”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل السادس) الاخير.


اخر الأنفاس..
استفاقت سعاد قبيل الفجر على برودةٍ دقيقةٍ تمسُّ ما بين كتفيها ثم تنسحب، كخيط ماءٍ يلامس الصخر ويمضي. كانت قد غفت في غرفة الجَدّة منذ المساء، رأسها على الوسادة إلى جوارها. لم يكن نومها مستقيمًا، بل مُثقلًا بالكوابيس والرجفات الصغيرة، حتى حسبت أنها لم تنم، بل تناوبت بين يقظةٍ وخدر.
حين رفعت رأسها، رأت الجَدّة جالسةً على طرف السرير، بين يديها المصحف مفتوحٌ على موضعٍ لا ينتهي. قالت بصوتٍ منخفضٍ ثابت:
— قومي يا بنتي، توضّئي… الفجرُ يدنو.
مضت سعاد إلى غرفتها. ما إن فتحت الباب حتى لفحها هواء بارد لا يليق بصباحٍ دافئ. دخلت ببطء، فرأت ستارتها مسدلة كما تركتها، لكن المرآة المعلّقة فوق التسريحة كانت مكسوّة بطبقة بخار كأن أحدًا تنفّس عليها قبل لحظات. اقتربت ومسحت سطحها براحتها، فإذا بها ترى انعكاس الغرفة ساكنًا، غير أن سريرها بدا في المرآة خاليًا من الغطاء. التفتت خلفها على عجل… فوجد الغطاء في مكانه كما هو.
وضعت يدها على صدرها، ثم جلست على طرف السرير تتمتم بالمعوّذات. في اللحظة نفسها انطفأ ضوء الأبجورة للحظة قصيرة ثم عاد. همست في سرّها:
يا رب، لا ملجأ إلا بك.
بعد الصلاة جلست إلى جوار أمّها، والهدوء بينهما أثقل من الكلام. قطعت الأمُّ السكونَ همسًا:
البارحة… أحسستُ البيتَ يتنفّس على غير عادته.
أطرقت سعاد طويلًا، ثم قالت بنبرةٍ وادعة:
تعبتُ قليلًا… وسأرتاح.
رنّ الهاتف. كانت الخالةُ سُمَيّة. جاء صوتها متعبًا:
ما جاني نومٌ من بعد أمس. رجفةٌ غريبة ما فارقتني. عزمت أجيكم اليوم ومعي امرأة ثقة تقرأ بالرقية، ومعي ماء وزيت.
قالت الأم بهدوء:
أمي تكفينا، تعرف القراءة الصحيحة. تعالي على كل حال.
في الممرّ العُلوي، كانت هِند تستعد لتنظيف الغبار عن الرفّ الخشبي الطويل حيث تصطفّ عدة صورٍ عائلية: الأب في شبابه، الأم في حفلٍ قديم، الجدّة مع أطفالها، وصور متفرقة للأبناء في مراحل العمر. وقفت لحظةً تتأمل صورةً جمعت العائلة في يوم عيدٍ قديم، حيث الوجوه مضاءة بابتساماتٍ واسعة.
واذا بجميع ايطارات الصور تهتزّ وتقع.
شعرت بقشعريرةٍ تجري في ذراعيها، فأعادت الصور بسرعة إلى مكانها، وحاولت أن تُسكت قلبها بآيةٍ قصيرة. ثم تابعت المسح، لكنّ يديها ما عادت ثابتة كما كانت؛ كل إطار ترفعه يوحي بثقلٍ لا يليق بوزنه، كأنّ البيت كلّه يضغط من خلفه على تلك الذكريات.
سحبت نفسًا عميقًا، وأسرعت نحو السلم لتغادر الممر، تاركةً الصور متلاصقةً على الرف، كأنها تتناظر فيما بينها بصمتٍ غامض.
مع انكشاف الصبح قليلًا، رنّ جرس الباب الخارجي. فتحت هند، فإذا هي بأمّ سالم—جارةٍ كبيرة في السنّ، عُرفت بلسانٍ قليل وكفٍّ كثيرة. جلست حيث أشارت الأمّ، وبعد سلامٍ مقتصد قالت وهي تصلح عباءتها:
يا بنات، البارحة مرّ ولد ابني من قدّام بيتكم. يقول: النوافذ كلّها مفتوحة، وفيها ضوء خافت، وأجساد غريبة تطلّ منها بلا ملامح. تجمّد في مكانه من شدّة الهلع، ثم أسرع إليّ ليخبرني بما رأى.
ارتجف قلب سعاد، وقالت في سرّها: لو علموا بما رأيتُ… لزاد خوفهم. لكنها صمتت، وأخفت السرّ.
ساد صمتٌ ثقيل. رفعت الجَدّة رأسها وقالت بثبات:
سورةُ البقرة لا تُبقي للثِّقل مقامًا. افتحن الأبواب، ودَعن القراءة تمشي في البيت.
طلبت ماءً، قرأت عليه الفاتحة وآية الكرسي والمعوّذات، نفثت فيه قليلًا، وأعطته لابنتها لتوزعه عند الأبواب والزوايا. مشت الأم بخطواتٍ ثابتة في الممرّات، وهِند تتبعها بآياتٍ قصيرة. بدا البيت كأنّه يستمع، يستكين شيئًا فشيئًا تحت وطأة الذكر.
ومع غروب الشمس، هدأ كل شيء، لكن الهدوء لم يكن طمأنينة بل ترقّب. فجأةً ارتجفت الستارةُ عند الممرّ بقوّةٍ غريبة، كأن يدًا خفيّة اجتذبتها ثم تركتها. انطفأ الضوء لثوانٍ معدودة، وفي الظلام سُمِع طَرقٌ ثلاثيّ منبعث من داخل الجدار، لا من بابٍ ولا نافذة.
شهقت هند وأسقطت ما في يدها، أما الأم فأسرعت تتمتم: أعوذ بكلمات الله التامّات من شرّ ما خلق. ارتفع صوت الجَدّة أكثر، كأنها تجابه حضورًا خفيًّا:
— لن يجاوزكم ما دام الذكر عامرًا.
عاد الضوء شيئًا فشيئًا، لكن الصمت الذي أعقب ارتجاف الستارة كان أعمق من أن يُفسَّر بالهدوء..
وأمّا سعادُ، الفتاةُ التي كان جمالُها يوقظُ العيونَ والهمسَ معًا، فقد أثقلتها الزينةُ بما لا يُرى. امتدّت إليها يدٌ آثمةٌ فعقدت لها سحرًا أسود خفيًّا؛ عُقدٌ لا تُبصره الأعينُ لكنّه يربطُ الخُطا عند عتبة هذا البيت. من يومها تُفتح الأبوابُ وتُغلق، ويجيء الخُطّابُ ثم يرجعون بلا سببٍ مفهوم، كأنّ الطريق إليها أقصرُ من أن يُسلك وأطولُ من أن يُقطع. لم يمسّ السحرُ سعاد وحدها؛ مسّ البيتَ معها، فأضحى يلتقط أنفاسَ أهله ويُضاعف الصمت، ويُعيد صدى الهمس ولا يُسلّم مفاتيحَ الطمأنينة. لا تدري مَن فعل، لكنها تعرف أثره: قلبٌ يتثقّل عند الفرح، وحلمٌ يقف عند النافذة بلا شرفة، وبيتٌ قائم… لا يطلّ على شيء.

ليست كل البيوت تُبنى بالحجارة وحدها، فبعضها يُبنى بما يُخفى تحت الأرض التي تحملها. وهذا البيت…
لم يطلّ على شيء، لأنه وُضع على عتبةٍ بين عالمين.
إن مررتَ يومًا بجدارٍ صامت،
فإيّاك أن تظنّه لا يسمعك.
~
اسم الموضوع : ”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل السادس) الاخير.
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء
لكل قارئ مزاجه بين الإيحاء والتصريح، وسعيد أن وضوحي نال استحسانك هذه المرّة. تقديري الكبير لكِ ولمتابعتك الدائمة