تواصل معنا

الاسْتِعْراب النُّورْمانِي تَسامُح أم نَفْعِيَّة؟ صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (4) اصْطَبَغَتْ كثيرٌ من مَظاهر الحياة في صِقِلِّيَّة بعد...

الغريبة

نجوم المنتدي
إنضم
28 ديسمبر 2021
المشاركات
237
مستوى التفاعل
130
مجموع اﻻوسمة
1
الاسْتِعْراب النُّورْمانِي تَسامُح أم نَفْعِيَّة؟

الاسْتِعْراب النُّورْمانِي تَسامُح أم نَفْعِيَّة؟
صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (4)


اصْطَبَغَتْ كثيرٌ من مَظاهر الحياة في صِقِلِّيَّة بعد سُقوطها في أيدي النورمان النُّصارى بالصِّبْغة العربية الإسلامية، حتى تَشَبَّه مُلوكهم بمُلوك المسلمين في كثير من مَظاهر المُلْك، بما في ذلك الألقاب، والعلامات، والشعارات، ولُغة الكتابة والمُحادَثَة، واتخذوا من المسلمين حُرَّاسًا، ووزراء، وحُجَّاب، وغير ذلك من المَهامِّ التي تُوَسَّد للمؤتَمَنِيْن، وسَرْد مَظاهر ذلك يَطُول جدًا، وإنما ذكرنا من ذلك نماذِج تُنْبِئ عن الحالة العامة للبلاد آنذاك.[1]



وقد عَلَّل الدكتور إحسان عباس رحمه الله تعالى رُوْحَ التَّسامُح البادِيَة من قِبَل النورمان إزاء المسلمين عقب سيطرتهم على الجزيرة، فقال[2]: الجماعة الإسلامية كانت عندما استولى النورمان على الجزيرة حقيقة لا يَسْهُل مَحْوها أو طَمْسُها، وكان الفاتحون - أي النورمان - أقَلِّيَّة ضَئيلة، لا يستطيعون أن يَفْرِضوا أنفسهم على نواحي الحياة في الجزيرة بالقوة، ولم تكن لهم حضارة يَبْسُطونها على هذا العالم الذي كان يَمُدُّ ما حوله بالحضارة.



ومن ثم نَفْهَم تلك السياسة المُتَسامِحة التي قابَلوا بها كلَ دِيْن ومَذْهَب في صِقِلِّيَّة، لكي لا يبدو هذا التسامح غريبًا في نظرنا، حين نذكر أنه مُعاصِرٌ للحروب الصليبية، ومن ثم أيضًا نفهم الروحَ الانتقائية التي واجهوا بها النُّظَم، والقوانين، والشرائع المتنوعة، واختاروا أحسن ما يُلائم حكومتهم منها.



ولم يكن بُدٌّ من تلك الخُطوات الواعِية عند قوم كانوا نُقْطة المَرْكَز في دائرة من الأعداء، فأحيانًا هم على عداء مع البابا، وكثيرًا ما كانوا في خُصومة مع الإمبراطورية الشرقية - أي البيزنطية - وهم في خَطَر من تهديد الإمبراطور الجِرْمانِي، وعلى مَقْرُبة منهم في الساحل الأفريقي أمراء مسلمون يُضْمِرون لهم العداء.



وهذه حالٌ تَسْتَدعي الأمن والرِّضا في الداخل، وتجعل التوازن بين المصالح والفئات المُتَضارِبة أمرًا لا غِنى عنه؛ ولذلك آمن النورمان بالواقع، فلم يَنْصُروا دِيْنًا على دِيْن، وخَضعوا لاعتبارات المَوقع الجُغْرافي، والحقائق السياسية الخارجية، والحالة الحضارية الداخلية، انتهى.



ويقول الدكتور عبد الجليل شلبي: كان النورمانديين على حَظٍّ من الذَّكاء، وقد عُرِفوا به من قبل[3]؛ لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسْبان، فهناك - وهذا بعد تَنْصِير صِقِلِّيَّة بزَمَن طويل- أَفْتَى القُسُس بأن المسلمين رِجْس، وآثارهم نَجَس لا يُطَهِّرُه إلا إحراقُه بالنار، حتى الجُدْران أَفْتَوا بهَدْمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقًا.



أما هؤلاء؛ فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم، واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام - وعلى الأصح - كانت الصورة التي قَرَّت في أذهانهم عنه مما يَصْعُب مَحْوه، ولكن حضارة صِقِلِّيَّة ظَلَّت في تَقَدُّم لمُدَّة طويلة بعد، وظَلَّت مَظاهر الحياة العربية بادِيَة عليها، ولو تَقَبَّل النورمانديون الإسلام، واتخذوه دينًا، لكان عَهْد هذا الازدهار الحضاري أطول زمنًا، وأبقى.[4]



لكن كل ما يُذْكَر عن التَّسامُح والحُرِّيَّة في عهد أولئك الملوك كان مَقْصورًا على المدن التي يُشَكِّل فيها المسلمون أكثرية، أو تلك المُدن التي يُحْكِم المَلِكُ قَبْضَتَه على تَسْيير مَقاليدها من خلال رجاله وأعوانه، كمدينة بَلِرْم[5] (باليرمو)، أما ما ضَعُفَتْ السَّيْطرة المَرْكَزِيَّة عليه من المدن والقرى، وشَكَّل المسلمون فيه أَقَلِّيَّة، فلم يكن للأمان مكان، ولا للطمأنينة سَبيل، حتى أن ابن جبير رحمه الله تعالى قد وصف حال المسلمين في صِقِلِّيَّة بقوله[6]: تحت ذِمَّة غيرهم يؤدون الجِزْيَة، ولا أَمْن لهم في أموالهم، ولا في حَريمهم، وأبنائهم.



وأما أهل القُرى والأرياف، فلم يكونوا يرتفعون عن الرَّقِيْق بكثير، وكلهم رَهائِن في يد الملك بصِقِلِّيَّة يُهَدِّد بهم أمراء المسلمين ومُلوكَهم.[7]



بل كان بعض المسلمين يلجأ إلى إظهار التَّنَصُّر خَوفًا على أنفسهم، ولم تكن الهجرة من صِقِلِّيَّة من السُّهولة بمكان، ولا كانت السُّلُطات تسمح بها؛ إذ كان عِمْران صِقِلِّيَّة يَسْتَدعي ذلك.



وعندما قامت ثورة على مايون وزير غليالم الأول، انتهز النصارى - وخاصة اللُّمْبارْدِيِّون[8] - هذه الفرصة، وهاجموا المسلمين، وأَثْخَنوا فيهم قَتْلًا وذَبْحًا في شوارع بَلِرْم، ويقال: إنهم وجدوا في القَصْر جماعة من الخِصْيان المسلمين، فذبحوهم، ثم قتلوا المسلمين الذين كانوا في الدَّواوِيْن، أو في الفنادق والحوانيت، ونزعوا الأكفان عن جُثَث الموتى، ولم يكن عدد من هَلَك من المسلمين قليلًا، وممن قُتِل في هذه الواقعة: الشاعر يحيى ابن التيفاشى القَفَصى، ولعل الإدريسي الجغرافي مُصَنِّف [نُزْهَة المُشْتاق في اخْتِراق الآفاق] كان من ضحاياها أيضًا.



وقد كاد اللُّمْبارْدِيِّون النصارى أن يُبِيْدوا المسلمين في بَلِرْم، إلا قليلًا منهم نَجَوا بأنفسهم، ولَجَؤوا إلى الغابات، والجبال؛ لتُخْفِيَهم عن أنظار النصارى، في حين لجأ آخرون إلى قلعة في جنوبي صِقِلِّيَّة، يسكُنها بعض إخوانهم في الدين.[9]



ولم يكد غليالم الثاني يموت، حتى ثارت المعارك بين المسلمين والنصارى في الشوارع، وفاضَت الدِّماء في المدينة، واعْتَصَم من نَجا بين الجبال[10].



وقد قام النورمانديون بنقل نحو عشرين ألفًا من مُسْلِمي صِقِلِّيَّة إلى جنوبي إيطاليا[11]؛ ليُكْمِلوا حركة التشتيت[12]، ووصل عدد المسلمين في الجزيرة إلى حَدٍّ يُقارِب التَّلاشي؛ نتيجةً للتَّحَدِّيَّات الكثيرة التي واجهتهم.



ولما آل مُلْك الجزيرة إلى الإمبراطور فِريدريك الثاني[13] ابن هنري السادس، سار - ومن بعده ابنه منفريد - على نَهْج روجرالأول، والثاني، وغليالم (وليام) الأول، والثاني، الذين حرصوا على عدم إثارة الحَمِيَّة لدين من الأديان في جزيرة صقلية.




ـــــــــــــــــــ
[1] لا يزال سُكَّان صِقِلِّيَّة الأصليين يختلفون في ملامحهم عن سائر الإيطاليين، ويحتفظون ببعض التقاليد التي ترجع لفترة الوجود العربي الإسلامي، كالثَّأر، والحَمِيَّة للعِرْض، والإنتماء إلى العائلة، ولا تزال حوالي ثلاثمائة كلمة من اللغة العربية موجودة في اللُّغْة الصِّقِلِّيَّة.
[2] العرب في صقلية (ص138،137).

[3] يقول الدكتور محمود سعيد عمران في كتابه معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى (ص269): إذا أراد الإنسان أن يُرْجِع نجاح النورمان في إنجلترا إلى مَحْض الصُّدْفة، أو إلى شخصية وليم الفاتح الفريدة في نوعها؛ فإن الأعمال العظيمة للنورمان في جنوب إيطاليا دون أية مُساعدة من الحُكَّام يُعَدُّ أكبر دليل على القوة الإبْداعية للعبقرية النورمانية؛ ألا وهي عبقرية الفتح والإدارة،انتهى بتصرف يسير. ووليم الفاتح هو الحاكم النورماندي الذي غزا إنجلترا، وأقام فيها سلالة حاكمة أنجلو سكسونية.

[4] حضارة العرب في صقلية، وأثرها في النهضة الأوروبية.(مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403ه-).

[5] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (1/483)، وقال: معناه بكلام الروم المدينة. وانظر: الروض المعطار للحميري (1/101).

[6] (ص332).

[7] لما استولى عبد المؤمن بن علي أول حكام دولة الموحدين على المهدية قال صاحب صقلية: إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية، قتلنا المسلمين الذين بجزيرة صقلية، وأخذنا حَرَمهم، وأموالهم. انظر: العرب في صقلية (ص151) نقلا عن رحلة التيجاني.

[8] هم أهل إقليم لومبارديا الواقع في شمال إيطاليا مُتاخِمًا لسويسرا، وهو أكبر أقاليم إيطاليا من حيث عدد السُّكان، وعاصمته هي مدينة ميلانو المشهورة.

[9] المرجع السابق (ص149). وفيه أن اثنان من اللُّمْبارديين قد خرجا إلى بثيرة، وغيرها، وجمعا الفلاحين اللَّاتين، وأغارا بهم غارات متتالية على المسلمين، دون أن يُراعوا في ذَبْحِهم عُمْرًا، أو جِنْسًا.

[10] المرجع السابق (ص154).

[11] قال ابن سعيد المغربي في كتاب الجغرافيا(ص69): وفي جنوبي هذا البحر - يقصد خليج البُنْدُقِيَّة - مدينة روما، قاعدة البابا؛ على مذهب الخوارزمي، وقد تقدم ذكرها في الإقليم الخامس. وتقع في هذا الجزء مدينة (لوشيرة)، التي أسكن الإنبرور - أي الإمبراطور وهو النُّطْق العربي للكلمة - فيها المسلمين الذين أخرجهم من صقلية، وهي حيث الطول خمس وثلاثون درجة وست وعشرون دقيقة، والعرض اثنتان وأربعون درجة.

[12] انظر: الحضارة الإسلامية في صقلية لعبد المنعم رسلان (ص20،19)، والمسلمون في جزيرة صقلية لأحمد توفيق المدني (ص163)، والمسلمون تحت السيطرة الرأسمالية لمحمود شاكر (ص29)، وعنهم: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص114،113).

[13] كان وريث عرش صقلية من قِبَل أُمِّه، ووارث المُلْك في ألمانيا من قِبَل أبيه، و صار أيضًا ملكًا لبيت المقدس عن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا، وَلِيَّة عَهْد أبيها في مملكة بيت المقدس التي نشأت أثناء الحروب الصليبية، فصار إمبراطورًا لإيطاليا، وألمانيا، وصقلية، وتَوَّجَه البابا إمبراطورًا لما يُسَمَّى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بُغْيَة الحُكْم والسيادة، والوصول إلى مُلْك مملكة بيت المقدس، وكان لاختلاطه بالمسلمين في الشرق دورٌ في جَعْله يوليهم تقديرًا، واحترامًا أكثر من غيره، حتى كان مَغْضوبًا عليه من كثير من نصارى عصره، وصَوَّروه عدوًا للنصرانية؛ لعدم خُضوعه للكنيسة، بل إعلانه الحرب على بابا روما في بعض الفترات، وإنزاله الهزيمة به، ولما عُرِف عنه من حُسْن معاملة للمسلمين في أغلب أحواله، وطِيْب علاقات مع مُلوكهم، على عكس ما كان يريده الآباء في روما من توالي الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وكان قد رَبَّاه في صغره قاضي صِقِلِّيَّة، وجَعَلَت العادات، والمظاهر الشرقية تتأصَّل فيه، وفي دولته، ولكنه لم يستطع التَّخَلُّص من التيارات التي كانت تُعاصِره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.

وقد استطاع فريدريك بدهائه حَمْل الملك الكامل الأيوبي على التنازل عن بيت المقدس، فصار ملكا له نحو عشر سنوات، وحَصَّل بالكلام المَعْسول ما لم يُحَصِّله غيره بحروب طاحنة.

وشخصية فريدريك الثاني من الشخصيات التي تستحق الدراسة الوافية؛ لما كان يَتَّسِم به من: موسوعية علمية، وتنوع ثقافي، وحِنْكة سياسية، فضلًا عن كونها تُمَثِّل حَلَقَة كُبرى من حلقات الصراع مع السُّلْطة الكَنَسِيَّة في العصور الوسطى. انظر: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور (ص350-365)، وحضارة العرب في صقلية، وأثرها في النهضة الأوروبية. (مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403ه-).



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/23258/#ixzz51SaBzCx8
 

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
الاسْتِعْراب النُّورْمانِي تَسامُح أم نَفْعِيَّة؟
بارك الله فيك

معلومات قيمة و مفيدة

ودي و احترامي

حفظك الله
 
Comment

sitemap      sitemap

أعلى