”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل الرابع)


بين الحقيقة والحلم..
استفاقت سعاد على لمسةٍ غير مرئية، كأن النهار نفسه يوقظها كي لا يفوتها احتضاره الأخير.
كان حضنُ الجدة ما يزال وسادتها، وأنفاسُها تهدهد السكينة في الغرفة.
رفعت سعاد رأسها قليلًا؛ الغروب على الجدار كان ينسحب ببطء: خطوطٌ ذهبية تتلاشى إلى نحاسٍ معتم، والضوء يميل من دفءٍ حنون إلى برودةٍ حذِرة، كأن اللون يطفئ شمعةً بعد أخرى.
قبّلت رأس جدتها هامسةً:
«سأعود حالًا يا جدتي».
ثم قامت على مهل.
في الصالة، كان ظلُّ الشمس الأخير يتكسّر عند رفّ الصور، يجعل الإطارات تلمع لمعانًا خافتًا كعيونٍ نصف مغمضة.
هناك، تحت صورةِ أمها مع الجدة، الورقةُ المطوية كما تركتها أمس، لكنها بدت الآن أثقل… كأن الغروب يسكب عليها ظلًّا زائدًا.
مدّت يدها؛ كان الورق دافئًا على غير عادة، تفوح منه رائحةٌ قديمة تشبه ترابًا رُشّ عليه بخور.
وما إن بدأت تفكّ الطيّة الأولى حتى اهتزّ لون الصالة قليلًا؛ خبا الذهبيّ إلى رمادٍ لطيف، والبيت كلّه أصغى، أو هكذا خُيّل لها.
وحين انبسطت بين يديها بدت الطيّاتُ ثلاثَ عُقَدٍ متتابعة:
الأولى خطوطٌ تلتفّ كحيّةٍ نائمة،
والثانية أشكالٌ تُحاصر نفسها كمصيدةٍ بلا مخرج، والثالثة حروفٌ مقلوبةٌ كدعاءٍ مكسور.
لا تقول معنىً صريحًا… لكنها تُلقي بثِقَلٍ لا يُرى.
فجأةً تبدّل الهواء في الصالة؛ سخونةٌ مباغتة صعدت من الأرض إلى صدرها، كأن البيت أُشعل من الداخل.
عند طرف الممرّ ظهرت الجدة.
الملامح ملامحها، والثوب ثوبها، غير أنّ النظرة أشدُّ من العادة، والصوتُ حادٌّ لا مكان فيه للرفق:
ما هذه الورقة بين يديكِ يا سعاد؟… أعطيني إيّاها.
مدّت سعاد يدها على ارتجاف.
وما إن لامست يدُ «الجدة» أناملَها حتى مرّ تيارٌ ساخن خلال ذراعها، وتهدّل الضوء لحظةً كأن الغروب تعثّر في النافذة.
حاولت أن تقول «يا جدتي»، لكن الكلمة انكسرت في حلقها.
انزاحت صورتها في عينيها نصفَ شعرة، كأن ظلًّا آخر تداخل مع الملامح ثم اختفى.
هوت سعاد عند الرفّ… سوادٌ ناعم يسدل ستاره بلا ضجيج.
فتحت عينيها على صوتٍ بعيد:
آنسة سعاد! آنسة سعاد!
الخادمة واقفةً فوقها، ملامحُها مضطربة، وكأسُ ماءٍ في يدها.
جلست سعاد مُتعبة الرأس، ونظرت حولها: الرفّ في مكانه، الصورة كما هي، ولا أثر للورقة.
قالت الخادمة وهي تُسندها لتنهض:
ربما انتي مرهقة اليوم يا آنسة.
هزّت سعاد رأسها بلا جواب.
راحت تفتّش بعينيها في كل زاوية: فوق الطاولة، بين الإطارات، تحت الأريكة… لا شيء.
يداها فارغتان، وثيابُها بلا أثرِ حبرٍ ولا زعفران.
رفعت نظرها إلى الدَّرَج.
هل صعدت إلى الجدة قبل الإغماء؟ لا تتذكّر.
هل أعطتها الورقة بالفعل؟ لا تتذكّر.
كانت الذاكرة تشبه زجاجًا يعلوه بخارٌ رقيق: ترى ما وراءه… لكن بلا يقين.
نهضت متكئةً على حافة الرفّ.
الساعةُ تتابع دقّاتها في اذنها كأن شيئًا لم يحدث، والستارةُ تتحرّك بنسيم المساء.
ومن بعيد جاء صوتُ الجدة هادئًا كعادته:
سعاد… تعالي يا ابنتي.
التفتت نحو المصدر، استوى قلبُها وخفق.
أكانت كلُّها حُلمًا قصيرًا في وقت الغروب؟
أم أنّ الورقة عادت إلى حيث جاءت… أم أُعيدت؟
مسحت سعاد جبينها بكفٍّ باردة،
ومضت إلى أعلى،
وفي صدرها سؤالٌ
لا يجد مكانًا لجوابٍ واحد.
— نهاية الفصل الرابع —
اسم الموضوع : ”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل الرابع)
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء