تواصل معنا

في أقصى المدينة حيث تمتزج رائحة البحر بصدأ الأسوار القديمة ولد ملهم لم يكن ميلاده حدثا عاديا فقد جاء في ليلة انطفأت فيها المصابيح كلها كأن المدينة قررت أن...

الإكليل*

سيد الحبر الصامت ومؤرخ للمشاعر
إنضم
9 أغسطس 2022
المشاركات
22,439
مستوى التفاعل
16,011
مجموع اﻻوسمة
20
سبعة فصول من رماد الضوء

في أقصى المدينة حيث تمتزج رائحة البحر بصدأ الأسوار القديمة
ولد ملهم
لم يكن ميلاده حدثا عاديا
فقد جاء في ليلة انطفأت فيها المصابيح كلها
كأن المدينة قررت أن تبدأ من جديد من ظلامها
لم يعرف أحد من أين جاء الضوء الذي أطل على وجهه الصغير
ربما كان وهما وربما كان نذيرا بشيء أكبر
من أن يفهمه الناس
في تلك الأزقة الملتفة حول أسرارها
كبر ملهم بين حجارة تتكلم بصمت
وبين أصوات بعيدة
لا تعرف إن كانت أنينا أم تراتيل
عاش طفولته كمن يتعلم الإصغاء
أكثر مما يتعلم الكلام
كان يراقب المراكب في الميناء
ويحسب كم مرة يعود البحر بخيبة جديدة
كان وجهه يحمل شيئا لا يفسر شيئا من الغربة
وكأن داخله مدينة أخرى لا يسكنها أحد
وفي بيت مطل على الأزقة
كانت رفيف
تكبر ببطء كزهرة تختبئ من ضوء النهار
كانت أمها تخيط الملابس
وتغني بأصوات تشبه ميلاد الريح
ورفيف تكتب أسماء وهمية
على زجاج النافذة
كلما أمطرت
كأنها تحاول أن تخلق أشخاصا تراهم فقط
في الضباب
كان صوتها خفيفا لكنه نافذ
كأنها تقول الأشياء دون أن تقولها
حين التقى ملهم ورفيف لأول مرة
لم يكن هناك موعد ولا صدفه
بل شيء أشبه باستدعاء قديم
خرج من ذاكرة المدينة
كان ذلك في صباح مائل للبرودة
حين سقطت حقيبتها الصغيرة عند عتبة المقهى
وانحنى ليجمع ما تبعثر من أوراقها
لم يقل شيئا ولم تشكره
اكتفى كلاهما بنظرة قصيرة
حملت ما لا تحتمله الكلمات
ومنذ تلك اللحظة
بدأت المدينة تتنفس على إيقاع جديد
مرت أيام كثيرة كانا يلتقيان صدفة
أو هكذا كان يظنها الناس
لكنها لم تكن صدفة بل خيوط خفية
تشد أحدهما نحو الآخر
في السوق القديم في الميناء
في الطرق التي لا يسلكها أحد
كانت نظراتهما تكتب ما تعجز عنه اللغة
كانا يعيشان في توازي غريب
لا يلتقي تماما ولا ينفصل تماما
وكان الليل حين يهبط عليهما
يتحول إلى مساحة من الاعتراف الصامت
كل منهما يرى في الآخر وجها
يشبهه المدينة حولهما
كانت تتغير ببطء الجدران حينما تتشقق
والناس يرحلون والموسيقى تختفي
من المقاهي القديمة
وكأن شيئا ما ينهار دون صوت
وملهم
كان يشعر أنه يذوب في هذا التغير
لا يعرف إن كان يبحث عن نفسه
أم عن رفيف
أم عن معنى
كل ما يجري
أما رفيف
فكانت تكتب على دفاترها الصغيرة جملا
لا يقرؤها أحد عن الخوف عن الشغف
عن العودة عن الظلال
التي تتكاثر في الزوايا
في إحدى الليالي جلسا على حافة البحر
لا أحد حولهما سوى رائحة الملح
وأصوات الموج المتعب
شعر أنهما واحد في السكون والضجيج والغياب والوجود
أدرك حينها أن الظل الذي يسكنهما
أكبر من جسديهما
وأن الحب الذي يربطهما
أعمق من المدينة نفسها
 

الإكليل*

سيد الحبر الصامت ومؤرخ للمشاعر
إنضم
9 أغسطس 2022
المشاركات
22,439
مستوى التفاعل
16,011
مجموع اﻻوسمة
20
سبعة فصول من رماد الضوء
الفصل الثاني

إرتطام الضؤ

كان الصباح يأتي متعبا
كأنه لم ينم منذ قرون
الضوء يتسلل بخوف إلى نوافذ المدينة القديمة
كمن يخشى أن يوقظ ما نام فيها من أسرار ملهم
استيقظ على صوت بعيد
يشبه ارتطام الموج في ذاكرته
نهض ببطء
كمن يحمل على كتفيه ثقل أعوام
لم يعشها بعد
نظر حوله
كل شيء في غرفته مرتب ببرود
إلا قلبه كان فوضى
من الأصوات والصور والوجوه
التي لم تعد موجودة
خرج يمشي في الشوارع الصامتة
كانت الأرصفة قد تبللت من مطر البارحة
وورق الشجر يلتصق بالأحذية
كعلامة من الزمن القديم
يشعر أن المدينة تنظر إليه
أن العيون خلف النوافذ تعرف ما بداخله
لكنه لم يهتم
يسير بعفوية كمن يهرب من فكرة
لا من مكان
كل شيء كان يشبهه
متعبا ضائعا لكنه ما زال يتحرك في الطريق إلى الميناء
رأى رساما عجوزا يجلس وحيدا
أمام لوحة لم تكتمل
اقترب منه بصمت
نظر في اللوحة
فوجد فيها نصف وجه امرأة
ونصف وجه مدينة
قال العجوز دون أن يلتفت
ما اكتمل في اللوحة اكتمل في الحكاية ضحك ملهم
بلا صوت
وأدرك أنه هو الآخر لوحة لم تكتمل
وأن رفيف
كانت اللون الذي لم يجد مكانه بعد
في المقهى القديم
جلس في الزاوية نفسها
التي كانت تجلس فيها رفيف
حين كانت تكتب في دفاترها الصغيرة
رائحة البن والبحر اختلطت بصوت المذياع العجوز الذي يكرر أغنية عن الغياب
وعن الذين يعودون متأخرين جدا
تذكر أصابعها وهي تمسك الفنجان بطريقتها الخاصة
تذكر ضحكتها
حين يتكلم عن أشياء لا تهم أحدا سواه وتذكر كيف كانت تنظر إليه
وكأنها تفككه لتفهم شيئا أعمق منه
الضوء يتسع في الخارج
والمدينة تبدأ ضجيجها اليومي
أصوات الباعة الأطفال العابرين
وأبواب المحال التي تفتح
كأنها تتثاءب
ومع كل صوت كان قلبه يرتجف
كأنه يسمع ارتطام الضوء بنفسه
الضوء الذي يوقظ كل ما أراد نسيانه
وكل ما دفنه في الظل
مرت امرأة تشبهها من بعيد
لها المشية نفسها والسكوت نفسه
توقف الزمن لحظة
وعاد كل شيء في داخله إلى الفوضى
نهض وتبعها بخطوات مترددة
لكنه حين اقترب
اكتشف أنها ليست رفيف
بل ظلها الذي تركته في العالم
يريد أن يصرخ لكنه لم يفعل
اكتفى أن يغلق عينيه
ويمر بجانبها كمن يعبر نفسه
عاد إلى البيت في المساء
ومعه ضوء غريب لا يعرف
إن كان حقيقيا أم حلما
جلس عند النافذة يراقب المدينة
وهي تتوهج ثم تخبو
لاحظ كيف أن كل مصباح يضيء
لحظة قبل أن يختفي
وكيف أن الظل لا يختفي
بل ينتظر بصبر قرب الضوء
كعدو يعرف أنه سينتصر يوما
أدرك عندها أن رفيف
لم تكن غائبة
بل تحولت إلى ضوء
وأنه هو ظلها
الذي يبحث عن مكانه في داخله
 
Comment

الإكليل*

سيد الحبر الصامت ومؤرخ للمشاعر
إنضم
9 أغسطس 2022
المشاركات
22,439
مستوى التفاعل
16,011
مجموع اﻻوسمة
20
سبعة فصول من رماد الضوء
الفصل الثالث
الذين يمشون في الغياب
 
Comment

ندى الورد

ســيـــدة الـقـــصــر
المدير العام
إنضم
17 مايو 2021
المشاركات
131,441
مستوى التفاعل
99,834
الإقامة
من المدينة المنورة
مجموع اﻻوسمة
36
سبعة فصول من رماد الضوء
منتظرة الفصل القادم
سرد مشوق احسنت اكليل
دمت بكل الخيرر تقديري لك
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

اسرار
أعلى