”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل الخامس)

”بين الاثر والهواء“
صعدتْ سعادُ الدَّرَج ببطءٍ محسوب، وفي صدرها سؤالٌ لا يجد مقعدًا. كان نداءُ الجَدّة آنفًا هادئًا كعادته، لكن وقعَ الخطوات على الخشب بدا لها كأنه يختبر وزنها؛ هل هي أثقل بما رأت، أم أخفّ بما لم يُثبت؟
دخلت غرفة الجَدّة. المشهد كما تركته في آخر النهار: المصحفُ مُغلقٌ برفق، السُّبحةُ تستريح في حِجر الثوب، وكوبُ ماءٍ مغطّى بآيةٍ للحفظ. نظرت الجَدّة إليها وقالت:
تعالي، يا بنتي.
جلست سعادُ عند حافة السرير. في ملامح الجَدّة ما يطمئنُ القلب وما يربكه معًا؛ ذلك الصفاء الذي يراكِ أكثرَ مما يسمعك. مدّت كفّها على رأس سعاد، ومسحت شعرها بحنانٍ لا يسأل:
ماذا بكِ يا أبنتي… وجهُكِ لا يطمئن.
ابتلعت سعاد ريقها. لم تخبرها شيئًا؛ لم تقل إن يدًا حارّة لامست يدها عند الرفّ، وإن الغروب فقد لونه للحظة، وإنها سقطت دون كلمة.
تمنت أن تقول: أخاف أن يكون ما رأيتُ حقيقةً بلا دليل، أو حلمًا بآثارٍ لا تزول… لكنها اكتفت بالصمت.
أطبقت الجدةُ عينيها قليلًا، وراحت تتمتم بآياتٍ متتابعة؛ كانت الكلمات تسيل على جبين سعاد كندى بارد. ارتجفت، ثم انحلّ شيءٌ مكظوم في صدرها، فبكت. لم يكن بكاء اعتذار، بل بكاء جسدٍ أُزيح عنه حجر. ظلّت الجدة تقرأ وتنفث بخفةٍ على كفّيها، حتى ثقلَ رأسُ سعاد ونامت على صدرها، كما ينام الخائف على أمانٍ يعرفه ولا يستطيع أن يشرحه.
نورة — صديقة لا تهدأ
حين أقبل المغرب وأبطأت الرسائل في هاتف نورة بلا جواب، غلبها القلق فقرّرت أن تمرّ. استقبلتها أمُّ سعاد بابتسامةٍ مضمومة:
سعاد نايمة، يا بنتي. تعبانة شوي اليوم.
ما عليه… بس أتطّمن.
جلست حيث دُعيت. فنجان قهوة، وطبق تمر، وكلمات أمٍّ تحرص على الصورة: عن الجامعة، عن الشغل، وعن «هالأيام». كانت نورة تصغي بعينٍ وتبحث بالأخرى عن خبرٍ صغير يطمئن.
بينها وبين أمّ سعاد دلّةٌ مذهَّبة مصقولة، كان سطحها المحدَّب يعكس المجلس كلَّه: السجادة، ظلّ الثريّا، ويد الأم وهي تصب. وفي ذلك الانعكاس لمحت نورة ظلًّا عابرًا مرَّ سريعًا خلف كتفها، كأن أحدًا تحرّك في الممر. رفعت رأسها على عجل… فلم تجد أحدًا.
قالت الأم لتكسر الصمت:
كيف دكاترة المادة الفلانية؟
ابتسمت نورة وأجابت بإيجازٍ مهذّب، وقلبها معلّق بالهاتف: وينكِ؟ ردّي. كتبتها ولم ترسلها.
تجرّأت بلطف:
لو تسمحين… أطالعها وهي نايمة من الباب؟ بس أطمن.
هزّت الأم رأسها نافيةً برفق:
خليها تاخذ راحتها، يا بنتي. صحتها أهم.
عند قيامها، مرّ نظر نورة على المرآة المستطيلة في طرف المجلس؛ انعكس فيها الممرّ المؤدّي إلى غرف النوم. في العمق تحرّكت ستارةٌ بيضاء وحدها ثم هدأت، وذابت عند العتبة هيئةُ ظلٍّ قصير كما يذوب نَفَسٌ على زجاج. بردت أطراف نورة. وضعت الفنجان وقالت:
أستأذن… بكرة أمرّ عليكم إن شاء الله.
رافقتها الأم إلى الباب. في ايطاره اللامع لمحت نورة انعكاس الممر يلمع ويخبو كنفَسٍ سريع، فعجّلت بالخروج وهمست في سرّها وهي تعبر العتبة:
يا رب… احفظ سعاد.
الخالةُ سُمَيّة — زيارة لم تكتمل
بعد قليل، جاءت الخالة سُمَيّة بعباءةٍ سادة ووقارٍ يعرف حدود المجالس. صافحت الأم وجلست في المجلس الملحق بالصالة حيث تعبق رائحة القهوة وتُفتتح الجلسة بكلمات مجاملة سريعة. تبادلتا سؤالين عن الصحّة والأحوال، ثم ناوَلتها الأم فنجانًا. رفعت سُمَيّة الفنجان، ولمّا مالت به إلى الشفتين توقّفت فجأة: في آخر الممرّ اهتزّت ستارةُ نافذةٍ مغلقة بإحكام، كأن دفعة هواءٍ غير مرئية دفعتها بقوّة.
ابتسمت لتغطي ارتباكها وقالت بلطف:
ما شاء الله… البيت عامر.
أشارت الأم نحو الأعلى:
سعاد نايمة من بدري… تعبانة شوي.
عادت سُمَيّة بعينيها إلى الفنجان وأتمّت رشفتها على مهل، لكن قلبها ظلّ معلّقًا بذلك الاهتزاز. أعادت الفنجان إلى موضعه بعنايةٍ زائدة، ثم قالت بابتسامةٍ أقصر من العادة:
أستأذن يا أختي… لي عودة إن شاء الله.
بدري يا سُمَيّة… ما بعد جلسنا!
اليوم أخلّيكم… وبكرة أمرّ عليكم.
وهي تتّجه إلى الباب مرّت ثانيةً بجوار الستارة نفسها؛ تحرّكت مرّة أخرى رغم أن النافذة محكمة الإغلاق. سبقت خطاها همهمةٌ هادئة—آيةٌ قصيرة على نبرة رُقيةٍ مألوفة، لا تُتلى بلسان ظاهر، بل كأن مجرى الهواء يردّدها ليعتدل. وضعت سُمَيّة كفّها على صدرها وهمست:
اللهمّ سكينة.
قبّلت رأس أمِّ سعاد وقالت بنبرةٍ تُغلق الكلام ولا تفتحه:
غداً اراكِ… وغادرت.
الأخ — رفيق العتمة
بعد خروج سُمَيّة بقليل، هدأ المجلس، لكن السكون لم يَستَوِ تمامًا. في الأسفل، جلس الأخ في عزلته يتصفّح أوراقه. التفت بغير وعي إلى الطاولة الجانبية، فرأى الفنجان الفارغ يهتزّ على سطحها بخفّة كأن أحدًا مرّ بجواره ودفعه. رفع رأسه بسرعة، فلم يجد أحدًا. مدّ يده يثبّت الفنجان في مكانه، وبقي يحدّق طويلًا في الممرّ الصامت قبل أن يشيح بوجهه نحو العتمة.
الخادمة — والممرّ العُلوي
في الممر العُلوي، كانت الخادمة تمرّ لتطفئ آخر مصباحٍ في الممرّ. رفعت رأسها إلى صورة بروازها ذهبي، فإذا بظلٍّ قصيرٍ يمرّ على الجدار ثم يختفي. توقّفت لحظة، ظنّت أن عينيها خدعتاها، لكنّها رأت البرواز يهتزّ ارتجافًا خفيفًا. شهقت وكتمت صوتها، ثم أسرعت نحو الدرج وهي تهمس:
أستغفر الله… أستغفر الله.
عند ذلك، تنفّس البيت زفرةً طويلة امتدّت من الأعلى إلى الأسفل، كأن الجدران نفسها أفرغت صدرها دفعةً واحدة. سكنت الستارة، واستقام الهواء، وبقيت لمبةٌ بعيدة تلمع مثل نجمةٍ ضئيلة على سقفٍ عالٍ. في غرفة الجَدّة، نامت سعاد بعمقٍ لا تدري به. وفي الأسفل، ظلّ الأخ لحظاتٍ يراقب العتمة قبل أن يغلق أوراقه. وبينهما، بيتٌ كبير لا يطلّ على شيء… لكنه يترك في قلب الداخل إليه أثرًا لا يُسمّى، بين الطمأنينة والريبة
-نهاية الفصل الخامس-
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : ”البيت الذي لايطل على شيء“ (الفصل الخامس)
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء



