حينما تتكلم الذكريات بصوت الروائح
تسري الأرواح خلف أثرها
كأنها تتبع شرفات العمر
الذي ضاع بين عطر ومضى
كأن في الزاوية
عبق أول لقاء
أو لمحة من قهوة بردت
في غياب
كأن للمكان ذاكرة
تنحني كلما مر طيف
وللزمن حاسة شم
لا تنسى
من مر يوما حاملا لهفة
أو مغادرة
تأتي الروائح بلا استئذان
تفتح نوافذ أُغلقت
في غفلة من الحنين
تجعل من اللاشيء بيتا
ومن الغياب ظلا
كأنها نداء من زمن قديم
يسير بيننا
يمر فوق الجلد ويهمس للعين
يمنح الأشياء نبضا
وهدوءا ودمعة بلا سبب
رائحة المطر فوق تراب مهجور
أو عطر قديم
في وشاح لا يزال على رف
أو بخور من بيت
لم يعد مأهولا
كلها تكتبنا من جديد
تقول لنا من نحن
ومن أين بدأت الحكاية
هي ليست مجرد روائح
بل مفاتيح
كأن بها ندخل سردابا من الذاكرة
ونلمس فيه وجوها
لم تعد
ونعيد على القلب مشاهد
لم تتكرر
نشم فنصدق
فنحيا لحظة كانت
ثم نعود بها إلى حاضر
من خيال
العطر لا يكذب
العطر لا يشيخ
هو مرسال وفيّ
يعود متى اشتاقت النفس
ويفهم الصمت
ويُترجم الوجع
ويلامس ما لا يقال
وفي هدأة المساء
حين يخفت كل شيء
تأتي تلك الرائحة
تباغتك
كأنها تقول
ما زلت هنا
لم يمض كل شيء بعد
ما زال فيك شيء من ذاك الأمس
ما زال فيك بقايا حلم
وبيت
وضوء
وضحكة
فنم
نم والعطر فوق وسادتك
يدثرك بحنين لا يشيخ
وبأثر لا يزول
تغدو الحياة اشبه برسالة مفتوحة
كتبت بلغة لا تقرأ بالحروف
بل تستشعر في تجاويف الروح
في تلك اللحظة
التي يمر بها عبير
كأنه يطرق بابا خفيا
في القلب
بابا اغلق منذ سنين
لكنه لا يزال يعرف
كيف يفتح من اول نفس
رائحة الخبز اول الفجر
تلك التي كانت تسبق وجه الام
وتسبق الصلاة
وتسبق اليوم
تعيدك الى ضوء لا يقال
والى طمانينة لا تشترى
والى حضن لا يشيخ ولا يغيب
رائحة الكتب القديمة
تعيدك الى فصل من عمرك
الى مقعد خشبي
وكراسة مشبعة بحبرك
الى ركن كنت تقرا فيه
وتظن ان العالم
سيتسع لجنونك البريء
ذلك الركن الذي
لم يعد موجودا
لكنه فيك
ساكن في ضلع
لم يسام الانتظار
رائحة الراحلين
تسكن الثياب
تسكن الممرات
تسكن فناجين القهوة
التي لم تغسل
والوسائد التي لم تهذب
وتسكنك
كلما حاولت النسيان
جاءت لتقول
لا تغلق الابواب
نحن ما زلنا نلوح
من ضفة الذكرى
رائحة المطر
حين تلامس الارض الظماى
لا تسقي التراب فقط
بل تسقيك
تلك هي موائد الذكريات
في نطف القلوب