“حين يُزهر الغياب”

“حين يُزهر الغياب”
الغيابُ ليس مجرد فراغٍ شاسع، بل هو حقولٌ من الانتظار تنمو في أعماقنا، تُزهر بالشوق حين نُحاول اقتلاعها، وتتجذر أكثر كلما حاولنا نسيانها. لا شيء يُشبه الغياب سوى صوت الريح حين تتحدث إلى النوافذ المغلقة، سوى الرسائل التي لا تجد طريقها إلى العنوان الصحيح، سوى اليد التي تمتد في الفراغ بحثًا عن كفٍّ كان هنا، ثم تلاشى.
إنه ذلك الشعور الذي يُراودنا عند الفجر، حين يكون الضوء هشًّا كأملٍ لم ينضج بعد، حين تبدو الطرقات كأنها تمتد بلا نهاية، وحين تلمع في الذاكرة وجوهٌ غابت لكنها لم ترحل تمامًا. فنحن لا ننسى، نحن فقط نتظاهر بأن الذكرى لم تطرق باب القلب في منتصف الليل، لم تهمس باسمٍ كدنا نصدّق أنه لم يعد يعنينا.
ولكن، أيكون الغيابُ حقًا غيابًا، أم أنه الحضورُ في صورةٍ أخرى؟ أيكون الغائبُ قد رحل عن العين، لكنه بقي حيث لا تطاله المسافات؟ البعض يظن أن الغيابَ انطفاء، لكنه في حقيقته توهّجٌ مختلف، حضورٌ أكثر وضوحًا من أي لقاءٍ عابر. فنحن لا نشتاق إلى الوجوه فحسب، بل إلى الدفء الذي صاحبها، إلى الشعور الذي صنعته فينا، إلى الأمان الذي كان يحيط بنا دون أن ندرك قيمته حتى صار أثرًا بعد عين.
والجمال؟
أليس هو الآخر وجهًا من وجوه الغياب؟ أليس الجمال الحقيقي هو ما نفتقده حين نفقده؟ نحن لا ندرك سحر الأشياء إلا بعد أن تبتعد، لا نرى النور إلا حين ينطفئ، لا نشعر بطعم اللحظة إلا بعد أن تصير ذكرى. الجمال هو الحلم الذي لا يُدرك بالكامل، هو الشيء الذي كلما اقتربنا منه، أفلت كالماء من بين أصابعنا. ولذلك، حين نقول “كان جميلًا”، فإننا نعني “كان بعيدًا بما يكفي ليبقى خالدًا في أعيننا”.
أما المستحيل، فهو الابن الأكبر للغياب، ظلّه الممتد عبر الأفق، الحاجز الذي يفصل بين “ما كان” و”ما لن يكون”. لكنه ليس قوةً مطلقة، بل وهمٌ صنعناه بأنفسنا، لأننا لم نجرؤ على السير نحو ما نريد. كثيرًا ما أسمينا الممكن مستحيلًا، فقط لأننا لم نشأ أن نحارب من أجله، لأننا خشينا أن نحترق حين نقترب من الضوء، لأننا اعتدنا أن نعيش في هوامش الأحلام بدلاً من أن نكون أبطالها.
ومع ذلك، هناك شيءٌ واحدٌ لا يعترف لا بالغياب، ولا بالمستحيل، ولا بحدود الزمن: الوعد. الوعدُ الصادق هو النجمة التي لا تتبدد في العاصفة، هو الجسر الذي لا تهدمه السنوات، هو الحقيقة الوحيدة التي تبقى حين ينهار كل شيء. الذين وعدوا بصدقٍ لا يخذلون، لا ينسون، لا يتوارون في الزحام. قد يأخذهم الوقت بعيدًا، قد تبتلعهم الأيام في دوامة الحياة، لكنهم يعودون، تمامًا كما يعود النهر إلى مجراه، كما تعود الطيور إلى أعشاشها القديمة، وكما تعود الشمس، ولو بعد ليلٍ طويل.
وإلى الذين انتظروا، ولم يخونهم الصبر، وإلى الذين احتضنوا وعودهم كما يُحتضن طفلٌ في مهد الرجاء، إليهم وحدهم يُزهر الغياب، لا كحزنٍ، بل كمعجزةٍ تأبى أن تذبل، وكقصةٍ تُروى على عتبات اللقاء الأخير، حيث ينتهي الترقب، ويبدأ الدفء من جديد.
اسكادا
الغيابُ ليس مجرد فراغٍ شاسع، بل هو حقولٌ من الانتظار تنمو في أعماقنا، تُزهر بالشوق حين نُحاول اقتلاعها، وتتجذر أكثر كلما حاولنا نسيانها. لا شيء يُشبه الغياب سوى صوت الريح حين تتحدث إلى النوافذ المغلقة، سوى الرسائل التي لا تجد طريقها إلى العنوان الصحيح، سوى اليد التي تمتد في الفراغ بحثًا عن كفٍّ كان هنا، ثم تلاشى.
إنه ذلك الشعور الذي يُراودنا عند الفجر، حين يكون الضوء هشًّا كأملٍ لم ينضج بعد، حين تبدو الطرقات كأنها تمتد بلا نهاية، وحين تلمع في الذاكرة وجوهٌ غابت لكنها لم ترحل تمامًا. فنحن لا ننسى، نحن فقط نتظاهر بأن الذكرى لم تطرق باب القلب في منتصف الليل، لم تهمس باسمٍ كدنا نصدّق أنه لم يعد يعنينا.
ولكن، أيكون الغيابُ حقًا غيابًا، أم أنه الحضورُ في صورةٍ أخرى؟ أيكون الغائبُ قد رحل عن العين، لكنه بقي حيث لا تطاله المسافات؟ البعض يظن أن الغيابَ انطفاء، لكنه في حقيقته توهّجٌ مختلف، حضورٌ أكثر وضوحًا من أي لقاءٍ عابر. فنحن لا نشتاق إلى الوجوه فحسب، بل إلى الدفء الذي صاحبها، إلى الشعور الذي صنعته فينا، إلى الأمان الذي كان يحيط بنا دون أن ندرك قيمته حتى صار أثرًا بعد عين.
والجمال؟
أليس هو الآخر وجهًا من وجوه الغياب؟ أليس الجمال الحقيقي هو ما نفتقده حين نفقده؟ نحن لا ندرك سحر الأشياء إلا بعد أن تبتعد، لا نرى النور إلا حين ينطفئ، لا نشعر بطعم اللحظة إلا بعد أن تصير ذكرى. الجمال هو الحلم الذي لا يُدرك بالكامل، هو الشيء الذي كلما اقتربنا منه، أفلت كالماء من بين أصابعنا. ولذلك، حين نقول “كان جميلًا”، فإننا نعني “كان بعيدًا بما يكفي ليبقى خالدًا في أعيننا”.
أما المستحيل، فهو الابن الأكبر للغياب، ظلّه الممتد عبر الأفق، الحاجز الذي يفصل بين “ما كان” و”ما لن يكون”. لكنه ليس قوةً مطلقة، بل وهمٌ صنعناه بأنفسنا، لأننا لم نجرؤ على السير نحو ما نريد. كثيرًا ما أسمينا الممكن مستحيلًا، فقط لأننا لم نشأ أن نحارب من أجله، لأننا خشينا أن نحترق حين نقترب من الضوء، لأننا اعتدنا أن نعيش في هوامش الأحلام بدلاً من أن نكون أبطالها.
ومع ذلك، هناك شيءٌ واحدٌ لا يعترف لا بالغياب، ولا بالمستحيل، ولا بحدود الزمن: الوعد. الوعدُ الصادق هو النجمة التي لا تتبدد في العاصفة، هو الجسر الذي لا تهدمه السنوات، هو الحقيقة الوحيدة التي تبقى حين ينهار كل شيء. الذين وعدوا بصدقٍ لا يخذلون، لا ينسون، لا يتوارون في الزحام. قد يأخذهم الوقت بعيدًا، قد تبتلعهم الأيام في دوامة الحياة، لكنهم يعودون، تمامًا كما يعود النهر إلى مجراه، كما تعود الطيور إلى أعشاشها القديمة، وكما تعود الشمس، ولو بعد ليلٍ طويل.
وإلى الذين انتظروا، ولم يخونهم الصبر، وإلى الذين احتضنوا وعودهم كما يُحتضن طفلٌ في مهد الرجاء، إليهم وحدهم يُزهر الغياب، لا كحزنٍ، بل كمعجزةٍ تأبى أن تذبل، وكقصةٍ تُروى على عتبات اللقاء الأخير، حيث ينتهي الترقب، ويبدأ الدفء من جديد.
اسكادا
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : “حين يُزهر الغياب”
|
المصدر : خواطر بريشة الاعضاء