تواصل معنا

قطوف من مدارج السالكين ***************** [فَصْلٌ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَايَتُهَا وَحِكْمَتُهَا] فَصْلٌ فَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ...

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

[فَصْلٌ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَايَتُهَا وَحِكْمَتُهَا]
فَصْلٌ

فَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ الْعُبُودِيَّةِ، وَغَايَتَهَا وَحِكْمَتَهَا إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُعَطِّلْهَا، وَعَرَفَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَتَهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ إِلَهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بَلْ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلِّقِ الصِّفَاتِ بِالصِّفَاتِ، وَكَارْتِبَاطِ الْمَعْلُومِ بِالْعِلْمِ، وَالْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْأَصْوَاتِ بِالْسَمْعِ، وَالْإِحْسَانِ بِالْرَحْمَةِ، وَالْعَطَاءِ بِالْجُودِ.
فَمَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفْهَا كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ الْعِبَادَاتِ وَغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ؟
كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْخَلْقِ، وَالَّتِي لَهَا خُلِقُوا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟
وَأَنَّ فَرْضَ تَعْطِيلِ الْخَلِيقَةِ عَنْهَا نِسْبَةٌ لِلَّهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَبَثًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى مُهْمَلًا، قَالَ تَعَالَى:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]
أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا لِعِبَادَتِي وَمُجَازَاتِي لَكُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فِي قَوْلِهِ:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أَيْ مُهْمَلًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ.
وَالْصَحِيحُ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْنَهْيِ، وَالْأَمْرُ وَالْنَهْيُ طَلَبُ الْعِبَادَةِ وَإِرَادَتُهَا، وَحَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ امْتِثَالُهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]
وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].
وَقَالَ: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الْمُتَضَمِّنِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ.
فَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا خُلِقَتْ لِهَذَا، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَا حِكْمَةَ مَقْصُودَةٌ هِيَ غَايَتُهُ؟
أَوْ إِنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اسْتِئْجَارِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يُنَكَّدَ عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ بِالْمِنَّةِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَارْتِيَاضِهَا بِمُخَالَفَةِ الْعَوَائِدِ؟ .
فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ الْفُرْقَانَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِدْ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ.
فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، الْجَامِعَةِ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ.
فَأَصْلُ الْعِبَادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، بَلْ إِفْرَادُهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلَا يُحِبُّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِهِ وَفِيهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَمَحَبَّتُنَا لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَنْ يَتَّخِذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ لَهُ هِيَ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وَسِرَّهَا، فَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ تَعَالَى اتِّبَاعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْهَا، وَشَاهِدًا لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]
فَجَعَلَ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وَتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ، فَانْتِفَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُتَابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ بِدُونِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ.
وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ، وَلَا يَكْفِ ذَلِكَ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَتَى كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .
فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ قَوْلَ أَحَدٍ أَوْ حُكْمَهُ، أَوْ طَاعَتَهُ أَوْ مَرْضَاتَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَحْكُمُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، وَيُحَاكِمُ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى أَقْوَالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَعْذُورٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هُوَ أَوْلَى بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ، فَإِنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَذَلَّهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى اتِّبَاعِ شَيْخِهِ، فَهُوَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************

[فَصْلٌ بِنَاءُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ]
فَصْلٌ

وَبَنَى " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ:
التَّحَقُّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.
فَالْعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ، فَأَصْحَابُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " حَقًّا هُمْ أَصْحَابُهَا.
فَقَوْلُ الْقَلْبِ: هُوَ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَلِقَائِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ.
وَقَوْلُ اللِّسَانِ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَالْدَعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالْذَبُّ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ بُطْلَانِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، وَالْقِيَامُ بِذِكْرِهِ، وَتَبْلِيغُ أَوَامِرِهِ.
وَعَمَلُ الْقَلْبِ: كَالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْرَجَاءِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالْصَبْرِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَعَنْ نَوَاهِيهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ، وَالْرِضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْذُلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِخْبَاتِ إِلَيْهِ، وَالْطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي فَرْضُهَا أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمُسْتَحِبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُسْتَحِبِّهَا، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِهَا إِمَّا عَدِيمُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ.
وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ: كَالْصَلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " الْتِزَامٌ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِقْرَارٌ بِهَا، "
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " طَلَبٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَيْهَا وَالتَّوْفِيقِ لَهَا، وَ "
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " مُتَضَمِّنٌ لِلتَّعْرِيفِ بِالْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِلْهَامِ الْقِيَامِ بِهِمَا، وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِهَا.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

[الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ]
فَصْلٌ

الصِّنْفُ الثَّانِي:
الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ، الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَلَكِنْ لَا يَقُومُ بِالرَّبِّ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَنْفَعَتِهِ.
فَعِنْدَهُمْ:
أَنَّ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ أَثْمَانًا لِمَا يَنَالُهُ الْعِبَادُ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ.
قَالُوا: وَلِهَذَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِوَضًا كَقَوْلِهِ:
{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
وَقَوْلِهِ:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
وَقَوْلِهِ:
{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
«يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا»
وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
قَالُوا: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَأَجْرًا وَثَوَابًا، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهُ.
قَالُوا: وَلَوْلَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا وَلَا ثَوَابًا مَعْنًى.
قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَزْنُ، فَلَوْلَا تَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاؤُهَا لَهَا، وَكَوْنُهَا كَالْأَثْمَانِ لَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] .
وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أَشَدَّ التَّقَابُلِ، وَبَيْنَهُمَا أَعْظَمُ التَّبَايُنِ.
فَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأَعْمَالِ اِرْتِبَاطًا بِالْجَزَاءِ الْبَتَّةَ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَيُنَعِّمَ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَكِلَاهُمَا بِالْنِسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ دَرَجَاتٍ، وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا بِالْثَوَابِ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ.
وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ وَثَمَنًا لَهَا، وَأَنَّ وُصُولَ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمَالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ.
فَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَا أَجْهَلَهُمْ بِاللَّهِ وَأَغَرَّهُمْ بِهِ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ، حَتَّى قَالُوا:
إِنَّ إِعْطَاءَهُ مَا يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَى الْعَبْدِ وَأَطْيَبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ بِلَا عَمَلٍ.
فَقَابَلَتْهُمُ الْجَبْرِيَّةُ أَشَدَّ الْمُقَابَلَةِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ الْبَتَّةَ.
وَالْطَائِفَتَانِ جَائِرَتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ،وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْبَابٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُمَا كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَمَنِّهِ، وَصَدَقَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، إِنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا وَوَفَّقَهُ لَهَا، وَخَلَقَ فِيهِ إِرَادَتَهَا وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا، وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِ، وَزَيَّنَهَا فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ أَضْدَادُهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ ثَمَنًا لِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ، وَلَا هِيَ عَلَى قَدْرِهِ، بَلْ غَايَتُهَا إِذَا بَذَلَ الْعَبْدُ فِيهَا نُصْحَهُ وَجُهْدَهُ، وَأَوْقَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ أَنْ تَقَعَ شُكْرًا لَهُ عَلَى بَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ لَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهَا، فَلِذَلِكَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا قَالَ:
«لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ»
وَفِي لَفْظٍ:
«لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ،»
وَفِي لَفْظٍ:
«لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ.
قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
: قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»
وَأَثْبَتَ سُبْحَانَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، إِذْ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَيْسَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَنْفِيُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا لَهَا، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ الْتَفَضُّلَ بِالْثَوَابِ ابْتِدَاءً مُتَضَمِّنٌ لِتَكْرِيرِ الْمِنَّةِ.
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، وَأَغْلَظِهِمْ عَنْهُ حِجَابًا، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَكْفِي فِي جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ فِي مِنَّتِهِ، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرَحِ وَالْسُرُورِ، وَالْغِبْطَةِ وَاللَّذَّةِ اغْتِبَاطُهُمْ بِمِنَّةِ سَيِّدِهِمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا طَابَ لَهُمْ عَيْشُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ أَعْرَفُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ إقْرَارًا بِهَا، وَذِكْرًا لَهَا، وَشُكْرًا عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ لِأَجْلِهَا، فَهَلْ يَتَقَلَّبُ أَحَدٌ قَطٌّ إِلَّا فِي مِنَّتِهِ؟
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .
وَاحْتِمَالُ مِنَّةِ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا كَانَتْ نَقْصًا لِأَنَّهُ نَظِيرُهُ، فَإِذَا مَنَّ عَلَيْهِ اسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَرَأَى الْمَمْنُونُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ دُونَهُ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنَّةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ:
" اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ ".
وَلَا نَقْصَ فِي مِنَّةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِي احْتِمَالِهَا، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي إِنَّمَا يَتَقَلَّبُ الْخَلَائِقُ فِي بَحْرِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، بِلَا عِوَضٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ؟
وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَسْبَابًا لِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَهُوَ الْمَنَّانُ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ وَفَّقَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ وَهَدَاهُمْ لَهَا، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَمَّلَهَا لَهُمْ، وَقَبِلَهَا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِيهَا؟
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ:
{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] .
فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا هِيَ أَسْبَابٌ لَهُ، وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَمَارَاتٍ.
قَالُوا: وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُطَّرِدَةً، لِتَخَلُّفِ الْجَزَاءِ عَنْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْضُ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالْمَشِيئَةِ.
فَالنُّصُوصُ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، كَمَا هِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ أُولَئِكَ، وَأَدِلَّةُ الْمَعْقُولِ وَالْفِطْرَةِ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتُبَيِّنُ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌّ مِقْدَارَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَسَطُ، الْمُثْبِتُونَ لِعُمُومِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَخَلْقِهِ الْعِبَادَ وَأَعْمَالَهُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ رَبْطَ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا، وَانْعِقَادَهَا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، وَتَرْتِيبَهَا عَلَيْهَا عَاجِلًا وَآجِلًا.
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُنْحَرِفَتَيْنِ تَرَكَتْ نَوْعًا مِنَ الْحَقِّ، وَارْتَكَبَتْ لِأَجْلِهِ نَوْعًا مِنَ الْبَاطِلِ، بَلْ أَنْوَاعًا، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ:
{وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

[فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ]
فَصْلٌ

وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ

: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]
وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنبياء: 19]
هَاهُنَا، ثُمَّ يَبْتَدِئُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19].
فَهُمَا جُمْلَتَانِ تَامَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، أَيْ إِنَّ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عَبِيدًا وَمِلْكًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جُمْلَةً أُخْرَى فَقَالَ: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ يَعْنِي لَا يَأْنَفُونَ عَنْهَا، وَلَا يَتَعَاظَمُونَ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، فَيَعْيَوْنَ وَيَنْقَطِعُونَ يُقَالُ:
حَسِرَ وَاسْتَحْسَرَ، إِذَا تَعِبَ وَأَعْيَا بَلْ عِبَادَتُهُمْ وَتَسْبِيحُهُمْ كَالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ، فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لِعَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَالثَّانِي وَصْفٌ لِعَبِيدِ إِلَهِيَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]
وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص: 17]
وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41]
وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص: 45]
وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]
وَقَالَ عَنِ الْمَسِيحِ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59].
فَجَعَلَ غَايَتَهُ الْعُبُودِيَّةَ لَا الْإِلَهِيَّةَ، كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ النَّصَارَى، وَوَصَفَ أَكْرَمَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَأَعْلَاهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]
وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]
فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]
فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]
فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى» الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ»
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ.

وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْبِشَارَةَ الْمُطْلَقَةَ لِعِبَادِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17]
وَجَعَلَ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69]
وَعَزَلَ الشَّيْطَانَ عَنْ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَجَعَلَ سُلْطَانَهُ عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ وَأَشْرَكَ بِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]
وَقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100] .
وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْسَانَ الْعُبُودِيَّةِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ فَقَالَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

[فَصْلٌ فِي لُزُومِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِكُلِّ عَبْدٍ إِلَى الْمَوْتِ]

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]
وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ:
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46]
وَالْيَقِينُ هَاهُنَا هُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَفِي الصَّحِيحِ:
«فِي قِصَّةِ مَوْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ أَيِ الْمَوْتُ وَمَا فِيهِ» ،
فَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي الْبَرْزَخِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ؟
وَمَا يَقُولُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
وَيَلْتَمِسَانِ مِنْهُ الْجَوَابَ، وَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَدْعُو اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَى السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، فَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ هُنَاكَ، وَصَارَتْ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الثَّوَابِ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِمْ لَا يَجِدُونَ لَهُ تَعَبًا وَلَا نَصْبًا.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالِانْسِلَاخِ مِنْ دِينِهِ، بَلْ كُلَّمَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَعْظَمَ.
وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى أُمَمِهِمْ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ.
وَكُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************

[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ]

الْعُبُودِيَّةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ.

فَالْعُبُودِيَّةُ الْعَامَّةُ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلِّهِمْ لِلَّهِ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الْقَهْرِ وَالْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا - أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا - وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17] فَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ مَعَ ضَلَالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالْإِشَارَةِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إِلَّا لِأَهْلِ النَّوْعِ الثَّانِي، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]
وَقَالَ:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]
وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعُبُودِيَّةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ.
🌹 يتبع 1
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*******************

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَعُبُودِيَّةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ، قَالَ تَعَالَى : {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68].
وَقَالَ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17].
وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39]، فَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .
فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَهْلُ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ هُمْ عَبِيدُ إِلَهِيَّتِهِ.
وَلَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ إِضَافَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا إِلَّا لِهَؤُلَاءِ.
🌹 يتبع 2
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************

وَأَمَّا وَصْفُ عَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
إِمَّا مُنْكِرًا، كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
وَالثَّانِي مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] ، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] .
الثَّالِثُ: مُقَيَّدًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا، كَقَوْلِهِ: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17] .
الرَّابِعُ: أَنْ يُذْكَرُوا فِي عُمُومِ عِبَادِهِ، فَيَنْدَرِجُوا مَعَ أَهْلِ طَاعَتِهِ فِي الذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] .
الْخَامِسُ: أَنْ يُذْكَرُوا مَوْصُوفِينَ بِفِعْلِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] .
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ عِبَادَهُ إِذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِنْ عَبِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالطَّاعَةِ.
🌹 يتبع 3
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****""*********

وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلًا بِوَطْءِ الْأَقْدَامِ، وَفُلَانٌ عَبَّدَهُ الْحُبُّ إِذَا ذَلَّلَهُ، لَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ وَذَلُّوا طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَانْقِيَادًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَعْدَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ قَهْرًا وَرَغْمًا.
وَنَظِيرُ انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ انْقِسَامُ الْقُنُوتِ إِلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ، وَالُسُجُودُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى فِي الْقُنُوتِ الْخَاصِّ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]
وَقَالَ فِي حَقِّ مَرْيَمَ: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ فِي الْقُنُوتِ الْعَامِّ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] أَيْ خَاضِعُونَ أَذِلَّاءُ.
وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْخَاصِّ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]
وَقَالَ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْعَامِّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] .
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السُّجُودُ الْكُرْهُ غَيْرَ السُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فَخَصَّ بِالسُّجُودِ هُنَا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَعَمَّهُمْ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ::{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} [النحل: 49] وَهُوَ سُجُودُ الذُّلِّ وَالْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَاضِعٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ذَلِيلٌ لِعِزَّتِهِ، مَقْهُورٌ تَحْتَ سُلْطَانِهِ تَعَالَى.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
****************

فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عِلْمًا وَعَمَلًا]

لِلْعُبُودِيَّةِ مَرَاتِبُ، بِحَسَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَأَمَّا مَرَاتِبُهَا الْعِلْمِيَّةُ فَمَرْتَبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْعِلْمُ بِاللَّهِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْعِلْمُ بِدِينِهِ.

فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَخَمْسُ مَرَاتِبَ:
الْعِلْمُ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.

وَالْعِلْمُ بِدِينِهِ مَرْتَبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: دِينُهُ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: دِينُهُ الْجَزَائِيُّ، الْمُتَضَمِّنُ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

وَأَمَّا مَرَاتِبُهَا الْعِلْمِيَّةُ، فَمَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَمَرْتَبَةٌ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ.

فَأَمَّا مَرْتَبَةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، مَعَ ارْتِكَابِ الْمُبَاحَاتِ، وَبَعْضِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَتَرْكِ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ.
وَأَمَّا رُتْبَةُ الْمُقَرَّبِينَ: فَالْقِيَامُ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، زَاهِدِينَ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ، مُتَوَرِّعِينَ عَمَّا يَخَافُونَ ضَرَرَهُ.
وَخَاصَّتُهُمْ قَدِ انْقَلَبَتِ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ بِالنِّيَّةِ فَلَيْسَ فِي حَقِّهِمْ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ، بَلْ كُلُّ أَعْمَالِهِمْ رَاجِحَةٌ، وَمَنْ دُونَهُمْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَاتِ مُشْتَغِلًا عَنْهَا بِالْعِبَادَاتِ، وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَهَا طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ.
وَلِأَهْلِ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ دَرَجَاتٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************

[فَصْلٌ عِبَادَةُ الْجَوَارِحِ]

وَأَمَّا الْعُبُودِيَّاتُ الْخَمْسُ عَلَى الْجَوَارِحِ فَعَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مَرْتَبَةً أَيْضًا، إِذِ الْحَوَاسُّ خَمْسَةٌ، وَعَلَى كُلِّ حَاسَّةٍ خَمْسُ عُبُودِيَاتٍ.
فَعَلَى السَّمْعِ وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، مِنَ اسْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَفُرُوضِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ لِلْجُمْعَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي اسْتِمَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنْ رَدِّهِ، أَوِ الشَّهَادَةِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَاسْتِمَاعِ أَسْرَارِ مَنْ يَهْرُبُ عَنْكَ بِسِرِّهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُتَضَمِّنًا لَحِقَّ لِلَّهِ يَجِبُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ لِأَذَى مُسْلِمٍ يَتَعَيَّنُ نُصْحُهُ، وَتَحْذِيرُهُ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ أَصْوَاتِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ الَّتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِأَصْوَاتِهِنَّ، إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ، أَوْ مُحَاكَمَةٍ، أَوْ مُدَاوَاةٍ وَنَحْوِهَا.
وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْمَعَازِفِ، وَآلَاتِ الطَّرَبِ وَاللَّهْوِ، كَالْعُودِ وَالُنْبُورِ وَالْيَرَاعِ وَنَحْوَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ اسْتِمَاعَهُ، إِلَّا إِذَا خَافَ السُّكُونَ إِلَيْهِ وَالْإِنْصَاتَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِتَجَنُّبِ سَمَاعِهَا وُجُوبُ سَدِّ الذَّرَائِعِ.
وَنَظِيرُ هَذَا الْمُحْرِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطَّيبِ، وَإِذَا حَمَلَتِ الرِّيحُ رَائِحَتَهُ وَأَلْقَتْهَا فِي مَشَامِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أَنْفِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا نَظْرَةُ الْفُجَاءَةِ لَا تَحْرُمُ عَلَى النَّاظِرِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا تَعَمَّدَهَا.
وَأَمَّا السَّمْعُ الْمُسْتَحَبُّ فَكَاسْتِمَاعِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِمَاعِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَالْمَكْرُوهُ عَكْسُهُ، وَهُوَ اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
وَالْمُبَاحُ ظَاهِرٌ.
🌺 يتبع 1
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************

وَأَمَّا النَّظَرُ الْوَاجِبُ:
فَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ عِنْدَ تَعَيُّنِ تَعَلُّمِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَالنَّظَرُ إِذَا تَعَيَّنَ لِتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي يَأْكُلُهَا أَوْ يُنْفِقُهَا أَوْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، وَالْأَمَانَاتِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا إِلَى أَرْبَابِهَا لِيُمَيِّزَ بَيْنَهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالنَّظَرُ الْحَرَامُ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، وَبِغَيْرِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَنَظَرِ الْخَاطِبِ، وَالْمُسْتَامِ وَالْمَعَامِلِ، وَالشَّاهِدِ، وَالْحَاكِمِ، وَالطَّبِيبِ، وَذِي الْمَحْرَمِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ النَّظَرُ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّتِي يَزْدَادُ بِهَا الرَّجُلُ إِيمَانًا وَعِلْمًا، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ، وَوُجُوهِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالنَّظَرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَشْهُودَةِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَالْمَكْرُوهُ فُضُولُ النَّظَرِ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُ فُضُولًا كَمَا لِلِّسَانِ فُضُولًا، وَكَمْ قَادَ فُضُولُهَا إِلَى فُضُولٍ عَزَّ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَأَعْيَى دَوَاؤُهَا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ، كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ.
وَالْمُبَاحُ النَّظَرُ الَّذِي لَا مَضَرَّةَ فِيهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَلَا مَنْفَعَةَ.
وَمِنَ النَّظَرِ الْحَرَامِ: النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ:
عَوْرَةٌ وَرَاءَ الثِّيَابِ، وَعَوْرَةٌ وَرَاءَ الْأَبْوَابِ.
وَلَوْ نَظَرَ فِي الْعَوْرَةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَبْوَابِ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْعَوْرَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَذَهَبَتْ هَدْرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ ضَعَفَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ، أَوْ تَأَوَّلَهُ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاظِرِ سَبَبٌ يُبَاحُ النَّظَرُ لِأَجْلِهِ، كَعَوْرَةٍ لَهُ هُنَاكَ يَنْظُرُهَا، أَوْ رِيبَةٍ هُوَ مَأْمُورٌ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا.
🌺 يتبع 2
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
****************

وَأَمَّا الذَّوْقُ: الْوَاجِبُ فَتَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَخَوْفِ الْمَوْتِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، مَاتَ عَاصِيًا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَاوُسٌ:
مَنِ اِضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، دَخَلَ النَّارَ.
وَمِنْ هَذَا تَنَاوُلُ الدَّوَاءِ إِذَا تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ ظَنَّ الشِّفَاءَ بِهِ، فَهَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مُبَاحٌ، أَوِ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ؟
فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَالذَّوْقُ الْحَرَامُ: كَذَوْقِ الْخَمْرِ، وَالسُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، وَالذَّوْقِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَكَذَوْقِ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْأَكْلِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَذَوْقِ طَعَامِ الْفُجَاءَةِ، وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي تَفَجَّأَ آكِلُهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْعُوَكَ إِلَيْهِ، وَكَأَكْلِ أَطْعِمَةِ الْمُرَائِينَ فِي الْوَلَائِمِ وَالدَّعَوَاتِ وَنَحْوِهَا، وَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِينَ» ، وَذَوْقُ طَعَامِ مَنْ يُطْعِمُكَ حَيَاءً مِنْكَ لَا بِطِيبَةِ نَفْسٍ.
وَالذَّوْقُ الْمُسْتَحَبُّ: أَكْلُ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ، وَالْأَكْلُ مَعَ الضَّيْفِ لِيَطِيبَ لَهُ الْأَكْلُ، فَيَنَالَ مِنْهُ غَرَضَهُ، وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا أَوِ الْمُسْتَحَبِّ.
وَقَدْ أَوْجَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْأَكْلَ مِنَ الْوَلِيمَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا لِلْأَمْرِ بِهِ عَنِ الشَّارِعِ.
وَالذَّوْقُ الْمُبَاحُ: مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا رُجْحَانٌ.
🌺 يتبع 3
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْعُبُودِيَّاتِ الْخَمْسِ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ، فَالشَّمُّ الْوَاجِبُ:
كُلُّ شَمٍّ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَالشَّمِّ الَّذِي تُعْلَمُ بِهِ هَذِهِ الْعَيْنُ هَلْ هِيَ خَبِيثَةٌ أَوْ طَيِّبَةٌ؟
وَهَلْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ أَوْ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ؟
أَوْ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُ؟
وَمِنْ هَذَا شَمُّ الْمُقَوِّمِ، وَرَبِّ الْخِبْرَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِالتَّقْوِيمِ، وَشَمُّ الْعَبِيدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الشَّمُّ الْحَرَامُ: فَالتَّعَمُّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَشَمِّ الطِّيبِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ، وَتَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ مِنَ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ خَشْيَةَ الِافْتِتَانِ بِمَا وَرَاءَهُ.
وَأَمَّا الشَّمُّ الْمُسْتَحَبُّ: فَشَمُّ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي الْحَوَاسَّ، وَيَبْسُطُ النَّفْسَ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْ هَذَا هَدِيَّةُ الطِّيبِ وَالرَّيْحَانِ إِذَا أُهْدِيَتْ لَكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ، خَفِيفُ الْمَحْمَلِ» .
وَالْمَكْرُوهُ: كَشَمِّ طِيَبِ الظَّلَمَةِ، وَأَصْحَابِ الشُّبُهَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْمُبَاحُ: مَا لَا مَنْعَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ وَلَا تَبِعَةَ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا تَعَلُّقُ لَهُ بِالشَّرْعِ.
🌺 يتبع 4
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

وَأَمَّا تَعَلُّقُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ:
فَاللَّمْسُ الْوَاجِبُ كَلَمْسِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَجِبُ جِمَاعُهَا، وَالْأَمَةِ الْوَاجِبِ إِعْفَافُهَا.
وَالْحَرَامُ: لَمْسُ مَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ: إِذَا كَانَ فِيهِ غَضُّ بَصَرِهِ، وَكَفُّ نَفْسِهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَإِعْفَافُ أَهْلِهِ.
وَالْمَكْرُوهُ: لَمْسُ الزَّوْجَةِ فِي الْإِحْرَامِ لِلَذَّةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَفِي الصِّيَامِ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ.
وَمِنْ هَذَا لَمْسُ بَدَنِ الْمَيِّتِ لِغَيْرِ غَاسِلِهِ لِأَنَّ بَدَنَهُ قَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَوْرَةِ الْحَيِّ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ عَنِ الْعُيُونِ وَتَغْسِيلُهُ فِي قَمِيصِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْسُ فَخْذِ الرَّجُلِ إِذَا قُلْنَا هِيَ عَوْرَةٌ.
وَالْمُبَاحُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ.
وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ أَيْضًا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْبَطْشِ بِالْيَدِ، وَالْمَشْيِ بِالرِّجْلِ، وَأَمْثِلَتُهَا لَا تَخْفَى.
فَالتَّكَسُّبُ الْمَقْدُورُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَاجِبٌ، وَفِي وُجُوبِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَلَا يَجِبُ لِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي وُجُوبِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ نَظَرٌ، وَالْأَقْوَى فِي الدَّلِيلِ وَجُوبُهُ لِدُخُولِهِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَتَمَكُّنِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِهِ.
وَمِنَ الْبَطْشِ الْوَاجِبِ: إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُبَاشَرَةُ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ.
وَالْحَرَامُ: كَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، وَنَهْبُ الْمَالِ الْمَعْصُومِ، وَضَرْبُ مِنْ لَا يَحِلُّ ضَرْبُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَأَنْوَاعِ اللَّعِبِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَالنَّرْدِ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَالشِّطْرَنْجِ، أَوْ مِثْلِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيث كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَوْ دُونَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَنَحْوِ كِتَابَةِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ تَصْنِيفًا أَوْ نَسْخًا، إِلَّا مَقْرُونًا بِرَدِّهَا وَنَقْضِهَا، وَكِتَابَةِ الزُّورِ وَالظُّلْمِ، وَالْحُكْمِ الْجَائِرِ، وَالْقَذْفِ وَالتَّشْبِيبِ بِالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَكِتَابَةِ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِنْ كَسَبْتَ عَلَيْهِ مَالًا: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]
وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْمُفْتِي عَلَى الْفَتْوَى مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَالْإِثْمُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَكَالْعَبَثِ وَاللَّعِبِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكِتَابَةِ مَا لَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ كِتَابَةُ كُلِّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ، أَوْ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَالْإِحْسَانُ بِيَدِهِ بِأَنْ يَعِينَ صَانِعًا، أَوْ يَصْنَعَ لِأَخْرَقَ، أَوْ يُفْرِغَ مِنْ دَلْوِهِ فِي دَلْوِ الْمُسْتَسْقِي، أَوْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ يُعَاوِنَهُ بِيَدِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ لَمْسُ الرُّكْنِ بِيَدِهِ فِي الطَّوَافِ، وَفِي تَقْبِيلِهَا بَعْدَ اللَّمْسِ قَوْلَانِ.
وَالْمُبَاحُ مَا لَا مَضَرَةَ فِيهِ وَلَا ثَوَابَ.
وَأَمَّا الْمَشْيُ الْوَاجِبُ: فَالْمَشْيُ إِلَى الْجُمْعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ دَلِيلًا مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَشْيُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِلطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَالْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَرْكُوبِهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى صِلَةِ رَحِمِهِ، وَبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ.
وَالْحَرَامُ: الْمَشْيُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ رَجِلِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]
قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبَانِ جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ، فَكُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ.
وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسُ بِالرُّكُوبِ أَيْضًا.
فَوَاجِبُهُ فِي الرُّكُوبِ فِي الْغَزْوِ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ.
وَمُسْتَحَبُّهُ فِي الرُّكُوبِ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ نِزَاعٌ هَلِ الرُّكُوبُ فِيهِ أَفْضَلُ، أَمْ عَلَى الْأَرْضِ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ إِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ لِلْمَنَاسِكِ، وَاقْتِدَاءٍ بِهِ، وَكَانَ أَعْوَنَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الدَّابَّةِ.
وَحَرَامُهُ: الرُّكُوبُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمَكْرُوهُهُ الرُّكُوبُ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَكُلُّ مَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ.
وَمُبَاحُهُ الرُّكُوبُ لِمَا لَمْ يَتَضَمَّنْ فَوْتَ أَجْرٍ، وَلَا تَحْصِيلَ وِزْرٍ.
فَهَذِهِ خَمْسُونَ مَرْتَبَةً عَلَى عَشَرَةِ أَشْيَاءَ:
الْقَلْبُ، وَاللِّسَانُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْأَنْفُ، وَالْفَمُ، وَالْيَدُ، وَالرِّجْلُ، وَالْفَرْجُ، وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
******************
[مَنْزِلَةُ الْبَصِيرَةِ]

فَالْبَصِيرَةُ مَعْنَاهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يَرَى بِهِ حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، فَيَتَحَقَّقُ مَعَ ذَلِكَ انْتِفَاعُهُ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَتَضَرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ:
الْبَصِيرَةُ تَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرُ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَصِيرَةُ مَا خَلَّصَكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، إِمَّا بِإِيمَانٍ وَإِمَّا بِعِيَانٍ.
وَالْبَصِيرَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْبَصِيرَةَ:
بَصِيرَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَبَصِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَبَصِيرَةٌ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

فَالْبَصِيرَةُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:
أَنْ لَا يَتَأَثَّرَ إِيمَانُكَ بِشُبْهَةٍ تُعَارِضُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، بَلْ تَكُونُ الشُّبَهُ الْمُعَارِضَةُ لِذَلِكَ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الْبَلَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ.
وَعَقْدُ هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَأَشْخَاصِهِ وَذَوَاتِهِ، سَمِيعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَأَمْرُ الْمَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وَصَاعِدٌ إِلَيْهِ، وَأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي أَقْطَارِ الْمَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالْمِثَالِ، هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا وَمِثْلًا، وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الْخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَفَضْلًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ، أَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَمُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ إِلَيْهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، وَلَا تَرَكَ الْإِنْسَانَ سُدًى عَاطِلًا، بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِهَا إِلَى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ، تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الدِّلَالَاتِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، وَمَدَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَهْدِهِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ: أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ.
وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا.
🌺 يتبع 1
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، لِجَهْلِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا، وَتَمَكُّنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ رَأَيْتَهُمْ أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وَأَعْظَمَ تَسْلِيمًا لِلْوَحْيِ، وَانْقِيَادًا لِلْحَقِّ.

فَصْلٌ:
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْبَصِيرَةِ الْبَصِيرَةُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَجْرِيدُهُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ هَوًى، فَلَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شُبْهَةٌ تُعَارِضُ الْعِلْمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا شَهْوَةَ تَمْنَعُ مِنْ تَنْفِيذِهِ وَامْتِثَالِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ، وَلَا تَقْلِيدَ يُرِيحُهُ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّصُوصِ.
وَقَدْ عَلِمَتْ بِهَذَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

🌺 يتبع 2
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
****************
فَصْلٌ:
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْبَصِيرَةُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهِيَ أَنْ تَشْهَدَ قِيَامَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، عَاجِلًا وَآجِلًا، فِي دَارِ الْعَمَلِ وَدَارِ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ شَكٌّ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، بَلْ شَكُّ فِي وُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ تَعْطِيلُ الْخَلِيقَةِ، وَإِرْسَالُهَا هَمَلًا، وَتَرْكُهَا سُدًى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَشَهَادَةُ الْعَقْلِ بِالْجَزَاءِ كَشَهَادَتِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعَادَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا اهْتُدِيَ إِلَى تَفَاصِيلِهِ بِالْوَحْيِ، وَلِهَذَا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمَعَادِ كُفْرًا بِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِقُدْرَتِهِ وَلِإِلَهِيَّتِهِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] .
وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ! كَيْفَ يُنْكِرُونَ هَذَا، وَقَدْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا.
وَالثَّانِي: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ شِرْكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنْكَارُهُمْ لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " أَعْجَبُ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ:
فَإِنْكَارُ الْمَعَادِ عَجَبٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مَحْضُ إِنْكَارِ الرَّبِّ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالْجَحْدِ لِإِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَسُلْطَانِهِ.
وَلِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ فِي الْبَصِيرَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى قَالَ:
الْبَصِيرَةُ مَا يُخَلِّصُكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى:
أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْخَبَرَ الْقَائِمَ بِتَمْهِيدِ الشَّرِيعَةِ يَصْدُرُ عَنْ عَيْنٍ لَا يُخَافُ عَوَاقِبُهَا، فَتَرَى مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ يَقِينًا، وَتَغْضَبَ لَهُ غَيْرَةً.
وَمَعْنَى كَلَامِهِ:
أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرٌ عَنْ حَقِيقَةٍ صَادِقَةٍ، لَا يَخَافُ مُتَّبِعُهَا فِيمَا بَعْدُ مَكْرُوهًا، بَلْ يَكُونُ آمِنًا مِنْ عَاقِبَةِ اتِّبَاعِهَا، إِذْ هِيَ حَقٌّ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شَكْوَى، وَالْأَحْوَطُ بِكَ وَالَّذِي لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُكَ إِلَّا بِهِ تَنَاوُلُ الْأَمْرِ بِامْتِثَالٍ صَادِرٍ عَنْ تَصْدِيقٍ مُحَقَّقٍ، لَا يَصْحَبُهُ شَكٌّ، وَأَنْ تَغْضَبَ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ، وَيُهْمَلَ جَانِبُهُ.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْغَيْرَةُ عِنْدَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ وَمُسْتَحَقِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ تَكُونُ الْغَيْرَةُ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ أَضَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَصِيرَةِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّكَّ الْقَادِحَ فِي كَمَالِ الِامْتِثَالِ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الْغَضَبِ وَالْغَيْرَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ إِذَا ضُيِّعَتْ، وَمَحَارِمِهِ إِذَا انْتُهِكَتْ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ.
🌺 يتبع 3.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
********************

قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ تَشْهَدَ فِي هِدَايَةِ الْحَقِّ وَإِضْلَالِهِ إِصَابَةَ الْعَدْلِ، وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةَ الْبِرِّ، وَتُعَايِنَ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوَصْلِ ".
يُرِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشُهُودِ الْعَدْلِ فِي هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَاهُ، وَفِي إِضْلَالِهِ مَنْ أَضَلَّهُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَفَرُّدُهُ بِالْخَلْقِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ.
وَالثَّانِي: وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، لَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا، بَلْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هُدَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَزْكُو عَلَى الْهُدَى، وَيَقْبَلُهُ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، وَيُثْمِرُ عِنْدَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، أَصْلًا وَمِيرَاثًا، قَالَ تَعَالَى:
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]
وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِالْهُدَى، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا، وَيُحِبُّونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا عَدَلَ عَنْ مُوجَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى، وَإِضْلَالِ مَنْ أَضَلَّ، وَلَمْ يَطْرُدْ عَنْ بَابِهِ وَلَمْ يُبْعِدْ عَنْ جَنَابِهِ مَنْ يَلِيقُ بِهِ التَّقْرِيبُ وَالْهُدَى وَالْإِكْرَامُ، بَلْ طَرَدَ مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ تَأْبَى تَقْرِيبَهُ وَإِكْرَامَهُ، وَجَعْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَلَقَ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؟
فَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ ضَالٍّ، مُفْرِطٍ فِي الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ خَلْقَ الْأَضْدَادِ وَالْمُتَقَابِلَاتِ هُوَ مِنْ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ.
قَوْلُهُ: ":
وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةُ الْبِرِّ ".
يُرِيدُ بِتَلْوِينِ الْأَقْسَامِ:
اخْتِلَافَهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْوَالِ وَالْقُوَى، وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، قَسَّمَهَا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْمَصْلَحَةِ، فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ، بِرًّا وَإِحْسَانًا.
وَقَوْلُهُ: " وَتُعَايِنُ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوِصَالِ ".
يُرِيدُ تُعَايِنُ فِي تَوْفِيقِهِ لَكَ لِلطَّاعَةِ، وَجَذْبِهِ إِيَّاكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَقْرِيبَكَ مِنْهُ، فَاسْتَعَارَ لِلتَّوْفِيقِ الْخَاصِّ الْجَذْبَ، وَلِلتَّقْرِيبِ الْوِصَالَ، وَأَرَادَ بِالْحَبْلِ السَّبَبَ الْمُوَصِّلَ لَكَ إِلَيْهِ.
فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وَجَذْبِكَ نَفْسَكَ، وَجَعْلِكَ مُتَمَسِّكًا بِحَبْلِهِ الَّذِي هُوَ عَهْدُهُ وَوَصِيَّتُهُ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى تَقْرِيبِهِ لَكَ، تُشَاهِدُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي الْمَحَبَّةِ وَالشُّكْرِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ، فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا.
🌺 يتبع 4
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,319
مستوى التفاعل
10,094
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ:
بَصِيرَةٌ تُفَجِّرُ الْمَعْرِفَةَ، وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ، وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ.
يُرِيدُ بِالْبَصِيرَةِ فِي الْكَشْفِ وَالْعِيَانِ أَنْ تَتَفَجَّرَ بِهَا يَنَابِيعُ الْمَعَارِفِ مِنَ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَقُلْ: " تُفَجِّرُ الْعِلْمَ " لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْعِلْمِ نِسْبَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ.
وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ تَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا يَنَابِيعُ مِنَ الْمَعَارِفِ، الَّتِي لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ وَلَا دِرَاسَةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا فَهْمٌ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَدِينِهِ، عَلَى قَدْرِ بَصِيرَةِ قَلْبِهِ.
وَقَوْلُهُ " وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ ".
يُرِيدُ بِالْإِشَارَةِ: مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ، وَالْأَذْوَاقِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْأَجْنَبِيُّ مِنَ السُّلُوكِ، وَيُثْبِتُهَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَرِدُ عَلَى السَّالِكِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ ثَبَتَتْ بَصِيرَتُهُ ذَلِكَ لَهُ وَحَقَّقَتْهُ عِنْدَهُ، وَعَرَّفَتْهُ تَفَاصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بَلْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ يَعْرِفْ تَفْصِيلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِتَثْبِيتِهِ.
قَوْلُهُ: " وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ مَعْنَاهَا ".
يَعْنِي أَنَّ الْبَصِيرَةَ تُنْبِتُ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ الْفِرَاسَةَ الصَّادِقَةَ، وَهِيَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]
قَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
«اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَرَأَ:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] » .
وَالتَّوَسُّمُ مَعْنَاهُ تَفَعُّلٌ مِنَ السِّيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، فَسُمِّيَ الْمُتَفَرِّسُ مُتَوَسِّمًا، لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِمَا يَشْهَدُ عَلَى مَا غَابَ، فَيَسْتَدِلُّ بِالْعِيَانِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ ذَلِكَ لِآدَمَ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ حِينَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَنُوهُ هُمْ نُسْخَتُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، فَكُلُّ قَلْبٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ، وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتَصِحُّ الدِّلَالَةُ، وَبَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ مُذَكِّرِينَ وَمُنَبِّهِينَ، وَمُكَمِّلِينَ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ، بِنُورِ الْوَحْيِ وَالْإِيمَانِ، فَيَنْضَافُ ذَلِكَ إِلَى نُورِ الْفِرَاسَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ، فَتَقْوَى الْبَصِيرَةُ، وَيَعْظُمُ النُّورُ وَيَدُومُ، بِزِيَادَةِ مَادَّتِهِ وَدَوَامِهَا، وَلَا يَزَالُ فِي تَزَايُدٍ حَتَّى يُرَى عَلَى الْوَجْهِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْكَلَامِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا دَخَلَ قَلْبُهُ فِي الْغُلَافِ وَالْأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وَعَمِيَ عَنِ الْبَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، فَيَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالرُّشْدَ غَيًّا،وَالْغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]
" وَالرَّيْنُ " " وَالرَّانُّ " هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ.
وَعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ وَضَعْفِهَا تَكُونُ الْفِرَاسَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ:
فِرَاسَةٌ عُلْوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَفِرَاسَةٌ سُفْلِيَّةٌ دَنِيئَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ فِرَاسَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَجْرِيدِ الْبَوَاطِنِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوَاغِلِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِرَاسَةُ كَشْفِ الصُّوَرِ، وَالْإِخْبَارِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ السُّفْلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ كَشْفُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَمَالًا لِلنَّفْسِ، وَلَا زَكَاةً وَلَا إِيمَانًا وَلَا مَعْرِفَةً، وَهَؤُلَاءِ لَا تَتَعَدَّى فِرَاسَتُهُمْ هَذِهِ الْسُفْلِيَّاتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا تَصْعَدُ فِرَاسَتُهُمْ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَطَرِيقِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
وَأَمَّا فِرَاسَةُ الصَّادِقِينَ، الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ فَإِنَّ هِمَّتَهُمْ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَانَتْ فِرَاسَتُهُمْ مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، مُتَعَلِّقَةً بِنُورِ الْوَحْيِ مَعَ نُورِ الْإِيمَانِ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَيَّزَتْ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَعَرَفَتْ مَقَادِيرَ اسْتِعْدَادِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، فَحَمَلَتْ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا.
فَفِرَاسَةُ هَؤُلَاءِ دَائِمًا حَائِمَةٌ حَوْلَ كَشْفِ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَتَعَرُّفِهَا، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطُّرُقِ، وَبَيْنَ كَشْفِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ الْعَائِقَةِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْمُرْسَلِينَ، فَهَذَا أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَصِيرَةِ وَالْفِرَاسَةِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى