحدث لك أن تعجز عن كتابة جملة رغم أنك تعرفها؟"
أجبتُ، بعد لحظة هدوء:

– "دائمًا. الجمل الحقيقية تخاف أن تُكتب. لأنها تُعرّي صاحبها."

سكتت،
كأنها وضعت الجملة في قلبها دون أن تخبرني.

قالت:

– "حين أقرأ لك، كأنك تفتح نوافذ صغيرة في رأسي."
قلت:

– "وحين أقرأ لك، أرى نفسي كما كنت…
أيام كنت أكتب بدهشة."

قالت، بخفّة تجرح:

– "كأنك ما عدت تكتب بدهشة؟"
أجبت:

– "كأنني صرت أكتب… لأني لا أعرف كيف أعيش بدون الكتابة."
ثم أضفت:

– "أنتِ تكتبين من بداية العالم.
أما أنا، فأكتب كي لا ينتهي العالم بي."


---

صمتت طويلًا،
ثم قالت:

– "أنا لا أريد أن أكون تلميذتك، فقط… أريد أن تكتبني بصدق."
قلت:

– "أنتِ لستِ تلميذة.
أنتِ نُسخة ناعمة من أول ما كنتُ عليه.
حين كانت اللغة جديدة،
وكنتُ أكتب كما لو أنني أخلق المعنى."

ضحكت، بصوت خفيف:

– "يعني؟"
قلت:

– "يعني أنك تكتبين بعينين واسعتين.
الكلمات تخاف من الناس، لكنها لا تخاف من دهشتك."

ثم، بعد سكون قصير،
قالت:

– "هل تحبني؟"
قلت، بنفس الطريقة التي أكتب بها:

– "أنا لا أعرف كيف أفصل بين حبك... وكلماتك."

وسكتت.
لكنني لم أسكت.

استرسلتُ، كأنني أكشف لها ما لم أجرؤ على كتابته من قبل:

– "أنا، برغم كل شيء…
برغم تمردي،
عنادي،
مزاجي المتقلب،
أنني أتكدر بسرعة،
وأفرط في الانسحاب…
برغم أني مزعج أحيانًا، وبارد أحيانًا أخرى،
وفيٌّ وفي داخلي كل العيوب الممكنة —
لكنكِ… أنتِ،
عندك من هذا القليل،
لكنكِ تملكين شيئًا لا يُقاس:
سطوة لا أفهمها،
نفَسٌ منكِ يجعلني أرتبك في صمتي،
وتأثيرك... يحتكر خلوتي."

ثم قلتها كما لو كنت أضع الكأس جانبًا:

– "أنا أقع تحتك، لا أمامك.
وتحت ظلكِ…
أكتب."

قالت:

– "أكتب عني مرة… ولا تغيّر اسمي."
قلت:

– "لا أقدر.
أنتِ لستِ اسمًا في النص،
أنتِ الحرف الذي يُشبهك…
لا يُقال،
بل يُحسّ."
 
اسم الموضوع : يوميات رجل ....2.... | المصدر : قصص من ابداع الاعضاء

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
61,552
مستوى التفاعل
25,384
مجموع اﻻوسمة
26
يوميات رجل ....2....
يوميات رجل ....الحلقة الخامسة
الورقة التي كتبتني قبلك

المساء بارد، لا بسبب الطقس، بل بسبب الهدوء المبالغ فيه.
صوت التلفاز خافت.
المطبخ نظيف أكثر مما ينبغي.
ولا أحد في البيت غيري، وأنا بالكاد أكون هنا.

فتحت الدرج الصغير في طاولتي، لا بحثًا عن شيء، بل لأن الفراغ أحيانًا يطلب أن نُشغله بفعل عبثي.
الدرج رتبته منذ أشهر، لكنني لم أفتحه منذ أسابيع.

هناك، في زاويةٍ غير مرئية، كانت الورقة مطويّة بدقة.
ورقة قديمة، صفراء الأطراف، مكتوبة بخط يدي، بخطّ كنت أظن أنه مات.

فتحتها.
سطرها الأول:
"أنا لا أكتب كي أُقرأ، بل لأُبقيني من السقوط."

تذكّرت كل شيء.
هذه الورقة كتبتها في ليلةٍ كنت فيها مهزومًا دون سبب واضح،
ليلة فقدتُ فيها شيئًا دون أن يُؤخذ مني.

كنت أكتب حينها كمن يخاطب جدارًا، لا ينتظر إجابة،
بل يريد فقط أن يسمع صدى قلبه… كي يطمئن أنه لم ينتهِ بعد.

تابعت القراءة:

"في داخلي غرفة لا يدخلها أحد.
فيها صور لم تُلتقط، وجُمل لم تُكتَب، وصراخ لم يسمعه أحد.
أحببتُ امرأةً ذات يوم، لكني أخفيتها حتى عني.
وأحببت أخرى، فكتبتها دون أن أراها."

وقفت هناك.
السطر الأخير أشعرني أنني كنت أكتب عن هي،
لكنني لم أكن قد عرفتها بعد.

كيف يمكن أن أصفها في نصٍ كتبته قبل أن تكلّمني؟
هل كُنت أعرفها في شكلٍ آخر؟
هل كانت موجودة داخلي وأنا لا أعلم؟

ربما نحن لا نحبّ أشخاصًا بعينهم، بل نحب الصورة التي رسمناها قبل أن نلقاهم.
وحين يظهرون، نشعر أنهم يشبهون شيئًا كتبناه ذات مساء ولم نجرؤ على نشره.

أغلقت الورقة، أعدتها إلى مكانها،
لكنني شعرت أنني أغلق شيئًا لا يجب أن يُغلق.

ليتني أرسلت تلك الكلمات لها...
ليتها قرأتها، وفهمت أنني عرفتها من قبل أن تأتي،
وأنني كنت أكتبها حتى دون أن أحمل اسمها في الجملة.

عدت إلى جلستي،
الهاتف صامت، وهي لم تكتب شيئًا هذه الليلة.
لكني شعرت أنها، في مكانٍ ما، فتحت درجها أيضًا…
ووجدت فيه جملة تشبهني.
 
Comment

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
61,552
مستوى التفاعل
25,384
مجموع اﻻوسمة
26
يوميات رجل ....2....
يوميات رجل ...الحلقة السادسة
السيجارة التي أخّرتني عنها

أُطفئت سيجارتي الأخيرة قبل دقائق، دون أن أشعر متى وصلت نهايتها.
المنفضة فارغة الآن، ومخزون السجائر نفد.
لم أكن أريد الخروج،
لكني خرجت.

أغلقت الباب خلفي كما يُغلق المرء صفحة لا يريد قراءتها الآن،
ونزلت الدرج ببطء،
كأنني أخشى أن تلاحظ المدينة أنني خرجت من مخبئي.

الشارع كما تركته:
كهلٌ يمشي بهدوء، طفلٌ يصرخ في زوايا الغروب، رائحة غبار قديم يتصاعد من الأرصفة.
لا شيء جديد،
إلا أنني أخرج اليوم لأنني مضطر،
لا لأنني أرغب.

وصلتُ البقالة.
الرفوف كما هي، البائع لا يتكلّم كثيرًا.
طلبت علبة السجائر، ودسستها في جيبي.

رنّ الهاتف.

رسالة منها.

"لا أدري لماذا أشتاق إليك بهذه الطريقة الغريبة...
كأنني أفتقد شيئًا لم يكن لي أبدًا."

وقفت عند زاوية الثلاجة.
أمسكت الهاتف، وكتبت:

"ربما لأنكِ تشبهينني قبل أن أصبح هذا الشخص الهادئ المبالغ فيه.
وربما أنا أشتاق إليك لأنك تكتبينني دون أن تقصدي."



ردّت بسرعة، كمن كانت تكتب الرد قبل أن يصل كلامي:

"هل تعلم أنني بدأت أكتب قصة؟
شخصية البطل تُشبهك،
لا يدخّن كثيرًا، لكنه لا يتوقف عن التفكير."

ابتسمت.
هل تحاول أن تُنقذني من نفسي عبر الحكايات؟
أم تحاول أن تكتبني كما كانت تحبّ أن أكون؟

كتبت لها:

"البطل الذي يُشبهني… اجعليه يخطئ.
اجعليه يُحبّ، ثم يهرب، ثم يندم.
اجعليه لا يعرف كيف يقول 'أنا آسف'،
لكن دعي قلبه نظيفًا بما يكفي لأن يغفر له القارئ."

أرسلت.
ثم دفعت ثمن السجائر،
وخرجت.

الهواء خارج البقالة مختلف.
أو ربما الرسائل بدّلت شيئًا في دمي.

رسالة منها تومض:

"أخاف أن أنهي القصة دون أن يعود البطل."

وقفتُ في زاوية الشارع،
أشعلت سيجارة جديدة،
كتبت ببطء:

"دعيه يعود…
لا أحد يكتب بطلًا ليضيع."

عدت إلى البيت،
في جيبي علبة سجائر،
وفي قلبي جملة لم أكتبها بعد
 
Comment

الجوري

ال𝒿𝑜...هسيس بين يقظة وغيم مسؤولة الأقسام الأدبية
مستشار الادارة
إنضم
23 فبراير 2023
المشاركات
61,552
مستوى التفاعل
25,384
مجموع اﻻوسمة
26
يوميات رجل ....2....
يوميات رجل.....الحلقة السابعة
المقعد الذي تنتبه فيه إليّ

عدتُ إلى البيت بخطًى أخف مما خرجت به.
في جيبي علبة سجائر، وفي القلب صوتها،
يتمدد كضوءٍ خفيف تحت الباب.

وضعت المفاتيح على المنضدة،
نزعت معطفي،
ووقفت عند النافذة،
لا أنتظر شيئًا… لكنني أحب الانتظار.

جلست على المقعد الخشبي الذي يُطلّ على الطاولة،
المقعد الذي لم تجلس عليه من قبل،
لكنني أراها عليه، كثيرًا… دون أن تكون هنا.

الهاتف ساكن.
لا إشعارات، لا وميض.
هي في دوامها، مشغولة، كما يجب أن تكون.
لكن الفراغ الذي تتركه رسائلها القصيرة، أعمق من المسافة التي بيننا.

أُشعل سيجارة.
أراقب الدخان يتصاعد كما كنت أراقب وجهها حين تُفكّر.

ثم...
رسالة واحدة.
ليست طويلة، لكنها ممتلئة.

"أشعر بك كلما وقفتُ في الزاوية خلف المكتب.
تحيطني بذراعيك،
أنفاسك قريبة،
ألتفت...
فأراك جالسًا على المقعد، تنظر لي.
لا تقول شيئًا، فقط تشير لي أن أقترب."

ابتسمت.
ليس لأن الرسالة جعلتني سعيدًا،
بل لأنني عرفت تمامًا ما تعنيه.

نعم...
أنا أجلس هناك،
في خيالها، كما أجلس الآن في وحدتي.

وأشير إليها أن تقترب،
لا لتأتي فعليًا،
بل لتشعر أنني لا أغيب،
حتى حين تغيب.

كتبت لها:

"أظلّ أجلس على نفس المقعد،
لا أُبدّل مكاني،
كأني أترك أثرًا صغيرًا في المكان
كي تتمكني من رؤيتي كلّما أغمضتِ عينيك."

لم ترد.

ولم أكن أحتاج الرد.
وضعت الهاتف جانبًا،
وأدرت رأسي نحو المقعد الآخر.
المكان ما يزال كما هو،
لكن في الهواء رائحة شعرها،
وفي الزاوية ظلّ كتفها.

هكذا تحضر هي:
بكامل الغياب،
وبكامل التأثير.
 
Comment

sitemap      sitemap

أعلى