تواصل معنا

قطوف من مدارج السالكين **********:: فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْخِطَابِ الْمَسْمُوعِ: خِطَابُ الْهَوَاتِفِ مِنَ الْجَانِّ، وَقَدْ يَكُونُ...

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
**********::
فَصْلٌ:
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْخِطَابِ الْمَسْمُوعِ:
خِطَابُ الْهَوَاتِفِ مِنَ الْجَانِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخَاطِبُ جِنِّيًّا مُؤْمِنًا صَالِحًا، وَقَدْ يَكُونُ شَيْطَانًا، وَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا:
أَنْ يُخَاطِبَهُ خِطَابًا يَسْمَعُهُ بِأُذُنِهِ.
وَالثَّانِي:
أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ عِنْدَمَا يُلِمُّ بِهِ، وَمِنْهُ وَعْدُهُ وَتَمْنِيَتُهُ حِينَ يَعِدُ الْإِنْسِيَّ وَيُمَنِّيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]
وَقَالَ:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]
وَلِلْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ نَصِيبٌ، وَلِلْأُذُنِ أَيْضًا مِنْهُ نَصِيبٌ، وَالْعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ إِلَّا عَنِ الرُّسُلِ، وَمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ.
فَمِنْ أَيْنَ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ رَحِمَانِيٌّ، أَوْ مَلَكِيٌّ؟
بِأَيِّ بُرْهَانٍ؟
أَوْ بِأَيِّ دَلِيلٍ؟
وَالشَّيْطَانُ يَقْذِفُ فِي النَّفْسِ وَحْيَهُ، وَيُلْقِي فِي السَّمْعِ خِطَابَهُ، فَيَقُولُ الْمَغْرُورُ الْمَخْدُوعُ:
قِيلَ لِي وَخُوطِبْتُ، صَدَقْتَ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْقَائِلِ لَكَ وَالْمُخَاطِبِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ:
إِنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمِعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ. فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ؟ .
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
×***
فَصْلٌ:
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
خِطَابٌ حَالِيٌّ، تَكُونُ بِدَايَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَعَوْدُهُ إِلَيْهَا، فَيَتَوَهَّمُهُ مِنْ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، مِنْهَا بَدَأَ وَإِلَيْهَا يَعُودُ.
وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِ، فَيَغْلَطُ فِيهِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ، كَلَّمَهُ بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَسَبَبُ غَلَطِهِ أَنَّ اللَّطِيفَةَ الْمُدْرِكَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِذَا صَفَتْ بِالرِّيَاضَةِ، وَانْقَطَعَتْ عُلَقُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ الْكَثِيفَةِ صَارَ الْحَكَمُ لَهَا بِحُكْمِ اسْتِيلَاءِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ عَلَى الْبَدَنِ، وَمَصِيرُ الْحُكْمِ لَهُمَا، فَتَنْصَرِفُ عِنَايَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ إِلَى تَجْرِيدِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهِمَا، وَتَشْتَدُّ عِنَايَةُ الرُّوحِ بِهَا، وَتَصِيرُ فِي مَحَلِّ تِلْكَ الْعَلَائِقِ وَالشَّوَاغِلِ، فَتَمْلَأُ الْقَلْبَ، فَتَنْصَرِفُ تِلْكَ الْمَعَانِي إِلَى الْمَنْطِقِ وَالْخِطَابِ الْقَلْبِيِّ الرُّوحِيِّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيَتَّفِقُ تَجَرُّدُ الرُّوحِ، فَتُشَكَّلُ تِلْكَ الْمَعَانِي لِلْقُوَّةِ السَّامِعَةِ بِشَكْلِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَلِلْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ بِشَكْلِ الْأَشْخَاصِ الْمَرْئِيَّةِ، فَيَرَى صُوَرَهَا، وَيَسْمَعُ الْخِطَابَ، وَكُلُّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى وَسَمِعَ، وَصَدَّقَ، لَكِنْ رَأَى وَسَمِعَ فِي الْخَارِجِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ. وَيَتَّفِقُ ضَعْفُ التَّمْيِيزِ، وَقِلَّةُ الْعِلْمِ، وَاسْتِيلَاءُ تِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى الرُّوحِ، وَتَجَرُّدُهَا عَنِ الشَّوَاغِلِ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ هِيَ وُجُوهُ الْخِطَابِ، وَمَنْ سَمَّعَ نَفْسَهُ غَيْرَهَا فَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ، وَخَدْعٌ وَتَلْبِيسٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَقْطَعُ الْقَوْلِ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَوَاضِعِ لِمَنْ حَقَّقَهُ وَفَهِمَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
///////////////////

فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِلْهَامٌ يَقَعُ عِيَانًا

قَالَ:
" الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِلْهَامٌ يَقَعُ عِيَانًا، وَعَلَامَةُ صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرًا، وَلَا يُجَاوِزُ حَدًّا، وَلَا يُخْطِئُ أَبَدًا ".
الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِلْهَامِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى:
أَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ شَبِيهٌ بِالضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنِ الْقَلْبِ، وَهَذَا مُعَايَنَةٌ وَمُكَاشَفَةٌ، فَهُوَ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ، وَأَتَمُّ مِنْهُ ظُهُورًا، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ نِسْبَةُ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَذَكَرَ لَهُ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ:
إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرًا، أَيْ صَاحِبُهُ إِذَا كُوشِفَ بِحَالٍ غَيْرِ الْمَسْتُورِ عَنْهُ لَا يَخْرِقُ سِتْرَهُ وَيَكْشِفُهُ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، أَوْ أَنَّهُ لَا يَخْرِقُ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ، بَلْ يَسْتُرُ نَفْسَهُ، وَيَسْتُرُ مَنْ كُوشِفَ بِحَالِهِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ حَدًّا، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَتَجَاوُزِ حُدُودِ اللَّهِ، مِثْلَ الْكُهَّانِ، وَأَصْحَابِ الْكَشْفِ الشَّيْطَانِيِّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى خِلَافِ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَتَجَسَّسَ بِهِ عَلَى الْعَوْرَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ عَلَيْهَا وَتَتَبُّعِهَا، فَإِذَا تَتَبَّعَهَا وَقَعَ عَلَيْهَا بِهَذَا الْكَشْفِ، فَهُوَ شَيْطَانِيٌّ لَا رَحِمَانِيٌّ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يُخْطِئُ أَبَدًا، بِخِلَافِ الشَّيْطَانِيِّ، فَإِنَّ خَطَأَهُ كَثِيرٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَائِدٍ:
«مَا تَرَى؟
قَالَ: أَرَى صَادِقًا وَكَاذِبًا.
فَقَالَ: لَبَّسَ عَلَيْكَ»
فَالْكَشْفُ الشَّيْطَانِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبَ، وَلَا يَسْتَمِرُّ صِدْقُهُ الْبَتَّةَ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
***************

فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا

فَصْلٌ

قَالَ:
" الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ:
إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا، وَيَنْطِقُ عَنْ عَيْنِ الْأَزَلِ مَحْضًا، وَالْإِلْهَامُ غَايَةٌ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا ".
عَيْنُ التَّحْقِيقِ عِنْدَهُ هِيَ الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا سِوَاهَا فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ، وَتَعُودُ الرُّسُومُ أَعْدَامًا مَحْضَةً، فَالْإِلْهَامُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَجْلُو هَذَا الْعَيْنَ لِلْمُلْهَمِ صَرْفًا، بِحَيْثُ لَا يُمَازِجُهَا شَيْءٌ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ وَلَا الْحَوَاسِّ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ لَمْ يَتَمَحَّضْ جَلَاءُ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَالنَّاطِقُ عَنْ هَذَا الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مَعَهُ، وَمُشَارِكٌ لَهُ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ هَذَا الْكَشْفِ أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ عَنْهُ فِي حِجَابٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَالْحَالَ حُجُبٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ خِطَابَ الْخَلْقِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى لِسَانِ الْحِجَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ لُغَةَ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَحْجُوبِ، فَلِذَلِكَ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ وَالْعِبَارَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْإِلْهَامِ أَنَّهُ إِلْهَامٌ تَرْتَفِعُ مَعَهُ الْوَسَائِطُ وَتَضْمَحِلُّ وَتُعْدَمُ، لَكِنْ فِي الشُّهُودِ لَا فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْمِحْلَالًا وَعَدَمًا فِي الْوُجُودِ، وَيَجْعَلُونَ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ عَقْلًا وَدِينًا وَحَالًا وَمَعْرِفَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
 
Comment

رااشد

الصبر طيب شهب الغابة المضيئ 💎
عضو مميز
إنضم
5 يونيو 2022
المشاركات
52,209
مستوى التفاعل
11,654
مجموع اﻻوسمة
11
قطوف من مدارج السالكين
جزااك الله خير
اخ جاروط بارك
الله بك
 
1 Comment
جاروط
جاروط commented
و إياكم يارب 😍
 

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
*****************

[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ]

فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ مَرَاتِبَ الْهِدَايَةِ:
الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ

وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» .
وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ:
إِنَّ أَوَّلَ مُبْتَدَأِ الْوَحْيِ كَانَ هُوَ الرُّؤيَا الصَّادِقَةُ، وَذَلِكَ نِصْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ مُدَّةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَةُ مُدَّةِ الْوَحْيِ فِي الْمَنَامِ مِنْ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَهَذَا حَسَنٌ، لَوْلَا مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ "
«إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا» ".

وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا:
إِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي، فَإِنَّ رُؤْيَا الصِّدِّيِقِينَ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَرُؤْيَا عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقَةَ مِنْ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالرُّؤْيَا مَبْدَأُ الْوَحْيِ، وَصِدْقُهَا بِحَسَبِ صِدْقِ الرَّائِي، وَأَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَهِيَ عِنْدَ اقْتِرَابِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ تُخْطِئُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالنُّبُوَّةِ وَآثَارِهَا، فَيَتَعَوَّضُ الْمُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَا، وَأَمَّا فِي زَمَنِ قُوَّةِ نُورِ النُّبُوَّةِ فَفِي ظُهُورِ نُورِهَا وَقُوَّتِهِ مَا يُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَا.

وَنَظِيرُ هَذَا الْكَرَامَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَاحْتِيَاجِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَيْهَا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ:
رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ.
قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ»
وَإِذَا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكْذِبْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ:
«أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» .
وَالرُّؤْيَا كَالْكَشْفِ، مِنْهَا رَحِمَانِيُّ، وَمِنْهَا نَفْسَانِيُّ، وَمِنْهَا شَيْطَانِيُّ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ، فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ» .
وَالَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ:
هُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً.

وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا أَقْدَمَ الْخَلِيلُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالرُّؤْيَا.
وَأَمَّا رُؤْيَا غَيْرِهِمْ فَتُعْرَضُ عَلَى الْوَحْيِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْمَلْ بِهَا.

فَإِنْ قِيلَ:
فَمَا تَقُولُونَ إِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةٌ، أَوْ تَوَاطَأَتْ؟ .
قُلْنَا: مَتَّى كَانَتْ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ مُخَالَفَتُهَا لِلْوَحْيِ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُطَابِقَةً لَهُ، مُنَبِّهَةً عَلَيْهِ، أَوْ مُنَبِّهَةً عَلَى انْدِرَاجِ قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي حُكْمِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الرَّائِي انْدِرَاجَهَا فِيهِ، فَيَتَنَبَّهُ بِالرُّؤْيَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ تُصَدَّقَ رُؤْيَاهُ فَلْيَتَحَرَّ الصِّدْقَ وَأَكْلَ الْحَلَالِ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلْيَنَمْ عَلَى طِهَارَةٍ كَامِلَةٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكَادُ تَكْذِبُ الْبَتَّةَ.

وَأَصْدَقُ الرُّؤْيَا: رُؤْيَا الْأَسْحَارِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ، وَاقْتِرَابِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَسُكُونِ الشَّيَاطِينِ، وَعَكْسُهُ رُؤْيَا الْعَتْمَةِ، عِنْدَ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ وَالْأَرْوَاحِ الشَّيْطَانِيَّةِ.
وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ.

وَلِلرُّؤْيَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا، يُرِيهَا الْعَبْدَ فِي أَمْثَالٍ تُنَاسِبُهُ وَتُشَاكِلُهُ، فَيَضْرِبُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ:
" الرُّؤْيَا مِنَ الْوَحْيِ وَحْيٌ "، وَزَجَرَ عَنْ تَفْسِيرِهَا بِلَا عِلْمٍ، وَقَالَ:
أَتَتَلَاعَبُ بِوَحْيِ اللَّهِ؟

وَلِذِكْرِ الرُّؤْيَا وَأَحْكَامِهَا وَتَفَاصِيلِهَا وَطُرُقِ تَأْوِيلِهَا مَظَانُّ مَخْصُوصَةٌ بِهَا، يُخْرِجُنَا ذِكْرُهَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
*****************

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْشِفَاءَيْنِ شِفَاءِ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الْأَبْدَانِ]

[اشْتِمَالُهَا عَلَى شِفَاءِ الْقُلُوبِ]

فَصْلٌ فِي بَيَانِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْشِفَاءَيْنِ شِفَاءِ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الْأَبْدَانِ.

فَأَمَّا اشْتِمَالُهَا عَلَى شِفَاءِ الْقُلُوبِ:
فَإِنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَتَمَّ اشْتِمَالٍ، فَإِنَّ مَدَارَ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَأَسْقَامِهَا عَلَى أَصْلَيْنِ:
فَسَادِ الْعِلْمِ، وَفَسَادِ الْقَصْدِ.

وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا دَاءَانِ قَاتِلَانِ:
وَهُمَا الضَّلَالُ وَالْغَضَبُ، فَالضَّلَالُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْعِلْمِ، وَالْغَضَبُ نَتِيجَةُ فَسَادِ الْقَصْدِ، وَهَذَانَ الْمَرَضَانِ هُمَا مِلَاكُ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ جَمِيعِهَا.
فَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ تَتَضَمَّنُ الشِّفَاءَ مِنْ مَرَضِ الضَّلَالِ، وَلِذَلِكَ كَانَ سُؤَالُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ أَفْرَضَ دُعَاءٍ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ، وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، لِشِدَّةِ ضَرُورَتِهِ وَفَاقَتِهِ إِلَى الْهِدَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُ هَذَا السُّؤَالِ مَقَامَهُ.
وَالتَّحَقُّقُ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] عِلْمًا وَمَعْرِفَةً، وَعَمَلًا وَحَالًا يَتَضَمَّنُ الشِّفَاءَ مِنْ مَرَضِ فَسَادِ الْقَلْبِ وَالْقَصْدِ.
فَإِنَّ فَسَادَ الْقَصْدِ يَتَعَلَّقُ بِالْغَايَاتِ وَالْوَسَائِلِ، فَمَنْ طَلَبَ غَايَةً مُنْقَطِعَةً مُضْمَحِلَّةً فَانِيَةً، وَتَوَسَّلَ إِلَيْهَا بِأَنْوَاعِ الْوَسَائِلِ الْمُوَّصِلَةِ إِلَيْهَا كَانَ كِلَا نَوْعِي قَصْدِهِ فَاسِدًا، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ كَانَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ غَيْرَ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمُتَّبِعِي الشَّهَوَاتِ، الَّذِينَ لَا غَايَةَ لَهُمْ وَرَاءَهَا، وَأَصْحَابِ الرِّيَاسَاتِ الْمُتَّبِعِينَ لِإِقَامَةِ رِيَاسَتِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِذَا جَاءَ الْحَقُّ مُعَارِضًا فِي طَرِيقِ رِيَاسَتِهِمْ طَحَنُوهُ وَدَاسُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ دَفَعُوهُ دَفْعَ الصَّائِلِ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ حَبَسُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَحَادُوا عَنْهُ إِلَى طَرِيقٍ أُخْرَى، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لِدَفْعِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا أَعْطَوْهُ السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ وَعَزَلُوهُ عَنِ التَّصَرُّفِ وَالْحُكْمِ وَالتَّنْفِيذِ.
وَإِنْ جَاءَ الْحَقُّ نَاصِرًا لَهُمْ وَكَانَ لَهُمْ صَالُوا بِهِ وَجَالُوا، وَأَتَوْا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، لَا لِأَنَّهُ حَقٌّ، بَلْ لِمُوَافَقَتِهِ غَرَضَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ، وَانْتِصَارِهِمْ بِهِ
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48] .
وَالْمَقْصُودُ:
أَنَّ قَصْدَ هَؤُلَاءِ فَاسِدٌ فِي غَايَاتِهِمْ وَوَسَائِلِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا بَطَلَتِ الْغَايَاتُ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَاضْمَحَلَّتْ وَفَنِيَتْ، حَصَلُوا عَلَى أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ وَالْحَسَرَاتِ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ نَدَامَةً وَتَحَسُّرًا إِذَا حَقَّ الْحَقُّ وَبَطَلَ الْبَاطِلُ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُ الْوَصْلِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَتَيَقَّنُوا انْقِطَاعَهُمْ عَنْ رَكْبِ الْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ، وَهَذَا يَظْهَرُ كَثِيرًا فِي الدُّنْيَا، وَيَظْهَرُ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الرَّحِيلِ مِنْهَا وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، وَيَشْتَدُّ ظُهُورُهُ وَتَحَقُّقُهُ فِي الْبَرْزَخِ، وَيَنْكَشِفُ كُلَّ الِانْكِشَافِ يَوْمَ اللِّقَاءِ، إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَفَازَ الْمُحِقُّونَ وَخَسِرَ الْمُبْطِلُونَ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، وَكَانُوا مَخْدُوعِينَ مَغْرُورِينَ، فِيَالَهُ هُنَاكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ عَالِمَهُ، وَيَقِينٍ لَا يُنْجِي مُسْتَيْقِنَهُ.
🌹 يتبع 1

 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَبَ الْغَايَةَ الْعُلْيَا وَالْمَطْلَبَ الْأَسْمَى، وَلَكِنْ لَمْ يَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِالْوَسِيلَةِ الْمُوَصِّلَةِ لَهُ وَإِلَيْهِ، بَلْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِوَسِيلَةٍ ظَنَّهَا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاطِعِ عَنْهُ، فَحَالُهُ أَيْضًا كَحَالِ هَذَا، وَكِلَاهُمَا فَاسِدُ الْقَصْدِ، وَلَا شِفَاءَ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ إِلَّا بِدَوَاءِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ".
فَإِنَّ هَذَا الدَّوَاءَ مُرَكَّبٌ مِنْ سِتَّةِ أَجْزَاءٍ:
(1) عُبُودِيَّةِ اللَّهِ لَا غَيْرِهِ
(2) بِأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ
(3) لَا بِالْهَوَى
(4) وَلَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَأَوْضَاعِهِمْ، وَرُسُومِهِمْ، وَأَفْكَارِهِمْ
(5) بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى عُبُودِيَّتِهِ بِهِ
(6) لَا بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ.
فَهَذِهِ هِيَ أَجْزَاءُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِذَا رَكَّبَهَا الطَّبِيبُ اللَّطِيفُ، الْعَالِمُ بِالْمَرَضِ، وَاسْتَعْمَلَهَا الْمَرِيضُ، حَصَلَ بِهَا الشِّفَاءُ التَّامُّ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشِّفَاءِ فَهُوَ لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَلْبَ يَعْرِضُ لَهُ مَرَضَانِ عَظِيمَانِ، إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُمَا الْعَبْدُ تَرَامَيَا بِهِ إِلَى التَّلَفِ وَلَا بُدَّ، وَهُمَا :
الرِّيَاءُ، وَالْكِبْرُ
فَدَوَاءُ الرِّيَاءِ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَدَوَاءُ الْكِبْرِ بِ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .

وَكَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] تَدْفَعُ الرِّيَاءَ.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تَدْفَعُ الْكِبْرِيَاءَ.
فَإِذَا عُوفِيَ مِنْ مَرَضِ الرِّيَاءِ بِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وَمِنْ مَرَضِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُجْبِ بِ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَمِنْ مَرَضِ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ بِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] عُوفِيَ مِنْ أَمْرَاضِهِ وَأَسْقَامِهِ، وَرَفَلَ فِي أَثْوَابِ الْعَافِيَةِ، وَتَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَكَانَ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَعَدَلُوا عَنْهُ وَالضَّالِّينَ وَهُمْ أَهْلُ فَسَادِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ جَهِلُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَحُقَّ لِسُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذَيْنِ الْشِفَاءَيْنِ أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ كُلِّ مَرَضٍ، وَلِهَذَا لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى هَذَا الشِّفَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْشِفَاءَيْنِ، كَانَ حُصُولُ الشِّفَاءِ الْأَدْنَى بِهَا أَوْلَى، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، فَلَا شَيْءَ أَشَفَى لِلْقُلُوبِ الَّتِي عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَفَهِمَتْ عَنْهُ فَهْمًا خَاصًّا، اخْتَصَّهَا بِهِ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ السُّورَةِ.
وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَضَمُّنَهَا لِلرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِأَوْضَحِ الْبَيَانِ وَأَحْسَنِ الطُّرُقِ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
*****************
[تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ]

فَصْلٌ

وَأَمَّا تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمَا شَهِدَتْ بِهِ قَوَاعِدُ الطِّبِّ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ.
فَأَمَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ:
فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:
«أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ، وَلِمَ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا:
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رُقْيَةٍ، أَوَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟
فَقَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَمْ تُقِرُّونَا، فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَطِيعًا مِنَ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَامَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَلْبَةٌ، فَقُلْنَا:
لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:
مَا يُدْرِيكَم أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ كُلُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ.»
فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حُصُولَ شِفَاءِ هَذَا اللَّدِيغِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ، فَأَغْنَتْهُ عَنِ الدَّوَاءِ، وَرُبَّمَا بَلَغَتْ مِنْ شِفَائِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّوَاءُ.

هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمَحَلِّ غَيْرَ قَابِلٍ، إِمَّا لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ الْحَيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلَ بُخْلٍ وَلُؤْمٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
قطوف من مدارج السالكين
***************

فَصْلٌ:
وَأَمَّا شَهَادَةُ قَوَاعِدِ الطِّبِّ بِذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّدْغَةَ تَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْحُمَاتِ وَالسُّمُومِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، تُثِيرُ فِيهَا سُمِيَّةً نَارِيَّةً، يَحْصُلُ بِهَا اللَّدْغُ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ خُبْثِ تِلْكَ النُّفُوسِ وَقُوَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِذَا تَكَيَّفَتْ أَنْفُسُهَا الْخَبِيثَةُ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْغَضَبِيَّةِ أَحْدَثَ لَهَا ذَلِكَ طَبِيعَةً سُمِّيَّةً، تَجِدُ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِلْقَائِهَا إِلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، كَمَا يَجِدُ الشِّرِّيرُ مِنَ النَّاسِ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِيصَالِ شَرِّهِ إِلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَهْنَأُ لَهُ عَيْشٌ فِي يَوْمٍ لَا يُؤْذِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ تَأَذِّيًا بِحَمْلِ تِلْكَ السُّمِّيَّةِ وَالشَّرِّ الَّذِي فِيهِ، حَتَّى يُفَرِّغَهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَبْرُدَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنِينُهُ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا يُصِيبُ مَنِ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ إِلَى الْجِمَاعِ، فَيَسُوءُ خُلُقُهُ، وَتَثْقُلُ نَفْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ، هَذَا فِي قُوَّةِ الشَّهْوَةِ، وَذَاكَ فِي قُوَّةِ الْغَضَبِ.
وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ السُّلْطَانَ وَازِعًا لِهَذِهِ النُّفُوسِ الْغَضَبِيَّةِ، فَلَوْلَا هُوَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَتْ:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]
وَأَبَاحَ اللَّهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ لِهَذِهِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ مَا يَكْسِرُ حِدَّتَهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْغَضَبِيَّةَ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَحَلِّ الْقَابِلِ أَثَّرَتْ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا
يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ بِمُجَرَّدِ مُقَابَلَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ، فَمِنْهَا مَا يَطْمِسُ الْبَصَرَ، وَيُسْقِطُ الْحَبَلَ.

وَمِنْ هَذَا نَظَرُ الْعَائِنِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْمَعِينِ حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْمَعِينِ بِحَسَبِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ، وَكَوْنِهِ أَعْزَلَ مِنَ السِّلَاحِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَعِينِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، فَتَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وَتُقَابِلُهُ عَلَى الْبُعْدِ فَيَتَأَثَّرُ بِهِ، وَمُنْكِرُ هَذَا لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا بِالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِذَا قَابَلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْعَلَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي فِيهَا غَضَبٌ وَحَمِيَّةٌ لِلْحَقِّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ السُّمِّيَّةَ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَقَائِقِ الْفَاتِحَةِ وَأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي مَا ذُكِرَ عَلَى شَرٍّ إِلَّا أَزَالَهُ وَمَحَقَهُ، وَلَا عَلَى خَيْرٍ إِلَّا نَمَّاهُ وَزَادَهُ، دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بِمَا تَكَيَّفَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرَ تِلْكَ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَحَصَلَ الْبُرْءُ، فَإِنَّ مَبْنَى الشِّفَاءِ وَالْبُرْءِ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، فَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ، وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ، أَسْبَابٌ رَبَطَهَا بِمُسَبِّبَاتِهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ خَلْقًا وَأَمْرًا، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الْفَاعِلَةِ، وَقَبُولٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْمُنْفَعِلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَنْفَعِلْ نَفْسُ الْمَلْدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، وَلَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرَّاقِي عَلَى التَّأْثِيرِ، لَمْ يَحْصُلِ الْبُرْءُ.
فَهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ:
مُوَافَقَةُ الدَّوَاءِ لِلدَّاءِ، وَبَذْلُ الطَّبِيبِ لَهُ، وَقَبُولُ طَبِيعَةِ الْعَلِيلِ، فَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفَاءُ وَلَا بُدَّ بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَنْ عَرَفَ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي تَبَيَّنَ لَهُ أَسْرَارُ الرُّقَى، وَمَيَّزَ بَيْنَ النَّافِعِ مِنْهَا وَغَيْرِهِ، وَرَقَى الدَّاءَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الرُّقَى، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الرُّقْيَةَ بِرَاقِيهَا وَقَبُولِ الْمَحَلِّ، كَمَا أَنَّ السَّيْفَ بِضَارِبِهِ مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلْقَطْعِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهَا لِمَنْ دَقَّ نَظَرُهُ، وَحَسُنَ تَأَمُّلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ التَّجَارِبِ بِذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَفِي غَيْرِي أُمُورًا عَجِيبَةً، وَلَا سِيَّمَا مُدَّةَ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لِي آلَامٌ مُزْعِجَةٌ، بِحَيْثُ تَكَادُ تَقْطَعُ الْحَرَكَةَ مِنِّي، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ، فَأُبَادِرُ إِلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَمْسَحُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ الْأَلَمِ فَكَأَنَّهُ حَصَاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبْتُ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكُنْتُ آخُذُ قَدَحًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةَ مِرَارًا، فَأَشْرَبُهُ فَأَجِدُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْقُوَّةِ مَا لَمْ أَعْهَدْ مِثْلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
*************
فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِِ وَالنِّحَلِ، وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
وَهَذَا يُعْلَمُ بِطَرِيقَيْنِ، مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ:
أَمَّا الْمُجْمَلُ:
فَهُوَ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَإِيثَارَهُ، وَتَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَحَبَّتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَجِهَادَ أَعْدَائِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَالْحَقُّ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا فِي بَابِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَأَسْمَائِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَفِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَوْضَاعِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ.
فَكُلُّ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَقِيقَةٍ، أَوْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ نُبُوَّتِهِ، وَعَلَيْهِ السِّكَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ الْمَدِينَةِ، فَهُوَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَمَا ثَمَّ خُرُوجٌ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ:
طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ.
وَطَرِيقِ أَهْلِ الْغَضَبِ، وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَانَدَهُ.
وَطَرِيقِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
" الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْإِسْلَامُ ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
" هُوَ الْقُرْآنُ "، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
" طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ".
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ:
" طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَتَقْدِيمُهُ، وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ جَامِعَةٌ لَهُ.
فَبِهَذَا الطَّرِيقِ الْمُجْمَلِ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ فَبَاطِلٌ، وَهُوَ مِنْ صِرَاطِ الْأُمَّتَيْنِ:
الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَأُمَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين

قطوف من مدارج السالكين
*******************

فَصْلُ

وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ:
فَبِمَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَاشْتِمَالِ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ عَلَى إِبْطَالِهَا، فَنَقُولُ:
النَّاسُ قِسْمَانِ: مُقِرٌّ بِالْحَقِّ تَعَالَى، وَجَاحِدٌ لَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ إِثْبَاتَ الْخَالِقِ تَعَالَى، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ جَحَدَهُ، بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ.
وَتَأَمَّلْ حَالَ الْعَالَمِ كُلِّهِ، عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ:
تَجِدُهُ شَاهِدًا بِإِثْبَاتِ صَانِعِهِ وَفَاطِرِهِ وَمَلِيكِهِ، فَإِنْكَارُ صَانِعِهِ وَجَحْدُهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ بِمَنْزِلَةِ إِنْكَارِ الْعِلْمِ وَجَحْدِهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَلْ دِلَالَةُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَالْفَعَّالِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالصَّانِعِ عَلَى أَحْوَالِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ الْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْفِطَرِ الصَّحِيحَةِ أَظْهَرُ مِنَ الْعَكْسِ.
فَالْعَارِفُونَ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ وَصُنْعِهِ، إِذَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ بِصُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّنْعَةِ فَكَثِيرٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّانِعِ فَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ بِقَوْلِهِمْ لِأُمَمِهِمْ:
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]
أَيْ أَيُشَكُّ فِي اللَّهِ حَتَّى يُطْلَبَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهِ؟
وَأَيُّ دَلِيلٍ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْمَدْلُولِ؟
فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالْأَخْفَى؟
ثُمَّ نَبَّهُوا عَلَى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِمْ:
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14] .

وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ:
كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ
إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى أَظْهَرُ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ وُجُودِ النَّهَارِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ فَلْيَتَّهِمْهُمَا.
وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ بَطَلَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ وُجُودٌ قَدِيمٌ خَالِقٌ وَوُجُودٌ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ رَبٌّ وَعَبْدٌ، وَلَا مَالِكٌ وَمَمْلُوكٌ، وَلَا رَاحِمٌ وَمَرْحُومٌ، وَلَا عَابِدٌ وَمَعْبُودٌ، وَلَا مُسْتَعِينٌ وَمُسْتَعَانٌ بِهِ، وَلَا هَادٍ وَلَا مَهْدِيٌّ، وَلَا مُنْعِمٌ وَلَا مُنْعَمٌ عَلَيْهِ، وَلَا غَضْبَانُ وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، بَلِ الرَّبُّ هُوَ نَفْسُ الْعَبْدِ وَحَقِيقَتُهُ، وَالْمَالِكُ هُوَ عَيْنُ الْمَمْلُوكِ، وَالرَّاحِمُ هُوَ عَيْنُ الْمَرْحُومِ، وَالْعَابِدُ هُوَ نَفْسُ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ بِحَسَبِ مَظَاهِرِ الذَّاتِ وَتَجَلِّيَّاتِهَا، فَتَظْهَرُ تَارَةً فِي صُورَةِ مَعْبُودٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ فِرْعَوْنَ، وَفِي صُورَةِ عَبْدٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ الْعَبِيدِ، وَفِي صُورَةِ هَادٍ، كَمَا فِي صُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، فَحَقِيقَةُ الْعَابِدِ وَوُجُودُهُ أَوْ أَنِّيَّتُهُ:
هِيَ حَقِيقَةُ الْمَعْبُودِ وَوُجُودُهُ وأَنِّيَّتُهُ.

وَالْفَاتِحَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَضَلَالَهُمْ.
 
Comment

جاروط

مشرف القسم الاسلامي
الاشراف
إنضم
6 يناير 2022
المشاركات
17,346
مستوى التفاعل
10,138
مجموع اﻻوسمة
10
قطوف من مدارج السالكين
[فَصْلٌ وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ]
فَصْلٌ
وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَنْفِي مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، وَيَقُولُونَ: لَا مُبَايِنَ وَلَا مُحَايِثَ، وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا فِيهِ وَلَا بَائِنَ عَنْهُ.
فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِ، فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْمَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ بِالذَّاتِ، كَمَا بَايَنَهُمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، فَمَا أَثْبَتَ رَبًّا، فَإِنَّهُ إِذَا نَفَى الْمُبَايَنَةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لُزُومًا لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهُ الْبَتَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُهُ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يُبَايِنُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ أَهْلُ الْوَحْدَةِ، وَكَانُوا مُعَطِّلَةً أَوَّلًا، وَاتِّحَادِيَّةً ثَانِيًا.
وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا ثَمَّ رَبٌّ يَكُونُ مُبَايِنًا وَلَا مُحَايِثًا، وَلَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا، كَمَا قَالَتْهُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ لِلصَّانِعِ.
وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ: إِثْبَاتِ رَبٍّ مُغَايِرٍ لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ خَالِقٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا يَمْنَتَهُ وَلَا يَسْرَتَهُ فَقَوْلٌ لَهُ خَبِيءٌ، وَالْعُقُولُ لَا تَتَصَوَّرُهُ حَتَّى تُصَدِّقَ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ تَصَوُّرُهُ، فَاسْتِحَالَةُ التَّصْدِيقِ بِهِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ، وَصِدْقُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَضَعْ هَذَا النَّفْيَ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ عَلَى الْعَدَمِ الْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ ضَعْهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، الَّتِي لَمْ تَحِلَّ فِي الْعَالَمِ، وَلَا حَلَّ الْعَالَمُ فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْمَعْلُومِينَ أَوْلَى بِهِ؟
وَاسْتَيْقِظْ لِنَفْسِكَ، وَقُمْ لِلَّهِ قَوْمَةَ مُفَكِّرٍ فِي نَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، مُتَجَرِّدٍ عَنِ الْمَقَالَاتِ وَأَرْبَابِهَا، وَعَنِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، صَادِقًا فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ، فَالَلَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخَيِّبَ عَبْدًا هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ رَبٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، مُبَايِنٍ لِخَلْقِهِ، بَلْ هَذَا نَفْسُ تَرْجَمَتِهَا.
 
Comment

المواضيع المتشابهة

sitemap      sitemap

أعلى