تواصل معنا

حين نفتح معجم المفردات الجاهلية نجد أن اللغة لم تكن مجرد أداة للتواصل أو وسيلة للتفاخر، بل كانت وعاءً للوعي ومجلىً للفلسفة البدوية التي تشرّبتها النفوس من...

A.M.A.H

مشرف اقسام الشعر
الاشراف
إنضم
10 أغسطس 2021
المشاركات
3,052
مستوى التفاعل
1,180
مجموع اﻻوسمة
4
الحداثة مع فلسفة الجاهليين
حين نفتح معجم المفردات الجاهلية نجد أن اللغة لم تكن مجرد أداة للتواصل أو وسيلة للتفاخر، بل كانت وعاءً للوعي ومجلىً للفلسفة البدوية التي تشرّبتها النفوس من صحارى قاحلة وسماءٍ مترامية الأطراف. كان البدويّ في جاهليته يحمل في كلماته صورة فلسفية عن الكون والحياة والموت، وإن لم يسمّها فلسفة، فقد كانت في حقيقتها حِكمة عميقة مستبطنة.

فالجاهليون حين نطقوا بكلمة مثل الدهر لم يعنوا مجرد الزمن، بل جعلوه قوة غامضة، متربصة، حاكمة على مصائرهم، حتى قال قائلهم: "الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك". إنّ كلمة الدهر في معجمهم لم تكن ساعةً على الرمل، بل كانت معنى وجودياً يواجه الإنسان بصمته وصروفه.

وحين قالوا الموت، لم يكن لفظاً عادياً، بل كان حقيقةً جاثمة تتربص بكل فارس وكل شاعر. لم يعرف الجاهلي فلسفات الخلود ولا ترف الماوراء، لكنه كان يدرك أنّ الحياة قصيرة، وأن الموت يقف في الطريق مثل صخرة لا سبيل إلى تخطيها. ومن هنا جاءت فلسفتهم في السعي إلى الذكر الخالد: "إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطرُ". إنهم أرادوا أن يقهروا الموت بالاسم، وأن يجعلوا من الشعر والسيف طريقاً لخلودٍ أرضيّ لا سماوي.

أما مفردة العرض فقد كانت عندهم أثمن من الروح، فهي فلسفة الشرف التي صاغت قوانين المجتمع الجاهلي. العرض لم يكن مجرد سمعة، بل كان هوية الفرد والقبيلة، وإذا سقط العرض سقط الوجود. وهكذا نجد أن فلسفتهم للحياة لم تفصل بين الجسد والكرامة، بل جعلت الكرامة أسمى من الجسد نفسه

وفي لفظ الكرم نجد بعداً آخر: لم يكن مجرد بذل مال أو ذبيحة للضيف، بل كان إعلاناً عن معنى الوجود. الكرم في فلسفة الجاهلية هو الطريقة الوحيدة ليقول للعالم: "أنا موجود"، "اسمي لن يُمحى"، "خيمتي شاهدة عليّ". فالكرم عندهم لم يكن ترفاً بل كان طريقاً للخلاص من فلسفة الفناء.

ومفردة الحرب تحمل وجهاً مزدوجاً في فلسفتهم: فهي الموت والدمار من جهة، وهي المجد والرفعة من جهة أخرى. الحرب لم تكن لعنة مطلقة، بل كانت مسرحاً للوجود، حيث يختبر الإنسان قوته ومعناه. الفارس لم يكن يسأل: "هل تستحق الحرب أن تُخاض؟"، بل كان يسأل: "هل أستحق أن أُذكر إن لم أخضها؟".

كذلك كلمة الناقة أو الراحلة، وهي عندهم أوسع من كونها دابة، بل كانت رمزاً لفلسفة الحركة والنجاة. الناقة هي الوجود المتنقل، هي القدرة على عبور الفراغ القاتل، هي رمز الإنسان الذي يرفض الجمود ويرحل حيث الماء والكلأ. في صورة الناقة يتجسد معنى الحياة كرحلة أبدية، لا تستقر ولا تهدأ، لأن السكون موت.

ولنقف عند لفظة السيف؛ السيف لم يكن مجرد أداة قتل، بل كان رمز الحق الشخصي، بلغة فلسفية هو "العدالة العارية". في غياب القوانين والدساتير، صار السيف هو القانون الأعلى، وصار حمله إعلاناً عن حرية الفرد وقدرته على مواجهة الدهر والخصوم.

ثم تأتي مفردة الشعر، التي هي أعظم منطق فلسفي في الجاهلية. الشعر عندهم لم يكن ترفاً فنياً، بل كان ديوان الوجود: يُخلِّد البطولات، يُبرّر الموت، يفسّر الدهر، يواجه العدم بالكلمة. إذا كان الفيلسوف يكتب أطروحته ليخلّد فكره، فالشاعر الجاهلي كان يقول قصيدته ليخلّد نفسه وقومه، وليقاوم بها محاولة العدم لابتلاع اسمه.

إذن، مفردات الجاهلية تكشف عن فلسفة عميقة، وإن لم تُصَغ في كتب. كانت فلسفة تقوم على ثنائية أساسية: الفناء والخلود.

الفناء في جسدٍ سيموت، وسماءٍ لا تبالي، وصحراء لا تعطي إلا من يصبر.

والخلود في اسمٍ يبقى، في بيت شعرٍ يتردد، في كرمٍ يُحكى، في سيفٍ يلمع، في دمٍ يُسكب دفاعاً عن عرضٍ لا يزول.

لقد علّمنا الجاهليون –من غير أن يكتبوا– أن الإنسان في مواجهة الدهر لا يملك إلا ثلاثة أسلحة فلسفية: الشرف، والشعر، والسيف. وكلها ليست إلا صوراً لمعركة أبدية ضد العدم.

الجاهلي كان يرى في الدهر قوة عمياء تسحق البشر دون رحمة. والإنسان عنده ليس سيد الزمن، بل ضحية صروفه. هذا المعنى يلتقي مع ما قاله جان بول سارتر عن عبثية الوجود: نحن وُجدنا في عالم بلا معنى سابق، والزمن يبتلعنا يوماً بعد يوم.
لكن الفارق أن الجاهلي لم يستسلم للعدم، بل صنع معنىً أرضياً يقاوم به الدهر: الذكر والشرف. وهنا يظهر تقاطع مع الوجودية: إذا كان سارتر يقول "الإنسان محكوم عليه بالحرية"، فإن الجاهلي يقول بلغة أخرى: "محكوم عليّ بالموت، لكنني حر في أن أترك أثراً لا يمحوه".


الموت في المفردة الجاهلية كان نهاية حتمية، لكنهم رفضوا أن يكون موتهم عبثياً. لذلك ابتكروا فكرة الخلود الأرضي عبر الشعر والمجد. وهذا يتلاقى مع نيتشه حين رفض الخلود الديني التقليدي، ودعا إلى "العود الأبدي": أن يعيش الإنسان حياته كأنها ستتكرر إلى الأبد، فيصوغها بعظمة لا يندم عليها. الفارس الجاهلي الذي يركب جواده وهو يعلم أن الموت ينتظره، يشبه الإنسان النيتشوي الذي يواجه المصير بابتسامة القوة، رافضاً الاستسلام للضعف. كلاهما جعل من الموت منصة خلود: الأول بالقصيدة، والثاني بإرادة القوة.

مفردة العرض لم تكن مجرد قيمة اجتماعية، بل كانت جوهر الذات. من أجل العرض يخوض الجاهلي الحروب، ويختار الموت على المذلة. هنا نرى صدى لقول سارتر: "الإنسان مشروع"، أي إنه ليس شيئاً ثابتاً بل هو فعل يحدده اختياره. الجاهلي اختار أن يكون عرضه هويته، وبه صنع وجوده. أما ألبير كامو حين تحدّث عن عبثية العالم، شبّه الإنسان بـ"سيزيف" الذي يدحرج صخرته إلى الأبد. الجاهلي أيضاً كان سيزيفياً في معناه، فكلما انهار عرضه أو سقط شرفه أعاد بناءه من جديد، لأن الحياة بلا عرض عنده عبث لا يُحتمل.


المفردات الجاهلية – الدهر، الموت، العرض، الكرم، الحرب، الناقة، السيف، الشعر – لم تكن مجرد لغة قبائل، بل كانت نصاً فلسفياً أولياً سبق الحداثة. فيها نرى الوجودية قبل أن تُصاغ، ونرى إرادة القوة قبل أن يكتبها نيتشه، ونرى مواجهة العبث قبل أن يصفها كامو.

لقد كان العربي الجاهلي، في صحرائه، فيلسوفاً بالفطرة: لم يحمل كتباً، لكنه حمل سيفاً وقصيدة، وصاغ بهما معنى الحياة. فالإنسان في النهاية، سواء أكان في خيمة جاهلية أم في مدينة حديثة، يظل يواجه السؤال ذاته


كيف أجعل لحياتي معنى أمام يقين الفناء؟


A.M.A.H
 

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى