الرسالة التي لم تُكتب

الرسالة التي لم تُكتب
لم يكن ينقصني الحبر، ولا الورق، ولا الكلمات. ما كان ينقصني هو يقيني بأنكِ ستقرئين.
في كل ليلة، كنتُ أجلس إلى الطاولة، أضع يدي على الورقة البيضاء، وأحدّق فيها كما يحدّق الغريب في بحرٍ لا شاطئ له. كنتُ أعلم تمامًا ما أريد قوله، بل كنتُ أسمعه يتردد في رأسي بوضوحٍ يوشك أن يمزّق الصمت. لكنّني، كلّ مرة، كنتُ أعجز عن تحويله إلى كلمات.
كيف أكتب لكِ رسالةً لا أعرف أين ستصل؟ كيف أبدأها؟ هل أقول “عزيزتي” كما كنتِ تحبّين؟ أم أكتفي باسمكِ وحيدًا، كأنّه صلاةٌ لا تحتاج إلى مقدّمة؟ وإن كتبتُها، أين أبعثها؟ أي بريدٍ يحمل رسائل لا تُرسل؟ وأي يدٍ ستفتح مظروفًا لا عنوان له؟
ليالٍ طويلة مرّت، وأنا أكتب ولا أكتب، أملأ عقلي بحروفٍ لا تجد طريقها إلى الورق. كنتُ أؤجّل الكتابة كما يؤجّل المرء الاعتراف بالحقيقة، وكما يؤجّل الموجُ ارتطامه بالصخر، رغم يقينه أنّه سيفعل.
وحين امتلأتُ بكِ إلى حدّ الاختناق، مددتُ يدي إلى الورقة، وكتبتُ سطرًا واحدًا فقط:
“كيف ليدٍ واحدة أن تصفق، وكيف لقلبٍ واحد أن يظلّ نابضًا بما مات في الآخر؟”
ثم توقفتُ، رفعتُ القلم، وتأملتُ الحروف التي أخيرًا وجدت طريقها إليكِ. لكنّني أدركتُ حينها، أنّ الرسالة لم تكن لكِ وحدكِ.
كانت لي أيضًا، وكانت متأخرةً عن موعدها.. كما كنتِ.
ظللتُ أحدّق في الجملة التي سقطت أخيرًا على الورق، كأنها لم تأتِ من قلمي، بل من نزفِ شيءٍ أعمق، شيء ظلّ صامتًا طويلًا حتى انفجر في كلمتين. لكن ماذا بعد؟ هل أتركها هكذا، وحيدةً كصرخة في الفراغ، أم أتابع ما بدأته دون أن أعرف إلى أين سيمضي؟
استندتُ إلى الكرسي، أغمضتُ عيني، واستحضرتُكِ كما يفعل عاشقٌ مع طيفٍ يطارده. كنتِ هناك، كما كنتِ دائمًا، لكن بشيءٍ من الضباب الذي لا يرحم الذكرى. كيف أصبحتِ بعيدةً هكذا، وأنتِ أقرب إليَّ من نبضي؟
عدتُ إلى الورقة، وبدأتُ أكتب، هذه المرّة دون تفكير، دون أن أخشى أن تضيع المعاني بين أصابعي:
“أتعلمين؟ الحروف خانتني طويلًا، امتنعتْ عني كما امتنعتِ أنتِ، وكأنّها أرادتْ أن تعلّمني درس الفقد بطريقتها القاسية. ظللتُ ألاحق الكلمات، أطرق أبوابها، أترجّاها أن تمنحني بعضًا مما يسكنني، لكنها أدارت وجهها ومضت، تمامًا كما فعلتِ في آخر لقاء. واليوم، حين لم أعد أبحث عنها، جاءت إليّ طائعة، متدفّقة، كأنّها كانت تنتظر لحظة ضعفي لتنتصر عليّ.”
توقّفتُ قليلًا، تأملتُ السطور، وشعرتُ وكأنها تكتبني أكثر مما أكتبها. ابتسمتُ بسخرية، ثم أكملتُ:
“تخيّلي، بعد كل هذا الوقت، لا زلتُ أكتب لكِ، كأنّني لم أتعلم شيئًا، كأنّني لا زلتُ أؤمن أنّ الرسائل قادرةٌ على إعادة ما ضاع. لكن لا بأس، دعيها تكون رسالةً أخيرة، دعيها تحملُ كلَّ ما لم يُقال، وكلَّ ما لن يُقال بعد اليوم.”
وهنا، رفعتُ القلم، ونظرتُ إلى الورقة الممتلئة، شعرتُ أنّها أثقل مما تتحمّله الأوراق، كأنّها ليست حبرًا، بل عمرٌ بأكمله سُكب على سطحها.
طيّتها ببطء، وضعتُها في مظروف، وكتبتُ عليه العنوان الوحيد الذي يليق بها:
“إلى حيث لا تصل الرسائل.”
ثم نهضتُ، اقتربتُ من النافذة، فتحتُها لأول مرة منذ زمن، وتركْتُ الرسالة هناك، في مهبّ الريح. ربما تأخذها السماء إليكِ، وربما تسقط تحت قدميّ عابرٍ لا يعرف عنّا شيئًا. لا يهمّ، فكلُّ ما يهمّ قد قيل أخيرًا.
والآن، بعد أن كتبتُ ما لم أكتب، أشعر وكأنني أخيرًا.. قد قرأتُ وداعكِ كما ينبغي.
لم يكن ينقصني الحبر، ولا الورق، ولا الكلمات. ما كان ينقصني هو يقيني بأنكِ ستقرئين.
في كل ليلة، كنتُ أجلس إلى الطاولة، أضع يدي على الورقة البيضاء، وأحدّق فيها كما يحدّق الغريب في بحرٍ لا شاطئ له. كنتُ أعلم تمامًا ما أريد قوله، بل كنتُ أسمعه يتردد في رأسي بوضوحٍ يوشك أن يمزّق الصمت. لكنّني، كلّ مرة، كنتُ أعجز عن تحويله إلى كلمات.
كيف أكتب لكِ رسالةً لا أعرف أين ستصل؟ كيف أبدأها؟ هل أقول “عزيزتي” كما كنتِ تحبّين؟ أم أكتفي باسمكِ وحيدًا، كأنّه صلاةٌ لا تحتاج إلى مقدّمة؟ وإن كتبتُها، أين أبعثها؟ أي بريدٍ يحمل رسائل لا تُرسل؟ وأي يدٍ ستفتح مظروفًا لا عنوان له؟
ليالٍ طويلة مرّت، وأنا أكتب ولا أكتب، أملأ عقلي بحروفٍ لا تجد طريقها إلى الورق. كنتُ أؤجّل الكتابة كما يؤجّل المرء الاعتراف بالحقيقة، وكما يؤجّل الموجُ ارتطامه بالصخر، رغم يقينه أنّه سيفعل.
وحين امتلأتُ بكِ إلى حدّ الاختناق، مددتُ يدي إلى الورقة، وكتبتُ سطرًا واحدًا فقط:
“كيف ليدٍ واحدة أن تصفق، وكيف لقلبٍ واحد أن يظلّ نابضًا بما مات في الآخر؟”
ثم توقفتُ، رفعتُ القلم، وتأملتُ الحروف التي أخيرًا وجدت طريقها إليكِ. لكنّني أدركتُ حينها، أنّ الرسالة لم تكن لكِ وحدكِ.
كانت لي أيضًا، وكانت متأخرةً عن موعدها.. كما كنتِ.
ظللتُ أحدّق في الجملة التي سقطت أخيرًا على الورق، كأنها لم تأتِ من قلمي، بل من نزفِ شيءٍ أعمق، شيء ظلّ صامتًا طويلًا حتى انفجر في كلمتين. لكن ماذا بعد؟ هل أتركها هكذا، وحيدةً كصرخة في الفراغ، أم أتابع ما بدأته دون أن أعرف إلى أين سيمضي؟
استندتُ إلى الكرسي، أغمضتُ عيني، واستحضرتُكِ كما يفعل عاشقٌ مع طيفٍ يطارده. كنتِ هناك، كما كنتِ دائمًا، لكن بشيءٍ من الضباب الذي لا يرحم الذكرى. كيف أصبحتِ بعيدةً هكذا، وأنتِ أقرب إليَّ من نبضي؟
عدتُ إلى الورقة، وبدأتُ أكتب، هذه المرّة دون تفكير، دون أن أخشى أن تضيع المعاني بين أصابعي:
“أتعلمين؟ الحروف خانتني طويلًا، امتنعتْ عني كما امتنعتِ أنتِ، وكأنّها أرادتْ أن تعلّمني درس الفقد بطريقتها القاسية. ظللتُ ألاحق الكلمات، أطرق أبوابها، أترجّاها أن تمنحني بعضًا مما يسكنني، لكنها أدارت وجهها ومضت، تمامًا كما فعلتِ في آخر لقاء. واليوم، حين لم أعد أبحث عنها، جاءت إليّ طائعة، متدفّقة، كأنّها كانت تنتظر لحظة ضعفي لتنتصر عليّ.”
توقّفتُ قليلًا، تأملتُ السطور، وشعرتُ وكأنها تكتبني أكثر مما أكتبها. ابتسمتُ بسخرية، ثم أكملتُ:
“تخيّلي، بعد كل هذا الوقت، لا زلتُ أكتب لكِ، كأنّني لم أتعلم شيئًا، كأنّني لا زلتُ أؤمن أنّ الرسائل قادرةٌ على إعادة ما ضاع. لكن لا بأس، دعيها تكون رسالةً أخيرة، دعيها تحملُ كلَّ ما لم يُقال، وكلَّ ما لن يُقال بعد اليوم.”
وهنا، رفعتُ القلم، ونظرتُ إلى الورقة الممتلئة، شعرتُ أنّها أثقل مما تتحمّله الأوراق، كأنّها ليست حبرًا، بل عمرٌ بأكمله سُكب على سطحها.
طيّتها ببطء، وضعتُها في مظروف، وكتبتُ عليه العنوان الوحيد الذي يليق بها:
“إلى حيث لا تصل الرسائل.”
ثم نهضتُ، اقتربتُ من النافذة، فتحتُها لأول مرة منذ زمن، وتركْتُ الرسالة هناك، في مهبّ الريح. ربما تأخذها السماء إليكِ، وربما تسقط تحت قدميّ عابرٍ لا يعرف عنّا شيئًا. لا يهمّ، فكلُّ ما يهمّ قد قيل أخيرًا.
والآن، بعد أن كتبتُ ما لم أكتب، أشعر وكأنني أخيرًا.. قد قرأتُ وداعكِ كما ينبغي.
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : الرسالة التي لم تُكتب
|
المصدر : خواطر بريشة الاعضاء