-
- إنضم
- 23 فبراير 2023
-
- المشاركات
- 64,803
-
- مستوى التفاعل
- 25,995
- مجموع اﻻوسمة
- 30
الحاكم العسكري للفجر

لا داعي للمنبّهات،
ولا لتطبيق "أذان برو"،
ولا حتى لتقنية الـ"سنوز" التي تمنحك مهلة حياة.
يكفي أن تسكن حارتنا،
حيث فخامة اللواء أبو بطاطا،
يحكم المدينة... من فوق عربة خضار.
الساعة السادسة وخمس عشرة دقيقة،
يخرج من ظلال الأزقّة كما يخرج الحَسَد من قلب الجار،
يحمل مكبّره كأنّه مدفع رشاش،
ويبدأ العرض العسكري:
“بطاطاااااا! بندورةاااا! أرب أرب يا حباااب!”
تسقط البيوت على قفاها من الرعب.
البعض يظن أن حربًا بدأت،
والبعض الآخر يسأل:
هل نحن في ثكنة أم في سوق خضار؟
لا يعرف الإجازات،
لا السبت اليهودي يثنيه،
ولا الأحد المسيحي يوقفه،
ولا حتى الجمعة الإسلامية تؤخره دقيقة واحدة!
لو عطّل العالم كله،
أبو بطاطا لا يعطّل.
قد يغيب رئيس الدولة، يغيب البريد، تغيب الشمس،
لكن "أرب أرب يا حباب"؟
مستحيل أن تتأخر ثانية.
كنا نعيش في مملكة يحكمها رجل واحد…
يرتدي بنطالًا يقطعه الزمان،
وحذاءً صرّافًا،
ومكبّرًا يصرخ فيه كأنّه يخطب في الأمم المتحدة!
في البدء، كنتُ أكرهه.
ثم صرت أخافه.
ثم أصبحت أعتمد عليه أكثر من اعتمادي على أبي!
هو من علّمني ما لم تعلّمه المدرسة:
أن من يملك صوتًا عاليًا، يملك السلطة.
أن الطماطم لا تنضج في السوق، بل تنضج في الرعب.
وأن البندورة لا تُقاس بالحجم، بل بقدرتها على الإيقاظ.
كان بإمكانه قيادة كتيبة،
لكنه اختار أن يقود عربته
ويهزمنا كل صباح… ونحن نائمون.
ويا للمفارقة!
نحن الذين نحمل الشهادات، ونفهم الوقت، ونملك الجداول،
نحن من خسرنا معركة الصباح أمام... بائع خضار!
كبرنا،
وصرنا نكتب نصوصًا مثل هذا،
نحاول أن نفهم كيف يمكن لصوت "بطاطا!"
أن يحفر في ذاكرتنا عُمقًا لا تحققه قصيدة!
ولعلك تسألني الآن:
أين هو؟
أين اختفى الجنرال؟
إن ظننتَ أن حاكمنا العسكري قد اختفى، فأنت لا تعرف شيئًا عن نظام الوراثة في الشرق.
الرجل، الجنرال الكبير، صاحب "أرب أرب يا حباب"، لم يمت، لم يتقاعد، لم يُختطف إلى الثورات أو التحديث.
لا…
بل فعل كما يفعل الطغاة والملوك:
أورث مهامه.
قسم اليوم كما تُقسّم الغنائم،
فمنذ اختفائه الرمزي على عربته المهترئة،
خرج أولاده الواحد تلو الآخر،
كلٌّ بصوته، وكلٌّ بندائه، وكلٌّ بزمنه المخصّص له في دستور العائلة العظيم.
فجرًا، يتسلل الجنرال بطاطا الابن الأول،
لا يحيد عن توقيت أبيه المقدس:
السادسة وخمس عشرة دقيقة.
يهتف، لا بنداء الخضار فقط، بل باسم العائلة أيضاً،
"بطاطاااا! بندورة! تحيا الجمهورية البندورية !"
ثم، في تمام السابعة والنصف،
يأتي ابنُه الثاني: النقيب غاز.
صوته يشبه تسريبًا من أسطوانة فارغة:
"غـــــاز! غاز يا ناس! العبوات فاضية ومفيش طبخ اليوم!"
يكررها، كأنّ نهاية العالم متعلقة بإعادة تعبئة الأسطوانة!
وفي التاسعة،
يندفع ابن آخر..... الملازم فطور
يصرخ بأسماء أدوات المطبخ:
"صواني! صحون! ملاعق ناقصة!"
صوته مزيجٌ من فزعٍ منزلي وعسكريّة أمٍّ انتهى صبرها.
ثم تأتي الظهيرة،
العقيد ....خُبز يمرّ،
يحمل سَلة ويصيح "خبز طازة! من التنّور مباشرة! اللي نام جوعان، يفيئ ليشبع!"
وقبل المغرب بدقائق،
تطل المقدّمة شعيرية،
ابنته الوحيدة، تقود عربتها الوردية الصغيرة،
وتهتف: "شعيرية! رزّ!!"
تنثر البهارات كما ينثر السحَرة الغبار في الحكايات.
ولا أحد منهم يتعدى وقته.
فالقانون الأعلى ما زال محفوظًا:
لا أحد يعلو فوق صوت "أرب أرب يا حباب".
إنه نشيد وطنيّ صغير، هزّ أركان النعاس،
وجعل من حيٍّ بسيط،
دولة يقودها جدولٌ من الصراخ المنتظم.
أجل،
لم يختفِ الجنرال… بل استنسخ نفسه،
أنجب جيشًا كاملاً،
كلّ فرد فيه مختصّ في التنغيص اليومي،
بخطة دقيقة، وبسلاسة تامة،
حتى غدت الحياة أشبه بمارش عسكري تُديره عائلة،
والمطبخ ميدانهم،
والحارة هي ساحة العرض.
ولك أن تتخيل،
أن تُولد، وتكبر، وتشيخ،
وكل يوم من عمرك،
تُوقَظ على يد أحد أفراد هذه العائلة النبيلة!
إنهم لا يحكموننا فقط... بل يضبطون دقات قلب المدينة.
وبين كل نداء ونداء،
نتنفس الحياة... مجزأة،
كما أرادها جنرال الطماطم الأول.






نهاية المقال شكرا ل

لأنه من أوحى لي بهذه الفكرة



اسم الموضوع : الحاكم العسكري للفجر
|
المصدر : خواطر بريشة الاعضاء