"الطريق الذي عدتُ فيه إلى نفسي"
.
.

.
لم أكن أظن أن القلب يشفى بالهدوء،
ولا أن الندوب يمكن أن تصبح شفافة
إلى هذا الحد.
كنت أعيش أيامي
كمن يمشي فوق ذاكرةٍ مبلّلة،
تتسرب منها صورٌ قديمة، وصوتٌ أعرفه،
وخيبةٌ أعرفها أكثر.
لكن الأيام…
لها حيلة لا نراها حين نكون مكسورين.
في ذلك الصباح،
خرجتُ فقط لأقضي حاجة صغيرة لأمي.
قائمة بسيطة كتبتها بخطها المرتب
الذي يشبهها:
شاي… خبز… وزهرة ياسمين لو وجدتها.
“الياسمين ينعش البيت”
هكذا كانت تقول.
ربما كانت تحاول أن تعطّر المكان
الذي ثقل بالحنين.
كنت أتفحّص الأشياء بلا نية…
إلى أن اخترق مسامعي
صوتٌ أعرفه كما أعرف وجعي.
صوتٌ كنت أظن أنني تجاوزته
قبل أن أكتشف أن بعض الأصوات تختبئ فينا،
لا ترحل.
التفتُ…
وها هو.
الرجل الذي تركني عند منتصف الطريق…
كأنني عبءٌ يريد التخلص منه.
تجمّدتُ.
أما هو فتقدم… ببرودٍ يعترف به الهواء.
قالها بارتباكٍ خفيف:
كنت أبحث عنكِ…
بحث؟!
الكلمة اصطدمت بي كضربةٍ
لم أكن مستعدة لها.
رفعت رأسي،
واستقام ظهري بطريقة لم أعرفها من قبل.
سألته بصوت لا يشبه أصواتي القديمة:
لماذا؟
تنفّس طويلاً…
ثم قال الجملة التي توقعتها،
ولم أعد أريدها:
اشتقت لكِ.
لكن الشوق لا يمسح الفعل،
ولا الضباب يعيد ما كُسر.
سألته بهدوء أثار خوفه أكثر مما أثار دهشتي:
ولماذا ذهبت؟
ارتبك.
اهتزت عيناه.
ولوهلة… شعرت أنني لست أنا التي ترتجف،
بل هو.
ضحكتُ… ضحكة خرجت من امرأة لم تولد إلا من الوجع.
وقلت:
الخوف لا يبرر الهروب…
ولا الهروب يمنح أحدًا حق العودة.
اقترب خطوة…
لكن قلبي كان صامتًا،
لا يركض نحوه كما كان يفعل.
هناك شيء أكبر مني ومنه كان يحركني…
شيء يشبه النضج.
قال: لنبدأ من جديد.
كأن العمر لعبة،
وكأن الوقت لا يصدأ.
نظرت إلى الأرض… رأيت ظلي.
هذه المرة يشبهني أنا،
لا ظل رجل يقف فوق قلبي.
فهمتُ أخيرًا أي امرأة أصبحت.
رفعت رأسي وقلت:
لا أريد أن أبدأ من جديد مع رجلٍ انتهى داخلي.
تراجع.
ثم اختفى كما اختفت أيامه من صدري.
وبقيتُ أنا…
كاملة بطريقةٍ لم أتوقعها.
ذهبتُ لدكان الورد…
اشتريت زهرة ياسمين واحدة، كما أرادت أمي.
وعندما عدت، وجدتها واقفة عند الباب،
كأن قلبها سبقني بخطوة.
همست لي:
"رأيته… صحيح؟"
لم أجب.
لم أحتج أن أجيب.
مدّت يدها
ومسحت المكان الذي بكى منذ أسابيع،
ثم سألت:
"وما قاله قلبك؟"
ابتسمت.
قلت:
قليل… قليل جدًا.
أغلقت الباب ببطء، وقالت:
"إذًا… لقد شُفيتِ."
تلك الليلة،
رأيت في المرآة مسافة صغيرة بين وجهي وألمي…
مسافة تكبر كل يوم.
وعرفت حينها
أنني لم أعد تلك التي تُترك…
بل تلك التي تختار نفسها، حتى لو خفق القلب قليلاً.
.
.
اللهم ارحم جنتي أمي رحمةً واسعة،
كما وسّعت صدري يوم ضاق،
وكما أمسكت بيدي
وأنا أتعلم أن أعود لنفسي.
اللهم اجعل الياسمين نورًا على قبرها،
وسكينةً بين أيامها.
اللهم اجعلها في أعلى الجنان،
في ظل رحمتك التي لا تنتهي.

يُضيئ طريق الحبيبة ندى الورد
وكل ايامه يارب
صباحك و مساؤك سعيد عيوني
//